ذو النورین عثمان بن عفان
ذو النورين عثمان بن عفان
ژانرها
ولقد درج العاذرون واللائمون في تاريخ عثمان على التسليم بضعفه كأنه حالة لا تفارقه في جميع أعماله، أو كأنه حالة لم تفارقه قط في عمل مما تولاه.
فالذين آمنوا منه بحسن القصد، كانت معذرتهم له بالضعف واللين أسبق معاذيرهم إلى ألسنتهم حيث يوفقون بين خطته وحسن قصده، والذين أفرطوا في اللوم جعلوا من ذلك الضعف خطلا في الرأي قد يغطي على حسن النية لو افترضوه وسلموه، وهؤلاء وهؤلاء يستغربون أن يقال: إنه كان كفؤا لتلك المحنة بعزيمته وأصالة رأيه، ويخيل إليهم أن كلمة «الضعف» تلغي كل قوة وتبطل كل عزيمة، أو ينسون أن الضعفاء لا يتساوون، وأن الضعف لا يلازمهم في كل ما يعملون، وأن الضعف كالمرض تتفاوت فيه مناعة الأبدان ومناعة النفوس، فقد يعدي القوي الركين وإلى جانبه النحيل الهزيل لا تسري إليه عدواه، وقد يكون القوي في حالات أضعف من الضعيف في حالات، وهذا مع التسليم بضعف عثمان على العلات، وهو قول لا يقبل على إطلاقه؛ إذ لا نرى من علامات ضعفه إلا ما يظهر فيه الضعف بالنسبة إلى موقف من المواقف قد يحار فيه الأقوياء كما يعيى به الضعفاء.
فلا تنس أن عثمان قد ولي أعمالا ناجحة في الجاهلية والإسلام، وأن من هذه الأعمال قوافل تترحل في الصيف والشتاء، وتوافق مطالب اليمن في الجنوب والشام في الشمال، وإنه استطاع أن يصرف هذه القوافل ويوائم تلك المطالب وهو مقيم في مكة أو المدينة، وأنه تعود أن يستشار فيما يحضره ويغيب عنه، وأنه تعود كذلك أن يعرف مشورة غيره في مثل عمله، وأن يعرف أخبار من تقدمه ومن عاصره من نظرائه، وأنه بعد الإسلام قد لازم ولاة الأمر في السياسة والحرب من عهد النبي عليه السلام إلى عهد الفاروق، وشاركهم في كثير، وسمع أوامرهم وحضر مشاوراتهم في كثير.
فلا تكونن كلمة الضعف حاضرة في الذهن كلما حضرته حادثة من حوادث سيرته أو آية من آيات عزمه وتدبيره، وليكن للضعف محله فلا يشغل كل محل في معارض هذا التاريخ العجاب.
إن علاج عثمان لمشكلات الدولة «الخارجية» التي فاجأته بعد ولايته قد كان كأحسن علاج يتولاه خليفة في تلك الآونة: عزم وسداد وسرعة، مع الحيطة والأناة والرفق في سياسة الأولياء والخصوم.
ولا شك أن الخليفة كان معانا على عمله، ولم يكن منفردا بعبئه في تلك المحنة الجائحة: كان معانا عليه بحمية الجند وكفاية القادة، وكانت حمية الدين التي حفزت دعاة الإسلام من نصر إلى نصر، ومن عزمة إلى عزمة، وصحبتهم من بدر إلى القادسية وتبوك وبابليون، صامدة على سمتها كأقوى وأقوم ما كانت في يوم من أيامها، بل لعلها في حروب الفرس والروم كانت أقوى وأقوم من حروبها في الجزيرة العربية؛ إذ كانت أنفة العربي أن ينهزم أمام المتعجرفين عليه من الأعاجم كفيلة أن تنفث في قلبه الغضبة القوية التي لا تثيرها حرب العربي للعربي والشبيه بالشبيه.
كان حبيب بن مسلمة الفهري يقاتل الروم في ميادين سورية وفلسطين، فاستعان بمدد من الجزيرة فوصل إليه، واستعان بمدد من الكوفة فأبطأ عنه، فلما أقبلت الروم قبل وصول المدد وهم لا يتوقعون القتال مع قلة الجند في معسكر العرب أتاهم حبيب من حيث لم يتوقعوا وبيتهم بليل. فانتصر وانهزموا.
وإن الدهشة من هذه الجرأة لتغمرها؛ حتى لتكاد تمحوها دهشة أخرى من دهشاتها التي لا عداد لها في كل وقعة من وقعاتها: كانت أم عبد الله امرأة حبيب معه وهو ينوي الهجمة بليل قبل أن يسفر نور الصبح ويأتي المدد المرتقب، فسألته: أين الموعد؟! قال: سرادق «الموريان» أو الجنة فوجدها عند السرادق سبقته إليه.
وقبل هذا أعين الصديق والفاروق بحمية الأجناد وكفاية القواد، ولكن أعباء الجهاد في أوائل أيام عثمان كانت أشق وأكبر وأحوج إلى التوجيه الناجز والتصريف الذي لا يغني الإجمال فيه عن التفصيل، على حسب الأطوار المتجددة والطوارئ المتقلبة، لامتداد خطوط القتال وتعدد الفتن وتباعد المسافات بين البلدان وتكاثر العناصر والأجناس في جيوش المسلمين؛ فقام الخليفة الشيخ بأعبائه الجسام على أحسن ما يقام بها في تلك المحنة الجائحة، وكان له ولا شك أكبر الفضل في تثبيت مهابة الدول الجديدة بعد ما أصابها من الوهن والتخلخل عند مقتل عمر، فوقر في أخلاد الأمم المحيطة بها أنهم ينازلون قوما لا يقدح في قوتهم موت خليفة أو تبديل قائد، وأنهم منتصرون مستميتون في سبيل النصر على اختلاف القادة والرؤساء، فقتل بعد هذه التجربة عثمان، ثم قتل علي، ثم مات معاوية، ثم مات يزيد وتخلى معاوية الثاني عن الملك، وانقسم المسلمون على أنفسهم، ولم تقم للثورة عليهم قائمة في بلاد الروم أو بلاد الفرس إلا ما كان من شغب متفرق على غير وجهة، يعرو الدول من داخلها ومن خارجها بلا انقطاع ولا يخاف منه على دعائمها وأركانها. •••
ولم يقنع عثمان بتسكين الثورات حيث يكفي فيها التسكين أو قمعها حيث تحتاج إلى القمع في بلاد الطغاة والمتجبرين؛ فصالح من صالح وحارب من حارب، ثم أمر قواده بمجاوزة البلاد التي نشبت فيها الثورات إلى ما وراءها منعا لارتداد الهاربين إليها وانبعاث الفتن والدسائس من قبلها، فتقدمت جنوده شرقا إلى حدود الهند والصين، وشمالا إلى ما وراء بحر الخزر، وغربا إلى أبواب القسطنطينية وتخوم الأندلس، وجنوبا إلى السودان وجوانب الحبشة، ولم يؤخذ عليه قط وناء في إنفاذ نجدة أو تسيير مدد أو تدارك خطر في أوانه من أقصى تلك البقاع إلى أقصاها.
صفحه نامشخص