دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
ژانرها
16
وقد ارتبطت الفلسفة في تراثنا القديم بمثل هذا اللون من الفكر السياسي والاجتماعي، وظهر بصورة واضحة في علوم الفقه والشريعة أكثر مما ظهر في علوم الحكمة، ولكنه لم يكن فلسفة بالمعنى النظري بل تكييفا للسلوك العملي وتنظيما للحياة العامة. كما ارتبط فكرنا الإصلاحي الأخير بهذا اللون من التفكير السياسي والاجتماعي حتى أصبح هو الغالب على فكرنا القومي، فالتيارات الفكرية الثلاثة في فكرنا المعاصر: الديني والعلماني والقومي، كلها بدأت من الإصلاح والنهضة وتغيير الواقع الاجتماعي، وأعطت الأولوية للعلوم العملية على العلوم النظرية، وحاولت الدعوة إلى تأسيس علوم اجتماعية تنهض بحال الأمة وتعينها على النهضة.
17
ومع ذلك فإن اعتبار الفلسفة تفكيرا في المجتمع وبحثا في علومه يجعلها باستمرار وراء أحداث العصر غير قادرة على تجاوزها. فالعصر إحدى لحظات التاريخ ، والمجتمع إحدى حلقاته، والفلسفة وحدها هي القادرة على رؤية قوانينه الثابتة؛ لذلك ارتبطت الفلسفات الاجتماعية بفلسفات التاريخ، الفلسفة هي القادرة على إدراك الثبات من خلال التغير والماهيات المحمولة على الواقع؛ وبالتالي يظل السؤال النظري مطروحا حتى في خضم أحداث التاريخ. (7)
الفلسفة تحليل للتجارب البشرية لمعرفة ماهيتها. وهي تجارب العصر التي تظهر من خلال وعي الأفراد والجماعات بها. وتشترط الوعي اليقظ القادر على تحويل الوقائع إلى تجارب حية دالة يمكن إدراك ماهياتها بالحدس. كما تتطلب قدرة العقل على تحليل الشعور وإدراك المعاني الشاملة فيه؛ ففي الشعور يعمل العقل، وفي التجربة يعيش الواقع، وكلاهما يكونان وعي الإنسان بنفسه وبالعالم. كما تتطلب القدرة على التخلص من الأفكار المسبقة والآراء المنحازة، ووجهات النظر الخاصة، والتحرر من العادات والعرف والتقاليد والأفكار الموروثة حتى يبدأ الشعور العاقل أو العقل الشعوري عملية الإدراك والفهم بداية جديدة على يقين أولي هو الوعي بالذات وبالعالم. وفي الوقت نفسه يكون الشعور قادرا على قلب النظرة ورؤية الماهيات في التجارب الشعورية التي تعيش فيها الوقائع؛ وبالتالي تنتقل الوقائع المادية من المكان إلى تجارب حية في الشعور الداخلي بالزمان. ولما كان الشعور عاما وشاملا فإنه قادر على إدراك الماهيات الشاملة. ولما كان موضوعيا بلا تحيز أو هوى أمكن لشعور آخر إدراك نفس الماهيات، ويكون الاتفاق على الإدراك هو الموضوعية الإنسانية الجديدة أي الوصول إلى نفس الرؤية من فلاسفة عديدين؛ ومن ثم كان الشعور قادرا أيضا على البحث الحر واستقصاء الموضوع، ورؤية الواقع وعيش التجارب، وطرح وجهات النظر وتجريبها ثم جمعها في رؤية واحدة تكون متحدة مع الموضوع ذاته. ويشتد الشعور وينشط بالانتماء إلى وطن، والانتساب إلى جماعة، والولاء لقضية، والسعي نحو مثل أعلى وتحقيق رسالة، وعلى هذا النحو يخرج الشعور من دائرة التأمل الخالص وتحليل الماهيات إلى العالم الإنساني العريض حيث يتم تحويل الماهيات إلى أوضاع اجتماعية ومواقف إنسانية ووعي بالجماهير ومشاركة في حركة التاريخ. فالتاريخ واقع يحيا ، والواقع تاريخ حادث؛ وبالتالي ترتبط الفلسفة بالوعي الفردي والاجتماعي والتاريخي. لا تلعب دور أجيال مضت لتعيد التاريخ إلى الوراء، ولا تلعب دور أجيال قادمة لتقفز على مراحل التاريخ، ولكن تقوم بدور جيلها الحاضر معبرة عن روح العصر ورؤية التاريخ.
18
ثالثا: الفلسفة والسلطة
علاقة الفلسفة بالسلطة علاقة قديمة. فالفلسفة التي تظهر في مجتمع تعلن اكتشاف الفكر، وتبين ما غاب عن الأذهان. ولما كان العرف الشائع والأنظمة الاجتماعية القائمة لا يقومان إلا على العقائد الموروثة التي تكون حينئذ أكبر دعامة للنظام، اصطدم الفكر بالسلطة القائمة، سلطة التقاليد الموروثة أو سلطة النظم الاجتماعية. السلطة واحدة ولكنها تتنوع في الظاهر. أولها سلطة الموروث القديم المتمثل في العقائد والعرف والتقاليد والأفكار الشائعة والعادات وما ألفه الناس. هذا الموروث تتمثله القوى الاجتماعية فيتحول إلى سلطة سياسية تستعمله لاستتباب الأمن والمحافظة على الوضع القائم، وتتمثله السلطة الدينية فيتحول إلى مقياس للعقائد ومعايير للصواب والخطأ. ولما كان رجال الحكم ورجال الدين يشاركون في نفس المصالح أي الدفاع عن الوضع القائم، حدث التعاون بينهما ضد حرية الفكر وضد كسر ما هو مألوف والخروج عما هو شائع وهي مهمة الفلسفة ودور الفيلسوف. وغالبا ما يتم اضطهاد الفلسفة باعتبارها الحامل للفكر الحر في لحظات ضعف السلطة وليس في قوتها رغبة في حماية نفسها ضد المفكرين الأحرار، فتعتمد على السيف في مواجهة الفكر، وتقرع الحجة بالاعتقال، والبرهان بالتعذيب، والدليل بالنفي والطرد. وتكون الغلبة في النهاية لحرية الفكر التي تكشف ضعف السلطة وتضع حدا للطغيان. وغالبا ما تفشل السلطة في القضاء على الفكر كما قال نابليون من قبل إثر هزيمته لألمانيا عسكريا ومواجهة «فشته» له بالفكر: «لقد هزم القلم السيف.» إذ يتخذ الفكر حينئذ ثلاثة اتجاهات: الأول ممالأة السلطة وتبرير قراراتها وهو الفكر الرسمي الذي يسود أجهزة الدولة، والثاني مقاومة السلطة في صورة منشورات وكتابات سرية داخل البلاد أو خارجها، والثالث رجوع الفكر مكتوما في صدور الناس، لا يعبرون عنه إلا في الجلسات الخاصة أو علنا في صورة نكات شعبية أو عند بعض الكتاب في الأدب الرمزي. الفلسفة والسلطة إذن نقيضان، إذا غاب أحدهما حضر الآخر. ويشهد بذلك تاريخ الفكر البشري في الصراع المشهور بين الأنبياء والكتبة، بين الفلاسفة والحكام، بين الصوفية والفقهاء، بين المفكرين الأحرار ورجال الدين، وكأن تاريخ الفكر البشري يتحدد أساسا بصراعه مع السلطة. أحيانا يكون النصر للسلطة والهزيمة للفكر وأحيانا أخرى يكون النصر للفكر والهزيمة للسلطة، وهنا تموت الفلسفة أو تحيا.
1
تموت الفلسفة إذن إذا ما انهزمت أمام السلطة وتخلت عن دورها في التمسك بحرية الفكر، ووظيفة النقد، وضرورة التغيير، وحتمية التقدم. تموت في حكم الطغاة وتنتهي في نظم الإرهاب ولو إلى حين حتى ينتصر الفكر وينتهي الطغيان. وأكبر شاهد على ذلك حال الفلسفة في عصر آباء الكنيسة ثم في العصر الوسيط حتى عصر النهضة وبدايات العصر الحديث. فقد كانت هناك عدة اتجاهات في عيش المسيحية والإحساس بها وصياغة عقائدها منذ الحواريين حتى قبل العصر الرابع، عصر التقنين ومجمع نيقيا الأول والانتهاء إلى صياغة واحدة للعقيدة، واعتبار كل ما خالفها كفر ومروق وزندقة وهرطقة. فضاعت فرص اعتبار المسيح عيسى بن مريم إنسانا لا ألوهية فيه كما قال أريوس، وضاعت فرصة التأكيد على الحرية الإنسانية كما قال بلاجيوس، وضاعت فرصة إقامة الدين الوطني المناهض للاستعمار كما حاول دوناتوس. واستمر الحال كذلك حتى العصر الوسيط وخروج دفعة ثانية من الفلاسفة العقلانيين وفي مقدمتهم أبيلار وأنصار ابن رشد اللاتيني دفاعا عن التوحيد وعن سلطة العقل فكان جزاؤهم السجن والتشريد. واشتد الأمر حتى أقيمت محاكم التفتيش، ونصبت قوائم الكتب الممنوعة، وحوكم العلماء وحرق الفلاسفة بدعوى مناهضة السلطة، سلطة القدماء وسلطة الدين. وأمثلة جاليليو وجيوردانو برونو وغيرهم كثيرة. واستمر اضطهاد السلطة للمفكرين الأحرار فيما بعد عصر النهضة حتى شمل فلاسفة التنوير الذين استطاعوا في نهاية الأمر التحرر من سلطان الكنيسة، وكان ذلك نذيرا أيضا بانتهاء السلطة السياسية وبداية الثورات الشعبية. بل وامتد الاضطهاد حتى القرن الماضي بعد ظهور نظرية التطور عند داروين ومناصبة الكنيسة له العداء، ولكن انتصار العلم بعد انتصار العقل جعل السلطة تتوارى داخل حدودها الطبيعية وعدم خروجها عن ميدان العقيدة.
صفحه نامشخص