وكان حليم في ذلك الحين جالسا مع رفيقه تحت شجرة والمطر قد بلل ثيابهما، ومع ذلك فقد كانا ينظران باهتمام إلى تلك المدن وينتظران طلوع الفجر، فلما طلع الفجر وصار في إمكانهما أن يلمحا المدن لم يشاهدا فيها - وا أسفاه - سوى خرائب وأكوام سوداء ينبعث الدخان عنها.
فصاح حليم حينئذ: وا حرباه، أهكذا خربت سدوم وعمورة وبابل ونينوي في القرون الماضية؟
ولما لفظ حليم هذه العبارة وقع نظره على فرسان قادمين من جهة مدينة المال، فلبث يحدق في جهتهم حتى انكشفوا له وكان الفجر قد زاد إشراقا، فدبت حينئذ في نفس حليم قشعريرة شديدة، ذلك أن هؤلاء الفرسان كانوا خمس فتيات، وهن هن اللواتي شاهدهن في البستان قرب قرية الدخول، وكانت حسناؤه صاحبة الحلة البيضاء راكبة في وسطهن كما كانت هناك، فصاح حليم برفيقه: ماذا نصنع الآن، أترى هؤلاء الفتيات بقية من بقي من سكان المدن الثلاث فجئن يلجأن إلى هذه الأكمة فرارا من الزلازل والنار، عزيزي صادق ماذا نصنع، ألا تظن أنهن يجفلن ويخفن منا إذا شاهدننا هنا.
وبعد برهة دنت الفتيات على أفراسهن، وكان في يد كل واحدة منهن منديل تمسح به دموعها من حين إلى حين، وهن بلباس النوم، وكانت وجوههن صفراء كوجوه الموتى، فلما وقع نظر حليم على هذه الوجوه وتلك الدموع لم يتمالك أن بكى ملء عينيه، وقال في نفسه، إن الأبالسة والشياطين حين إتيانهم الشر في الأرض لا يفتكرون أن شرهم لا يقع أشد أذاه إلا على اللواتي هن أقل تحملا له.
ولما صعدت الفتيات إلى الأكمة وشاهدن فيها بشرا أغرقن في البكاء، وصرن لا يرفعن مناديلهن عن عيونهن إلا للنظر إلى المدن وما صارت إليه، فأين بكاء أرميا على أنقاض «ابنة صهيون» من بكاء هؤلاء العذارى على وطنهن المحبوب، لقد فقدن - بفقده - كل شيء، لقد خرجن منه كما يخرج السيف من غمده، فالأهل والمال والمنزل والصداقة ورغد العيش والوطن والعائلة والآمال، كل هذه ذهبت في ليلة واحدة ولم يبق في مكانها غير أكوام الفحم والحجارة وأشلاء القتلى ورائحة الدماء والدخان، فيا أيتها السماء لماذا كنت قاسية إلى هذا الحد، يا أيها الخالق الحكيم ليتك كنت أكثر رحمة وأشد رأفة؛ لأنه إذا استأهل كل أولئك العتاة القساة عقابك فهؤلاء الضعيفات الطاهرات الرقيقات - وألوف غيرهن - لا يستأهلنه.
وكان حليم في تلك الأثناء منزويا مع رفيقه وقلبه يتقطع حزنا وأسفا، وبعد برهة تقدم وهو يبكي لبكاء الفتيات التعيسات وقال مخاطبا حسناءه وكان يظهر أنها أكبرهن سنا وأرشدهن رأيا: هل تسمح سيدتي في حين كهذا الحين أن أعرض عليها وعلى رفيقاتها خدمتي؟ وكان حليم قد خاطب حسناءه بقلب خلا في تلك الساعة من الحب لأن عاطفة الحب قد غرقت حينئذ في عاطفة الحزن والشفقة والرأفة، وهذا شأن القلوب الكريمة؛ ذلك لأن عاطفة الحب أكثرها مصوغ من عاطفة محبة الذات، وأما عاطفة الحزن والشفقة والرأفة فأكثرها مصوغ من محبة الغير، والقلب الكريم في ساعة كهذه يفتكر بغيره لا بذاته.
فاشتد بكاء الفتيات عند سؤال حليم، وأجابته فتاته: عفوا يا سيدي، ماذا تقدر أن تعمل؟ إن أبانا حاكم المدينة كان أول القتلى، ومنزلنا كان أول المنازل المحروقة، ولولا مساعدة الجند الذين كانوا نياما في دارنا لما نجا منا أحد، بل كان حل بنا ما حل بباقي السكان الذين مات نصفهم بالسيف والنار والرصاص ونصفهم بالزوابع والزلازل، فكل ما نطلبه منك هو أن تصلي إلى الله معنا أن يرحمنا ويعزينا.
ورغبة من حليم في أن يروح هموم الفتاة قليلا ويشغل فكرها عنها ولو دقيقة سألها: ولكن ما الذي دعا إلى هذه الفاجعة الهائلة يا سيدتي بعد ما رأيناه من سكينة الأحزاب؟
فأجابت الفتاة والدموع ملء عينيها: إنني أنقل لك يا سيدي السبب الذي ذكره لي أبي أمس قبل دخولي إلى غرفة النوم، فإنه أخذ يدي بين يديه وقال لي: أتعرفين سبب كل هذه القبائح يا بنية، سببها الشراهة والأثرة والطمع، ولست أبرئ منها حزبا دون حزب، لأن التبعة واقعة على الجميع، ولا أستغرب أن تخسف بنا الأرض أو تنقض علينا صواعق السماء ما دمنا بعيدين إلى هذا الحد عن مبدأ الرفق والإخاء.
الخاتمة
صفحه نامشخص