دراسات عن مقدمة ابن خلدون
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
ژانرها
1
في هرمها، ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات؛ استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها.» «وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة، وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات؛ انتظمتها الدولة في أوليائها، تستظهر بها على ما بقي من مقاصدها.»
وخلاصة القول: «إن الملك هو غاية العصبية، وإنها إذا بلغت غايتها حصل للقبيلة الملك، إما بالاستبداد أو بالمظاهرة، حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك، وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق - كما نبينه - وقفت في مقامها» (ص139-140).
إن الملك يحصل بهذه الصورة، والدولة تتأسس على هذا المنوال، ولا يحصل الملك إلا بهذه الصورة، ولا تتأسس الدولة إلا على هذا المنوال: «لأن الملك منصب شريف ملذوذ، يشتمل جميع الخيرات الدنيوية، والشهوات البدنية، والملاذ النفسانية، فيقع فيه التنافس غالبا، وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا غلب عليه، فتقع المنازعة، وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة.» ومن المعلوم «أن شيئا منها لا يقع إلا بالعصبية» (ص154). (3)
يظهر من ذلك كله أن العصبية ضرورية لتأسيس الملك والدولة.
غير أن الضرورة تنحصر في دور التأسيس والتمهيد، وأما بعد ذلك - «إذا استقرت الدولة وتمهدت» - فقد تستغني عن العصبية للأسباب التالية: «إن الدولة العامة في أولها تكون غريبة على الناس، غير مألوفة لديهم؛ ولذلك «يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب»، وذلك لا يتم إلا بوجود عصبية قوية بطبيعة الحال.
ولكن الرئاسة «إذا استقرت في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة»، وتوارثوه واحدا بعد آخر «في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة»؛ ألف الناس ملكها واعتادوه، و«نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة، بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه» (ص154-155). «ويكون حينئذ استظهارهم على سلطانهم ودولتهم المخصوصة» بالوسائط الثلاث التالية: (أ) «إما بالموالي والمصطنعين الذين نشئوا في ظل العصبية.» (ب) «وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.» (ج) «وإما بالجند المرتزقة المستخدمين بالأجرة» (ص155-156).
يبرهن ابن خلدون على رأيه هذا بعدة شواهد تاريخية، وينتقد «الطرطوشي» الذي كان قد ظن «أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة»، قائلا: «إن كلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة، وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة، بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب، واستحكام الصبغة لأهله». فالرجل - أي الطرطوشي - إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها، ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائها بالأجر على المدافعة». فأطلق الطرطوشي القول في ذلك مستندا إلى أحوال «دول الطوائف» التي أدركها، و«لم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة» (ص156).
بعد هذا النقد والتعليل والتوجيه يؤكد ابن خلدون رأيه الأصلي قائلا: «إن الأمر في أول الدولة لا يتم إلا لأهل العصبية، فتفطن أنت له، وافهم سر الله فيه» (ص156). (4)
لا يكتفي ابن خلدون بالقول «إن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية»، بل يذهب إلى أن «اتساع الدولة يكون متناسبا مع قوة تلك العصبية»، فيقول: «إن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها» (ص161). ويبرهن على ذلك بالملاحظات التالية: «إن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها، لا بد من توزيعهم حصصا على الممالك والثغور التي تصير إليهم ويستولون عليها؛ لحمايتها من العدو، وإمضاء أحكام الدولة فيها - من جباية وردع وغير ذلك - فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها»، وتكون الممالك قد بلغت «حينئذ إلى حد يكون ثغرا للدولة، وتخما لوطنها، ونطاقا لمركز ملكها، فإذا تكلفت الدولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها؛ بقي بدون حامية، وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور» (ص161).
صفحه نامشخص