دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
ژانرها
من قبل أنه لم تنتصر أية جماعة أو أي مبدأ أو أية فكرة أو أية طبقة اجتماعية على نحو مطلق، ولم تحسم المعركة لصالح أحد في الوعي الأوروبي. وهذا هو السبب في أنه في تطور دائم وفي تقدم مستمر. إنما قد يخف الدافع، ويبطؤ المسار حتى ينتهي إلى التوقف التام بعد الانتهاء إلى الحيرة والشك وتكافؤ الأدلة وعدم الاستقرار والتطرف وأحادية النظرة والتجزئة.
ويركز أورتيجا على موضوع الوحدة والتنوع في الوعي الأوروبي متسائلا: هل الشعور الأوروبي وحدة متجانسة أم شتات من قوميات متعددة؟ يرى أورتيجا أن الشعور الأوروبي حقيقة متجانسة مهما اختلفت الظروف التي تكتنف بوحداته الصغرى كما تبدو في القوميات. الشعور الأوروبي حقيقة واقعة أو ظاهرة ملموسة تتميز بخصائص فريدة أهمها التنوع في الوحدة والوحدة في التنوع، وذلك كوحدة الدين المسيحي وتنوع نظام الكنائس ووحدة الإمبراطورية الرومانية وتعدد شعوبها، وكوحدة العقل الخالص وتنوع الأنساق الرياضية، ووحدة الفلسفة وتعدد مذاهبها، ووحدة شعوب أمريكا اللاتينية بالرغم من تعدد لهجاتها، ووحدة الشرق وتنوع الدول الشرقية. وهذا ما لم تدركه فلسفة التنوير التي تصورت العالم كله إنسانية واحدة متجانسة عاقلة، حرة ومستقلة. ولم تستطع الحروب الطاحنة بين الشعوب الأوروبية النيل من وحدتها وتجانسها. فلكل شعب أوروبي خاصيتان؛ الأولى: عبقريته الخاصة المتمايزة عن عبقرية الشعب الآخر، والثانية: اشتراكه في خصائص عامة تجمعه مع باقي الشعوب. فأوروبا أمة
Nation
مكونة من عدة شعوب
peuples
على ما لاحظ مونتسكيو من قبل. الوحدة المتجانسة مصدر قوة وباعث حركة، والتنوير والتعدد مصدر خلق وإبداع وتخصص وتفرد. أوروبا حقيقة اجتماعية أولا قبل أن تكون حقيقة تاريخية، أي مجموعة من العادات والنظم والتقاليد تكون مجتمعا واحدا دون أن يكون بالضرورة مترابطا اجتماعيا. المجتمع موجود طبيعي. أما الترابط الاجتماعي فاصطناعي بناء على عقد إرادي. ولا يوجد الترابط الاجتماعي قبل أن يوجد المجتمع المترابط. القانون نتاج طبيعي للمجتمع وليس سابقا عليه. فأورتيجا من أنصار الحق الطبيعي مثل هيجل لا من أنصار العقد الاجتماعي عند اسبينوزا وروسو. يتكون المجتمع الأوروبي من دول، وكل دولة ممثلة في سلطة تعبر عن الرأي العام. هناك رأي عام أوروبي وإن لم توجد دولة أوروبية. قد تكون الدول الأوروبية المتحدة محض خيال ولكن وحدة المجتمع الأوروبي موجودة بالفعل كما هو الحال في الأمة الإسلامية التي تجمع وجدانيا وفكريا وعقائديا وتنظيميا وتشريعيا الدول الإسلامية. ويقول أورتيجا إنه بالرغم من أنه قاوم المثالية طيلة حياته وكرهها إلا أن الواقعية التاريخية تثبت أن وحدة أوروبا ليست مثالا بل واقعة قديمة جدا في الحياة اليومية مثل ضفائر الصيني عندما تطل من وراء الأورال أو «المجمع» الإسلامي! إن الدولة الأوروبية التي تتجاوز حدود الأوطان هو تصور يرجع إلى طريقة الإدراك اليوناني الروماني التي لا تستطيع أن ترى إلا الوقائع الثابتة لا الوقائع المتحركة. أما التصور الأوروبي فإن الأشياء فيه قوى كامنة تكشفها وتكون حقيقتها. والسلطة العامة الأوروبية قوة حركية تحكمها قوانين الميكانيكا وأهمها قانون توازن القوى. وبهذا المعنى تكون هناك وحدة أوروبية سلطتها العامة ميزان تعادل القوى والذي يرجع الفضل في وجوده إلى هذه الخاصية، الوحدة والتنوع في الوعي الأوروبي. وما قاله أورتيجا عن أوروبا كميزان للقوى قاله فيشته من قبل على ألمانيا كتوازن للقوى بين شرق أوروبا وغربها بوجه خاص، وبين الشرق والغرب بوجه عام.
ويكثر أورتيجا من الحديث عن أوروبا والغرب كمترادفين ولو أن الحديث عن أوروبا أكثر من الحديث عن الغرب وإن كانت المجلة التي أسسها عنوانها «مجلة الغرب». ويشعر بأوروبيته شعوره بإسبانيته إن لم يكن أكثر. ويتضح ذلك صراحة في كثرة استعماله لألفاظ مثل فلسفتنا، عصرنا، جيلنا، حضارتنا، تاريخنا ... إلخ. هناك شعوب أوروبية وأخلاق أوروبية ، وأعراف أوروبية، وعلم أوروبي، وقانون أوروبي ... إلخ. وفي داخل أوروبا يكثر من الحديث عن فرنسا وإنكلترا وألمانيا وإسبانيا. ويشخص كل دولة أوروبية في ثقافتها ثم يشخص ثقافتها في أهم علم فيها جسد روحها وعبر عن شخصيتها؛ هوجو في فرنسا، وشكسبير في إنكلترا، وجوته في ألمانيا، وسرفنتس في إسبانيا، والإنسانية جمعاء في بلاد ما بين النهرين! وهنا تبدو سخرية أورتيجا من النظريات العامة والمثاليات غير المشخصة والتي يصفها بالديماغوجية.
ويبدو أن أورتيجا قد وقع ضحية المركزية الأوروبية
Eurocentrisme . ففي «ثورة الجماهير» تتردد ألفاظ أوروبا، وأوروبي، والمغرب، وإسبانيا، وفرنسا، وإنكلترا، وأمريكا، وروما، واليونان عشرات المرات.
4
صفحه نامشخص