فلما رآه حليم قادما بهذه الهيئة لم يشك في كونه قادما لمخاطبته فتشاغل عنه بمحادثة رفيقه، أما الشاب القادم فإنه لما صار على مقربة منه مد يده إليه مسلما وقال باحترام وبشاشة: أرجو أن تسمح لي بسؤال يا سيدي، هل تريد أن تشرفني بمعرفتك، فتلعثم حليم قليلا لأنه كره الكذب ثم أجاب: نحن ضيوف يا سيدي في المدن الثلاث الجميلة وقد جئنا لمشاهدتها والاستفادة من أهلها الكرام، فقال الشاب: نعم، لا ريب عندي في أنكم ضيوف، ولكني أول ما وقع نظري على جنابك تذكرت أنني شاهدت هذا الوجه قبل الآن في إحدى مجلاتنا، ألست جنابك الخواجا حليم المصور الطائر الصيت.
فلما رأى حليم أنهم عرفوه ضحك وأجاب: إن ذكاءكم في هذه البلاد غريب يا سيدي فإنكم تعرفون الرجل من غير أن تعرفوه.
فلم يتمالك الشاب أن عاد وثبا إلى رفيقيه وأخبرهم أن ذلك الضيف هو المصور حليم نفسه، فانتشر هذا الخبر بسرعة البرق في الحديقة كلها، فصار الناس يتداعون لمشاهدة الرسام الطائر الصيت الذي بارى في هذا الفن أشهر الرسامين وطارت شهرته في جميع أقطار العالم، ولم تمض دقيقتان حتى اجتمع كل من في الحديقة من أهل العلم والمال والدين حول حليم ورفيقه وصارت الأعناق تتطاول إليهما من كل صوب، فازداد الورد في وجنتي حليم خجلا من ذلك لأنه كان كثير التواضع قليل الجرأة على مقابلة آلهة الشهرة، ولكنه لم يكن ضعيفا إلى حد الجبن، ولذلك رفع رأسه بعد ذلك الحياء بجرأة وبشاشة وحيا بهز رأسه باسما، وكان الجمع الذي حوله في حركة في ذلك الحين ثم انفرد منهم خمسة بينهم رجال من أهل المال والعلم والدين وتقدموا نحوه، فتبعهم باقي الجمع زاحفين نحو حليم كالجند وهم كالبناء المرصوص، فخطا حينئذ حليم نحوهم بخطى واسعة وهز الأيدي التي كانت تمد إليه من كل جانب كأنها أغصان مشتبكة.
ومنذ هذا الحين فقد حليم نصف لذة السفر لأنه صار مقيدا بعد أن كان مطلقا يروح ويجيء كما يشاء، إلا أن خسارته هذه لا تعادل الفائدة التي استفادها في ساعة واحدة بعد أن عرفه أهل هذه البلاد، فإنه صار دفعة واحدة في وسطهم فأصبح قادرا على الوقوف على كل ما أراد الوقوف عليه منهم.
وبعد أن جلس حليم واستراح برهة حدثهم في أثنائها عن سفره وما شاهده في المدن الثلاث هم بالاستئذان فدنا منه الشاب الذي كان أول من عرفه وقال: لي على جميع أخواني حق التقدم لأنني كنت أول من تشرف بمعرفتك، فأنا أرجو أن تتخذني صديقا ورفيقا لك في هذه الديار لأدلك في سياحتك، فشكر له حليم لطفه وأدبه، ثم نهض يطلب الخروج من الحديقة وكل جوارحه تتمناه، فهمس ذلك الشاب في أذنه قائلا: ألا تحضر الاجتماع الليلة في الحديقة، فقال حليم: وأي اجتماع؟ فقال الشاب: إن الليالي الثلاث القادمة ليالي في غاية الأهمية، فإن السكان عزموا على الاجتماع فيها ثلاث مرات لحل بعض المشاكل التي بينهم والتي هي سبب النزاع والخلاف بين طبقاتهم، ولا ريب أن خراب مدننا الثلاث وعمرانها يتوقفان على نتيجة هذه الاجتماعات، والليلة الأولى مخصوصة بالمال، والليلة الثانية بالعلم، والليلة الثالثة بالدين. فقال حليم: سأحضر هذه الاجتماعات لا محالة، ثم ودع وخرج مع رفيقيه وهو يقول في نفسه: إنه قد جاء في أحسن الأوقات وأهمها.
الفصل الخامس
تمهيد الجلسات الثلاث
رجاء الشيخ الرئيس وشكاوى أهل العلم والدين والمال
وفي المساء برزت الحديقة بالأنوار الساطعة وأقبل الناس عليها من الجهات الثلاث وأكثرهم سكوت كأنهم يفكرون في أمر عظيم، وكانت أشكال ملابسهم تدل على أنهم من طبقات مختلفة بين تجار وعمال وأهل علم وأهل دين، وكان كل فريق مشغولا عن الفريق الآخر بمناجاة حزبه همسا استعدادا للجدال العلني الشديد، وما دخلت الساعة التاسعة مساء حتى غصت الحديقة بالناس على اتساعها وجلسوا ينتظرون، وكان حليم ورفيقه قد اختارا مقعدا في زاوية مظلمة قريبة من دكة الرئيس فكانا يشاهدان الحاضرين دون أن يشاهدهما أحد.
وفي الساعة التاسعة والدقيقة الأولى جلس رئيس ذلك الاجتماع على كرسيه، وهو رئيس جمهورية المدن الثلاث، وكان شيخا جليلا في نحو الثمانين من العمر وهو بقية الشيوخ الذين عاصروا الشيخ سليمان مؤسس هذه المدن، فلما سكنت الضوضاء أخذ يقول:
صفحه نامشخص