وصمت، وأدركت كيف لرجل عاش عمره مقصد الرجاء للناس أن يرجو هو الناس من أجل ابنه الذي هو ابنه، وهكذا لم أشغل وظيفة جديرة بهذا الاسم إلا بعد ذلك بربع قرن، حين اختارني الزعيم الخالد أنور السادات رئيسا لمجلس إدارة مجلة الإذاعة والتليفزيون.
وهكذا كانت سنة 1953م سنة من أعظم السنوات بلاء بالنسبة لي، وأي بلاء يمكن أن يحيط بإنسان أكثر من أن يفقد أعظم إنسان في حياته وأحب إنسان إليه.
وهو من قبل ومن بعد أبوه. ويفقد في نفس الفترة أول طفل قبل موعد ولادته بأيام، ولا يجد ما ينسيه بلواه، وقد تعددت أشكال بلواه. فهو في نفس الوقت ليس له عمل ثابت يستطيع وهو يؤديه أن ينسى شيئا مما يتكدس في حناياه من أحزان.
في هذه الأيام بدأت كتابة رواية ابن عمار، وكان كل أملي وأنا أكتبها أن أجد لها ناشرا. وحين انتهيت منها توجهت إلى الأستاذ عادل الغضبان المشرف على النشر في دار المعارف، وكنت أعرفه من قبل. وكان يقرأ ما أكتبه في الجرائد؛ فقد كنت في ذلك الحين أكتب في جريدة المصري بصورة منتظمة؛ فقد كان لي عمود أسبوعي في الصفحة الأخيرة بعنوان «أضواء». وكان صديقي عبد الرحمن فهمي رئيس القسم الرياضي بجريدة الجمهورية الآن زميلا لي في كلية الحقوق، وكان آل أبي الفتح أخواله ، وهكذا أصبح لي عمود ثابت في جريدة المصري، وكنت أكتب بشكل غير منتظم في كثير من المجلات في ذلك الحين، وهكذا وجد الأستاذ الشاعر عادل الغضبان أن اسمي لن يكون غريبا على القارئ إذا هو نشر الكتاب، ففعل.
كنت قد تعرفت بأستاذنا العظيم توفيق الحكيم في عام 50، وسأروي لك كيف تم ذلك. حين ظهر كتابي «ابن عمار» أهديته إليه، فأعجب به كل الإعجاب، وقال إنه يصلح سينما، وقال إنه كان يفرك الصفحة الأخيرة بأمل أن يجد صفحة أخرى. وملأني الزهو بهذا الرأي. وطبعا أهديت نسخا من الكتاب للأصدقاء في جميع الجرائد والمجلات، وقد كانوا كثيرين وعجبت أن أحدا منهم لم يذكر شيئا عن الكتاب على الإطلاق، وكنت أجلس مع أستاذنا الحكيم في جروبي سليمان باشا، وشكوت له إهمال النقاد هذا، فقال: «إن الشهرة تأتي إليك إذا ذهبت إلى بار في أحد الكباريهات، واتفقت مع راقصة إما أن تصفعك قلما أو تصفعها قلما تصبح مشهورا في لحظة. أما طريق الكتب هذا فطريق وعر وغير مضمون على الإطلاق.» فضحكت فأنا لم أجلس في حياتي إلى بار، ولا ذهبت عمري إلى كباريه. كما أنني لست أسعى إلى الشهرة ولا تعنيني، وإنما كنت أريد أن أكتب، وأحس أن هناك من يقرأ لي، وأقبل الصيف وكنت أجالس أستاذنا الحكيم في مقهى بترو وحدث أن ذهبت إلى المقهى مبكرا بعض الشيء، فوجدت توفيق بك وحده. وما إن قعدت حتى التفت إلي وقال: «مبروك يا سيدي.»
وأحسست رنة عجيبة في صوته.
فقلت: «علام؟»
فقال: «قرروا كتابك على طلبة الإعدادية هذا العام.»
وكدت أطير من الفرح وسألته وأنا أحاول أن أخفي فرحي: «أين قرأت هذا؟»
فأعطاني جريدة الأخبار، فوجدت الخبر مكتوبا في ركن أخي الأستاذ أنيس منصور، وتفضل الذي كتب الخبر، فوضع بعده علامة تعجب. وكأنما لم يكف الصحافة إهمالها بشأن الكتاب، وإنما راحت أيضا تتعجب أن وزارة المعارف قررته على طلبتها في الإعدادية. وكم كان الأستاذ توفيق الحكيم خفيف الظل وظريفا، وهو يقول في عفوية: «شوف ولاد الكلب ياخدوا كتابك ويسيبوا كتابي.»
صفحه نامشخص