دراسات فلسفية في الفكر الإسلامي المعاصر
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
ژانرها
العمل السياسي
ينقسم التراث إلى مجموعات ثلاث من العلوم: العلوم النقلية الخالصة، والعلوم النقلية العقلية، والعلوم العقلية الخالصة. ولكل منها أثره في العمل السياسي على درجات متفاوتة طبقا لمدى رسوخها في وعينا القومي. فقد عاشت العلوم النقلية والعلوم النقلية العقلية في وجداننا، وترسبت فيه بدرجة كبيرة، بينما اختفى أثر العلوم العقلية من وعينا القومي في حين أنها انتقلت، من خلال الترجمة، إلى وجدان الغرب، وساهمت في نهضته الحديثة، وكانت وراء تكوين الوعي الأوروبي بأبعاده الثلاثة؛ العقلي، والعلمي، والإنساني. (1) العلوم النقلية
العلوم النقلية الموروثة خمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. كل منها تحقق ثان للذي قبله، فالحديث تحقق ثان وتخصيص للقرآن وبيان لأوجه تطبيقه. والتفسير شرح للقرآن وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حوله. والسيرة تخصيص أكثر للحديث بإدخال حياة الرسول قبل البعثة بل وقبل الميلاد. أما الفقه فهو إعادة تبويب الحديث، حتى يكون سلوكا للناس جميعا؛ فهي كلها علوم مرتبطة بالوحي، ومتفاوتة بين أقصاها في العموم مثل القرآن وأقصاها في الخصوص وهو الفقه.
وقد رسبت هذه العلوم الخمسة في وجداننا وتراكمت في سلوك الناس على نحو سلبي أكثر منه إيجابيا. فعلوم القرآن ما زالت تتحدث عن رسم المصحف وشكله وجمعه وتدوينه، وعدد سوره وآياته، ونظمه، وهل البسملة جزء منه، وقراءاته، ولهجاته وهي كلها أشياء خارجية محضة، مرتبطة بظروف الوحي والإعلان عنه أول مرة، ولم نعد نحن قادرين على المساهمة فيها خاصة في القراءة والتدوين، فقد بعد العهد ولم يعد أحد منا معاصرا لنزول الوحي كما كان القدماء شاهدي عيان له. ولكننا نستطيع أن نجد دلالات معاصرة لبعض موضوعاته تساعد على حل بعض القضايا التي تعرض لنا ونحن بصدد موضوع التغير الاجتماعي أو العمل السياسي. فمثلا موضوع المكي والمدني هو بالنسبة لنا يدل على أن أي نسق مذهبي إنما يشمل بالضرورة قسمين: التصور والنظام، العقيدة والشريعة. فالمكي أعطى التصور والمدني استنبط النظام، فلا عقيدة إذن بلا شريعة، ولا شريعة بلا عقيدة، وبالتالي يحسم الخلاف بين الحركة الإسلامية والحركة العلمانية حول الإسلام دين ودولة، أم دين دون دولة، كما أن موضوع «أسباب النزول» إنما يعني بالنسبة لنا أن الواقع سابق على الفكر، وأن الوحي لا ينزل إلا بعد وقوع مشكلة اجتماعية تتطلب حلا لم يهتد إليه جل الناس أو اهتدى إليه البعض ببداهته وفطرته. فالواقع ينادي الفكر والفكر يفرض نفسه على الواقع. الهدف من الوحي هو حل المشاكل الاجتماعية وليس غطاء معرفيا نظريا للعالم، معرفة من أجل المعرفة. وهذا ما يعطي فكرنا الديني السياسي المعاصر نموذجا ومنهجا. فلا يقرأ الوحي إلا من خلال المشاكل الاجتماعية، ولا نصائح نظرية سياسية إلا من خلال المواقف الإنسانية والتحديات الأساسية التي تواجه كل مجتمع. أما الناسخ والمنسوخ، فإن له أيضا دلالة حديثة فيما يتعلق بالزمان والتطور، وإعادة صياغة التشريعات والقوانين طبقا للقدرات الإنسانية. فلا جمود في التشريع، وأن القانون وضع لصالح الإنسان، وليس الإنسان لصالح القانون.
أما «علوم الحديث» فقد أتقن القدماء مناهج الرواية وفصلوا في طرقها من أجل التحقق من صحة الحديث من خلال السند. وأسسوا لذلك علوما مساعدة مثل علم الجرح والتعديل أو علم ميزان الرجال. أما نحن فقد بعد علينا العهد، ولم نعد في مثل قدرة القدماء في التعرف على الرواة. ولكننا قادرون على نقد «المتن» وتحكيم الحس والعقل والمصلحة في الرواية، خاصة وأن من شروط التواتر الاتفاق مع الحس ومجرى العادات. وبالتالي يخف أثر الأحاديث «الغيبية» عن النفوس، وكل ما يعارض العقل، ويناهض المصلحة. فنفرض واقعنا على الرواية، وبالتالي نكون قد قدمنا نقد المضمون كما قدم القدماء نقد الشكل، فكثير من الأحاديث تؤثر في حياتنا السياسية مثل حديث «الفرقة الناجية» الذي يكفر كل اجتهادات الأمة ولا يقبل إلا رأيا واحدا هو رأي السلطة القائمة التي تمثل «الفرقة الناجية».
و«علوم التفسير» في حاجة أيضا إلى إعادة نظر، ليس المطلوب هو التفسير «الطولي» للقرآن، جزءا بعد جزء، حزبا إثر حزب، سورة بسورة، وآية بآية، وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات «التاريخية» عن الحوادث والشخصيات التي يتعرض لها القرآن، فليس الوحي حوادث بل معان، وليس وقائع بل ماهيات. كما أن التفسير الطولي تجزئة للموضوع الواحد، وبعثرة لبنائه، إنما الذي يفيد في العمل السياسي هو البحث عن المعاني والدلالات، وتعميمها في كل عصر، وليس الوقائع التاريخية المحددة. كما أن المفيد هو التفسير الموضوعي الذي يجمع الآيات كلها حول موضوع واحد؛ مثل المساواة، المال، العدل، الظلم، الحكم، الأمة، الوحدة؛ حتى يمكن التعرف على نظريات التراث التي ما زالت تفعل إيجابا أم سلبا في وجدان الناس. ولا تفسير إلا من خلال مصالح الأمة، وهو التفسير الأصولي لا الكلامي أو الفلسفي أو الفقهي أو الصوفي أو اللغوي أو الأدبي. فقد أتى الوحي حفاظا على مصالح الناس. ومن ثم يقرأ القرآن من خلال مصالح الناس، وترى مصالح الناس داخل السور والآيات. وبالتالي ينشأ تفسير سياسي اجتماعي اقتصادي يكون هو البديل عن الأيديولوجية العلمانية.
1
أما علوم «السيرة» فإنها تتعرض لشخص النبي، ولكل جوانب حياته، ما قبل الميلاد، وما قبل البعثة، وربما ما بعد الموت. وبالتالي «تشخص» الوحي في النبي مع أن النبي مجرد وسيلة لإبلاغ الوحي. وربما كان هذا هو سبب التشخيص في حياتنا السياسية، تحول الحكم إلى شخص، والمبدأ إلى سيرة، والفكرة إلى زعامة. فلا فرق بين الاحتفال بالمولد النبوي وبين الاحتفال بميلاد الملك، فكلاهما تشخيص للأعياد الوطنية. تتشخص المؤسسات الاجتماعية والسياسية، بل وتتشخص دول بأكملها، فهذه دولة الحسن وهذه دولة الحسين، وتضيع الأمم. خاصة وأن السيرة فيها الغيبي المعجز وفيها العقلي البديهي، والأول هو الذي يشد انتباه العامة. لذلك، أصبح الزعيم السياسي أيضا معجزا في أقواله وأفعاله، معصوما في أخطائه، يتعبده الناس أو كادوا.
أما علوم «الفقه» القديمة فإن طابع العبادات هو الغالب عليها؛ نظرا لقرب عهدها بالدين الجديد وشعائره. ولكن بعد أن استقرت وعرفت ومارسها الناس لم تعد الأركان الخمسة محور الفقه، أي العبادات، بل المعاملات في الزراعة والصناعة والتجارة، وفي الأجور والقيمة والاستثمار. فأثر الفقه القديم في العمل السياسي بأن ترك الحركات الدينية تصول وتجول في العبادات، وتترك المعاملات وكأنها خارج نطاق الاهتمام. فتركت موضوعات الأرض والزراعة والعمالة والأجور يفعل فيها الحكام ما يشاءون، وتقترح فيها المذاهب العلمانية ما تريد. أما الفقه الافتراضي القائم على افتراض حالات لم تقع فإنه حول الشريعة إلى مجرد احتمالات وخيالات لا واقع لها، وضاع منها لبها وجوهرها وهو واقعيتها. فوصية إنسان بين أنياب الأسد، أو طلاق امرأة إذا جامعها زوجها في ثوبها وإن لم يجامعها في ثوبها، أو حكم بيضة من فرخة جامعها رجل، قضايا يتبارى فيها الفقهاء في وقت تحتل فيه الأرض، وتنهب فيه الثروات، وتفتت فيه الأمة، وتقهر فيه الحريات.
وربما تحتاج العلوم النقلية كلها إلى تطوير بحيث تصبح علوما نقلية عقلية أو حتى عقلية خالصة؛ حتى يضيع أثر النقل من حياتنا ويتحول إلى العقل، وتضيع حجة السلطة ويسود المنطق والبرهان. (2) العلوم النقلية العقلية
صفحه نامشخص