دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
ژانرها
أما النوع الثاني من الاعتراضات التي يوجهها العقل ضد نفسه في محاولته تفسير الكتاب تفسيرا عقليا، فإن كانط يذكر منها أربعة، وهي: (1)
إن الوحي يفسر بذاته، وليس بالعقل، لأن أساس هذه المعرفة ليس عقليا. ويرد كانط على هذا الاعتراض بأنه لذلك السبب بعينه لا بد من استعمال العقل؛ لأن الوحي لا يتأسس في التاريخ أو في التجربة بل في العقل. (2)
لما كان النظر يسبق العمل، وكان الوحي متضمنا الإرادة الإلهية، فإن البداية بالعقل، أي النظر في موضوع الإرادة أي العمل خطأ وشك في الإرادة. وفي رأي كانط إن هذا الاعتراض صحيح فيما يتعلق بإيمان الكنيسة ولكن ليس فيما يتعلق بالإيمان الديني الذي يقوم على الاعتقاد بالحقيقة. (3)
كيف يمكن أن يقال للميت: «قم وسر» إن لم يصاحب هذا القول، إذا تحقق، قوة خارقة للعادة، لا شأن للعقل بها؟ ويرى كانط أن هذا النداء موجه أيضا للعقل. ويشير إلى المبدأ الترنسندنتالي للحياة الخلقية، أي إمكانية الحياة الخلقية بفعل الإرادة. ويبدو أن كانط هنا يستعمل مصطلحه الشهير لتبرير وقوع المعجزات. (4)
إن الإيمان بوسيلة مجهولة يتعلق بها مصيرنا يقوم على علة نعترف بها مجانا، إشباعا لحاجة نشعر بها، ولا دخل للعقل في ذلك. ويعترف كانط بصحة ذلك، ولكن من الأفضل تأسيسه على فكرة قبلية على الأقل من الناحية العملية.
ويعود كانط من جديد إلى موضوع وحدة الدين وتعدد الفرق والمذاهب والنحل والملل. ليس هناك إلا دين واحد، أما الفرق فتنشأ من إيمان الكنيسة، وتقوم على التراث والكتاب. ولا يهم الإحصاء التاريخي للفرق، مثل: اليهودية، والمسيانية، والمسيحية الشعبية، والمسيحية الخاصة، بل قسمتها قبليا. ويكون مبدأ القسمة حينئذ إما الدين وإما الخرافة أو الوثنية. وهو مبدأ عقلي مثل «ألف» تعارض «لا ألف». والذين يعتقدون بالمبدأ الأول هم المؤمنون، والذين يعتقدون بالمبدأ الثاني هم الكافرون. الإيمان هو وضع الأخلاق والتقوى في الدين، والكفر إخراجهما منه لأنه لا يعترف بوجود كائن ترنسندنتالي خلقي، أي لا يعترف بالأخلاق ذاتها. كل إيمان مرتبط إذن قبليا بالأخلاق، وهو الإيمان الباطني، وإن لم يرتبط، فإنه يكون الإيمان كما تصفه الكنيسة؛ وبالتالي يكون وصف الكنيسة بأنها شاملة تناقضا لأن الشمول يتضمن الضرورة، وهما صفتان للعقل؛ وبالتالي صفتان للإيمان الباطني. إن كل إيمان كنسي يطرح عقائد منظمة على أنها عقائد دينية، يحتوي على قدر من الوثنية، أي وضع العرضي في الجوهري. والذين يقومون على هذا الإيمان هم رجال الدين. وربما تحول إيمان البروتستانت أيضا إلى هذا الإيمان. وهنا يبدو كانط مصلحا للبروتستانتية أيضا محذرا إياها من الوقوع في الإيمان العقائدي، بعد أن كانوا مؤسسي الإيمان الباطني. تنشأ الفرق الدينية أو الطائفية من سلطة الإيمان الكنسي على الإيمان الباطني، فيتفرق الناس شيعا ومذاهب، ويتركون الإيمان الباطني الذي يقوم على العقل والضمير. وتكون النتيجة الفتنة والفرقة والتمرد والعصيان، ليس ضد المضمون بل ضد الشكل. وكلما قوي التسلط كثر التعدد والتفرق، فتنشأ فرق أخرى علنية أو سرية مع الدولة أو ضدها، أو تظهر وسائط أبعد ما تكون عن الدين ومصلحة المجتمع، مثل مشايخ الطرق والأنبياء الكذبة ؛ ومن ثم الابتعاد عن الأخلاق، والدين الباطني. الفرق هي السبب في وجود ديانات متعددة في الدولة، كما أن الإيمان الكنسي هو السبب في وجود هذه الفرق. وترك هذه الفرق والديانات للشعب دليل على حرية الضمير والاختيار الحر. وهذا ثناء على الحكومة التي تسمح للشعب بمثل هذه الحرية وهذا الاختيار، ولكن ذلك مضر بالدين؛ لأنه خال من الوحدة والشمول. ولماذا يكون هناك خلاف على الوسائل دون الاتفاق على الغاية، وخلاف على الصورة دون الاتفاق على المضمون؟ إن وحدة الدين ممكنة إذا أخذنا في الاعتبار الغاية والجوهر والمضمون بين الطوائف والفرق الدينية المختلفة، وتركنا الوسيلة والصورة والعرض. ويمكن لليهود أيضا أن يجدوا وحدة الدين لو تركوا كل أشكال الدين السحري القديم، تركوا «الملابس بلا إنسان»، وأخذوا «الإنسان بلا ملابس»، أي تركوا «الكنيسة بلا دين»، وأخذوا «الدين بلا كنيسة». بل يستطيع اليهودي أن يؤمن بالمسيحية، ويؤول التوراة والإنجيل، ويفرق بين المسيح اليهودي وهو يخاطب اليهود والمسيح الذي يخاطب البشر جميعا، كمعلم للأخلاق. ويبدو كانط هنا مبشرا بالمسيحية الخلقية لدى الطوائف الأخرى، وفي مقدمتهم الطائفة اليهودية.
وتأييدا لهذا التصور وهو «وحدة الدين باعتباره غاية في قلب كل إنسان»، يصوغ كانط القضية من جديد في صورة عرض المشكلة، وإيراد الحل، ثم ذكر البرهان من داخل البروتستانتية وحدها، وبوجه خاص مذهب التقوى أو القنوط الذي نشأ فيه كانط. فالمشكلة التي وضعها شبنر
Spener (1635-1705م) هي أن الوعظ الديني يجب أن يحولنا إلى آخرين، وليس فقط إلى ذوات أفضل. وقد عارضت الأرثوذكسية هذا الرأي بالرغم من أنه يعبر عن مشكلة قائمة بالفعل، أي قدرة الإيمان الباطني على أن يحولنا إلى الآخر، وليس فقط على تحسين الذات. وهناك حل صوفي لهذه المشكلة يأتي من خارج الطبيعة الحسية. ثم يظهر في العاطفة الإنسانية بطريقين؛ عصر القلب، أو كما يقول صوفيتنا القدماء «القبض»، أو انفراج القلب، أو «البسط». الأول للتخلص من الشر والثاني للتمتع بالخير؛ لذلك ظهرت في البروتستانتية فرقتان؛ «مذهب التقوى» عند شبنر وفرانكه
Franke (1633-1727م)؛ و«المورافية» عند زنزندورف
Zinzendorf (1700-1760م ). يرى الأول أن التمييز بين الخير والشر والخلاص من الشر يتم بقوة تأتي من خارج الطبيعة، وأن التحول من الشر إلى الخير يتم بمعجزة تحدث في الصلاة الحية، أو في انفعالات الحزن والخوف، كما كان الحال عند هامان (أشهر ساحر في شمال ألمانيا). ويرى الثاني أن الخلاص من الشر يتم عن طريق وعي الإنسان بخطئه، واتجاهه نحو الكمال، ومعرفة ذلك بالعقل. وتكون وظيفة القانون الخلقي في هذه الحالة أن يعكس له نقصه، ويؤهله للخير. فإذا ما تحقق ذلك تكون المعجزة قد تحققت. وكلا المذهبين اتجاه صوفي فردي روحي يعتمد على الشروط الذاتية والفضل الإلهي؛ الأول في صراعه الرهيب مع الشر، والثاني باستلهامه روح الخير. أما كانط فإنه يقوم في النهاية بعرض برهانه الذي يقوم على استبعاد كل ما يأتي من خارج الطبيعة، وكأن ما يأتي من التجربة والعاطفة والأحلام، لأن فكرة الله لا توجد إلا في العقل. إنما البرهان الوحيد هو الإنسان، ممثل الإنسانية، الجدير بعدم الشك في إنسانيته، ووعيه بأنه خاضع للقوانين الخلقية المؤسسة في العقل لأن طاعة هذه القوانين مطابقة للنظام الطبيعي وللعقل الخالص. فالبرهان هو ما ينبغي أن يكون، وليس ما يأتي من خارج الطبيعة الحسية، هو الاستعداد الخلقي الداخلي للإنسان والذي لا يفصله عن إنسانيته، ويكون موطن الإعجاب فيه. وعلى هذا النحو يتجاوز كانط العيبين الرئيسين: الأرثوذكسية بلا روح، والتصوف القاتل. إنما البرهان الوحيد هو الإيمان الذي يقوم على النقد والعقل العملي، وهو القار في قلوب البشر، والدافع لهم نحو الكمال، والمنظم للكنيسة الشاملة غير المرئية. وليس من خطورة في استعمال الحكومة لمثل هذا الإيمان، كما تفعل مع الإيمان الكنسي لأن الإيمان الباطني لا يتحول إلى إيمان كنسي بل مجرد حالة فردية لا يمكن للحكومة أن تضع يدها عليها، وتفتش في ضمائر الناس.
صفحه نامشخص