دراسات فلسفية في الفكر الإسلامي المعاصر
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
ژانرها
وما إن أتى القرن التاسع عشر حتى بدأ الخصام من جديد بين التيارين المتباعدين، كل واحد يحاول أن يجعل نفسه نمطا لعلوم الإنسان. وظلت الظاهرة الإنسانية متأرجحة بين نمط العلوم الرياضية العقلية تارة، وبين نمط العلوم الطبيعية الحسية تارة أخرى. فنشأت أزمة العلوم الإنسانية، وضرورة صياغة مناهج مستقلة لها؛ حلا لأزمة الصورية والوضعية، وحلا للخلط بين المستويات كما ظهر في السيكوفيزيقا. وهنا ظهر الطريق الثالث، طريق فلسفات الحياة: برجسون، وهوسرل، وشيلر، ودلتاي وغيرهم. كما ظهر فلاسفة الوجود رافضين رفع الوجود الإنساني إلى ما هو أكبر منه وهو العقل، أو حتى رده إلى ما هو أقل منه وهو المادة. أصبح العقل الأوروبي منقسما إلى ثلاثة اتجاهات: فلسفة روح، وفلسفة طبيعة، وفلسفة وجود. وضاعت وحدته الداخلية. وتصارعت فيه المذاهب كلها، كل منها يدعي أنه الحقيقة الكاملة. وحكمها قانون الفعل ورد الفعل، وأخذت العقلية الأوروبية هذا الطابع التقسيمي التجريبي، وصدرته خارجها فقضت على وحدة العقل، خارج الوعي الأوروبي، لدى الشعوب غير الأوروبية.
2
فإذا ما أخذنا هذا الموقف من التراث الأوروبي، ووصفنا الوعي بناء وتطورا على هذا النحو حدث التالي: (1)
السيطرة على الوعي الأوروبي، واحتواؤه بداية ونهاية، نشأة وتكوينا، وبالتالي يقل إرهابه؛ لأنه ليس بالوعي الذي لا يقهر. ويتحول الدارس إلى مدروس، والذات إلى موضوع، وبالتالي لا نصبح ضائعين فيه؛ إذ يمكن للإنسان أن يراه مرة واحدة، وأن ينظر إليه من أعلى بدلا من أن يقبع أسفل منه ويكون السؤال: من الذي سيأخذ الريادة الآن؟ (2)
دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخ وليس خارج التاريخ. صحيح أنه تاريخ تحرر على مراحل لا يمكن القفز عليها أو تجاوز مراحلها المتوسطة، لكنه مع ذلك تجربة بشرية ومسار حضاري مثل غيره من التجارب. إنه ليس التجربة الوحيدة أو المسار الحضاري الأوحد. بل هو أحد مراحل تاريخ الوعي الإنساني الطويل ابتداء من مصر والصين وحضارات الشرق القديم. (3)
رد الغرب إلى حدوده الطبيعية وإنهاء الغزو الثقافي، وإيقاف هذا المد الذي لا حدود له، وإرجاع الفلسفة الأوروبية إلى بيئتها المحلية التي منها نشأت حتى تظهر خصوصيتها التي أمكن تعميمها من خلال الاستعمار والسيطرة وأجهزة الإعلام، في لحظة ضعف الأنا، وتقليده للأجنبي، واقتصار تحرره على الأرض دون الثقافة. (4)
القضاء على أسطورة الثقافة العالمية واكتشاف خصوصيات الشعوب، وأن لكل شعب نمطه الحضاري الخاص ووعيه المتميز، بل وعلومه الطبيعية وتقنيته الخاصة كما هو الحال في الهند والصين وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتطبيق مناهج علم اجتماع المعرفة والأنثروبولوجيا الحضارية على الوعي الأوروبي ذاته. (5)
إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية، وتحريرها من هذا الغطاء الذهني، وهذه البنية العقلية؛ حتى تفكر الشعوب بعقلياتها الخاصة وأطرها المحلية، فتتعدد الأنماط، وتتنوع النماذج. فليس هناك نموذج واحد لكل الشعوب، وتصير العلاقات بين الحضارات علاقات متبادلة وليست علاقات ذات اتجاه واحد. (6)
القضاء على عقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة للغرب، وقيامها بإبداعها الخلاق بدلا من أن تكون مستهلكة للثقافة والعلم والفن، فتصير قادرة على التفوق على غيرها. وقد يتحول مركب النقص إلى مركب عظمة صحي يساعد على الخلق والإبداع. (7)
إعادة كتابة التاريخ بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة في حق الشعوب بدلا من النهب الأوروبي لثقافات العالم، واكتشاف دور الحضارات التي ساهمت في تكوين حضارة الغرب وضرب الغرب حولها مؤامرة الصمت، ولكن دون أن يكون الغرب هذه المرة، وبموضوعية تاريخية، مركز الثقل في العالم فيه تصب كل الحضارات؛ إذ سيعطى لكل حضارة دورها في الريادة. (8)
صفحه نامشخص