دراسات فلسفية في الفكر الإسلامي المعاصر
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
ژانرها
18
لقد بدأت الفلسفة عند الكندي والرازي تفكيرا على العلم بالأساس؛ أي العقل في مواجهة الطبيعة. ثم انحرفت بمؤامرة داخلية لضربها وأصبحت فلسفة إشراقية؛ تأملا في النفس وانعراجا إلى الله عند الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا والشيعة وامتدادها عند ابن باجة وابن طفيل، ثم عادت من جديد نحو العقل والطبيعة عند ابن رشد. هناك إذن نموذجان: الأول الفلسفة العقلية الطبيعية التي ميزت البداية والنهاية والتي هي أشبه بالرأس والقدمين، ونموذج الفلسفة الإشراقية التي احتلت الوسط والتي هي أشبه باندفاع البطن الذي في حاجة إلى دواء ليعود التناسق إلى الجسم الفلسفي. وهو نفس التمايز في علم أصول الدين بين الأصول الإنسانية العقلية الطبيعية عند المعتزلة، والأصول الإلهية عند الأشاعرة.
وبالرغم من بعض الظواهر السلبية في الفلسفة والتي كانت نتيجة طبيعية لروح الحضارة القديمة مثل المنطق الصوري، والعقل التبريري، والمعرفة الإشراقية، ونظرية الفيض، والطبيعيات الإلهية، وثنائية الطبيعية، وعلم أحكام النجوم، والضرورة الكونية، وأولوية الفضائل النظرية، والتصور الهرمي للدولة؛ إلا أنها استطاعت تطوير الفكر الديني، واحتواء الحضارات المجاورة، والانتقال من النقل والشرح والتلخيص إلى العرض والتأليف، وصياغة لغة جديدة، ووضع تصور شامل، والإحاطة بكل العلوم القديمة في علم موسوعي شامل، ثم إثبات الحقائق الفلسفية العامة التي تتفق عليها البشرية جمعاء والتي تصل إليها كل حضارة؛ مثل الله كمبدأ عام شامل يظهر في فعل الخير والإتيان بالعمل الصالح، وإثبات خلق العالم من أجل الفعل فيه، وعدم الحرج من القول بقدمه ردا لاعتباره، وخلود النفس الفردية من خلال العقل الكلي.
19
كان للفلسفة دور ووظيفة ورسالة وكانت لها إنجازات تجعلنا نتساءل: ما هي وظيفة الفلسفة اليوم وما دورها وما رسالتها، وما هي الإنجازات التي قدمتها؟
سابعا: البنية الثلاثية للفلسفة :
غياب الإنسان والتاريخ
بدأ التأليف عند الكندي واستمر عند الفارابي في موضوعات متفرقة حتى وصل الأمر إلى ابن سينا فوضع لها بنية ثلاثية: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات. وقد انتقلت هذه البنية إلى العصر الوسيط الأوروبي، بل وإلى العصور الحديثة حتى هيجل الذي اجتمعت فيه فلسفات العصر الوسيط والعصور الحديثة على السواء، خاصة في «الموسوعة الفلسفية». ولقد انتقلت هذه البنية الثلاثية إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة مع تحول جديد إلى نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية القيم؛ إجابة على أسئلة ثلاثة: كيف أعرف؟ وماذا أعرف؟ ماذا آمل؟ وقد نشأ كل ذلك في البداية من الموضوعات الرئيسية الثلاثة في علم أصول الدين: نظرية العلم، ونظرية الوجود، والإلهيات، بالإضافة إلى النبوات (السمعيات).
فإذا سألنا: هل للفلسفة لدينا الان بنية؟ لكانت الإجابة حتما بالنفي. والفلسفة بدون بنية مجرد تأملات في موضوعات متفرقة كما كانت الفلسفة القديمة في بداياتها عند الكندي والفارابي. وإذا سألنا: هل الفلسفة لدينا الآن، وهي في مرحلة البدايات؛ أي التفكير المتناثر المشتت في موضوعات متفرقة علمية ورياضية وإنسانية عامة، مرحلة تمهيدية لمرحلة أخرى تالية تتحول فيها الفلسفة من تفتت المسائل إلى وحدة الموضوع؟ لكانت الإجابة أيضا بالنفي، بالرغم مما يكون في هذه الإجابة من مصادرة على المستقبل، وحرية حركاته وإمكانات إبداعه.
فالمنطق، بالرغم مما يبدو عليه من صورية وتقليدية، منطق قضايا وأشكال، إلا أنه قد تم تركيبه بناء على تصور الحضارة الجديدة. فالمنطق بالنسبة للفكر عند ابن سينا يعادل الوحي بالنسبة للعقل، كلاهما يعصمان من الخطأ. وينقسم المنطق إلى منطق صواب وهو البرهان، ومنطق خطأ وهو الجدل والسفسطة، كما ينقسم منطق الوحي إلى يقين وظن، وبالتالي سهل إدخال مادة المنطق الوافدة في تصور الحقيقة الجديدة. فمنطق اليقين هو البرهان، ومنطق الظن هو الجدل والسفسطة.
صفحه نامشخص