ذو النورین عثمان بن عفان

عباس محمود العقاد d. 1383 AH
55

ذو النورین عثمان بن عفان

ذو النورين عثمان بن عفان

ژانرها

وهذا الذي كان يقال عنه في الزمن الماضي: إنه وفرة الخير ودرة الرزق. وهذا الذي نقول عنه اليوم: إنه آفة «التضخم» في النقد مع فارق بعيد بين أحوال عصرنا وأحوال العصور الماضية: ذلك هو الفارق بين عملة الورق وعملة الذهب والفضة، فإذا رخص الذهب والفضة كما حدث في ذلك العصر؛ فقد رخص المال في جوهره ولم تكن ثمة غرابة في كتل الذهب التي تقسمها فئوس العبيد، ولا حيلة في مثل تلك الحالة لمن يعيش على مورد محدود ولا يقتني من الذهب والفضة ما يكفيه من الكفاف، وليست كذلك أزمة التضخم من عملة الورق وما جرى مجراها؛ إذ يقل الشراء لقلة ما يشترى من المتاع المطلوب، وبعضها يطلب ولا يوجد عند طلبه في الأسواق.

هذه الأزمة بلغت غايتها في خلافة عثمان، ولكنها بدأت بعد الهجرة إلى المدينة واستئناف مسير القوافل إلى رحلتي الصيف والشتاء ببضع سنوات.

والإسلام لا يمنع التجارة ولا ينكر الثروة، ولكنه يمنع الترف وينكر كنز الذهب والفضة، ويأمر بإنفاق المال في المنافع والمرافق، كما جاء في القرآن الكريم

كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر: 7) ويتقي أشد التقية أن يترف أناس ويعدم أناس آخرون. •••

ولم يصعب على المجتمع الإسلامي تدبير مشكلة الثروات الكبيرة في السنوات الأولى من الدعوة، أو على الأصح أن الثروات الكبيرة لم تكن مشكلة من مشكلات المجتمع في تلك السنوات، سواء من جانب الأغنياء أو جانب الفقراء، فإن أصحاب تلك الثروات كانوا يتعوذون منها ويشفقون من فتنتها، ويسارعون إلى تفريقها على مستحقيها من الغزاة والمجاهدين وعلى المحرومين والمعوزين، وكان تخصيص الغزاة بالصلات التي تأتيهم من فيض تلك الثروات تشريفا لهم يتنافسون عليه ولا يأنفون منه، بل كان منهم من يأبى أن تفوته هبة يراد بها أهل بدر أو غيرهم من أصحاب المغازي والسرايا، كأنه يرى في ذلك إنكارا لصفته وكرامته وسابقته في جهاده، وقد تقدم أن عثمان ذهب مع الناس إلى عبد الرحمن بن عوف ليأخذ حصته من العطاء الذي نذر تفريقه على البدريين، وموقف عثمان هنا خاصة - ونحن بصدد ترجمته - يصور لنا شعور الغني والفقير يومئذ بشرف العطاء الذي يخص به البدريون ومن حذا حذوهم في غزوات الجهاد، فقد كان عثمان رضي الله عنه يفرق أضعاف ما أخذه من عبد الرحمن بن عوف، ولكنه أشفق أن يدخل البدريون في حساب ولا يكون هو مثلهم من الداخلين فيه، وبخاصة حين عيره بعضهم أنه تخلف عن غزوة بدر، ودفع عنه هذا التعبير بما اعتذر به من إذن النبي له بالتخلف ومن حسبان سهمه في الغنيمة وهو غائب ، فمثل هذا الشعور الذي يشمل الواصل والموصول من الغزاة والمجاهدين لا يجعل الثروة الكبيرة مشكلة يضيق بها المجتمع بين أغنيائه وفقرائه؛ إذ هي ودائع عند الأغنياء يحرصون على تفريقها ولا يحرصون على اكتنازها واستبقائها، ثم هم لا حاجة لهم إلى اكتنازها واستبقائها؛ لأنهم كانوا يعافون الترف ويعرضون عنه إعراضهم عن وصمات الخلق التي لا تجمل بالرجل في دينه ولا في دنياه، وكان أحدهما يشكو الحكة فلا يسمح لنفسه بلبس الحرير وهو قادر عليه إلا أن يستأذن في ذلك رسول الله؛ فيأذن له على سبيل الفتيا لا على سبيل التسلط من الرسول في لباس المسلم وطعامه، فما كان هذا التسلط مما يفرض الرسول لنفسه أو يفرضه المسلمون للرسول في غير ما يتولاه من التبليغ والتشريع، وقد كان الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ممن أذن لهم الرسول بلبس قميص من الحرير في بعض الغزوات ضرورة لا ترفا ولا سرفا، والمقام غير مقام الترف والسرف في شكة الجهاد.

وابتدأت الخلافة الأولى على عهد الصديق ومشكلة الثروات الكبيرة مكبوحة الجماح مملوكة الزمام، ثم أحس الخليفة الأول بزمامها يضطرب في يديه بعد اتساع التجارة وامتداد الفتوح؛ فاتخذ الحيطة لفتنتها واستبقى عنده كبار الصحابة ليجمع بين معونتهم له في الرأي والعمل، وبين تجنيبهم الفتنة ومآزق الولاية، وكان يتذمر من ترخص بعض الصحابة في أمور تؤذن بما بعدها، فقال لعبد الرحمن بن عوف وهو على سرير الموت: «ما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي - أي المنسوب إلى أذربيجان - كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.»

ثم قال يعظه ويحذره: «والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، ثم أنتم غدا أول ضال بالناس يمينا وشمالا. ولا تضيعوهم عن الطريق. يا هادي الطريق جرت!»

ولم يكن عمر بحاجة إلى التحذير من عواقب انطلاق الصحابة في الأقطار، بل ربما كان يحذرها حيث لم يحذرها صاحبه، ولكن الصديق رضوان الله عليه لم ينس تحذيره في موقف الأمانة، فقال له وهو يجود بنفسه: «واحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم

الذين انتفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم، فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله ...»

صفحه نامشخص