وفي نهاية الأيام الثلاثة كان محمد محمود باشا حاضرا في المقصورة التالية لمقصورة الملك بدار الأوبرا، وما إن انتهت الحفلة حتى قامت مظاهرة ضخمة تهتف باسم محمد محمود باشا، وترفعه إلى الأعناق، وكان رئيس الوزارة في ذلك الحين هو النحاس باشا.
وقد أدركت بعد ذلك أن هذه المظاهرة كانت جزءا من تدبير سياسي محكم أدى إلى سقوط وزارة النحاس باشا، وتولى محمد باشا محمود رياسة الوزارة، وكانت أول وزارة تشترك فيها الهيئة السعدية برئاسة أحمد ماهر باشا. ومع أن أبي كان سكرتير عام حزب الأحرار الدستوريين، إلا أنه لم يشترك في الوزارة عند تأليفها. وقد حدث أمر يستحق أن يروى في أثناء وجود هذه الوزارة، فقد تولى أبي تنظيم الترشيحات لمجلس النواب بوصفه سكرتير عام الحزب الحاكم، فكان ينسق بين الأحرار الدستوريين وبين السعديين. وحدث أن طلبه حسن صبري باشا، وكان في ذلك الحين وزيرا في الوزارة ومقربا جدا عند الإنجليز، وطلب حسن صبري من أبي أن يرشح اسما ذكره في إحدى الدوائر، ولكن أبي اعتذر عن عدم ترشيحه؛ لأن الدائرة التي ذكرها حسن صبري كان مرشحا بها أحد السعديين، وكان متقدما إليها حر دستوري من تلقاء نفسه، فوضعها لا يسمح بأن ترشح فيها الوزارة أحدا، فإذا حسن صبري يقول لأبي: «أتناقشني؟»
فكان من الطبيعي أن يضع أبي سماعة التليفون في وجهه، وينهي المكالمة.
وحدث بعد ذلك أن خلا منصب وزير الزراعة، وكان مجلس الوزراء مجتمعا برئاسة محمد محمود، فإذا به ينظر إلى ساعته، ويقول للوزراء: «سأضطر أن أنهي الجلسة؛ لأني على موعد مع الملك لأوقع مرسوم وزير الزراعة.»
وسأله الوزراء عمن اختاره للوزارة، فقال لهم: «لقد اخترت للوزارة جوهرة فريدة.»
قالوا: «من؟»
قال: «دسوقي أباظة.»
فرحبوا جميعا، وإذا حسن صبري يقول: «إذا دخل دسوقي أباظة الوزارة من هذا الباب، سأخرج أنا من هذا الباب.»
ولم يدخل أبي الوزارة مع محمد محمود قط.
ولم يكن عجيبا ألا يختار حسن صبري أبي للوزارة، ولكن العجيب أن أبي ظل طوال فترة وزارة حسن صبري يمتدح حسن صبري لنا نحن أبناءه وأهل بيته، ولم يعارضه قط في البرلمان. فأنا لم أر في حياتي شخصا يفصل بين المشاعر الشخصية والرأي والمصلحة العامة مثل أبي. وتشاء الأيام أن يجني حسن صبري باشا على أبي حيا وميتا؛ فقد حدث أن رشح حزب الأحرار أبي لرئاسة مجلس النواب عن الأحرار الدستوريين في حين رشحت الهيئة السعدية أحمد باشا ماهر، وكان الحزبان قد اختلفا، وخرجت الهيئة السعدية من الوزارة، ولم يحل مجلس النواب مع ذلك. وكان الخلاف بين الحزبين سببه ما ارتآه أحمد باشا ماهر في ذلك الوقت من وجوب دخول مصر الحرب في ذلك الحين، حتى يكون ذلك مبررا لها أن تطالب بالاستقلال بعد نهاية الحرب، ورأى حزب الأحرار - وكان محقا يومذاك - أن النصر ليس مؤكدا للحلفاء، وأنه يجب أن تجنب الحكومة مصر ويلات الحرب، وخاصة أن الإنجليز لا أمان لهم، وليس من الحتم أن يستجيبوا لمطالب مصر، حتى إذا انتصروا. وكان هذا الاختلاف في عام 1941م. وكان من المرجح جدا أن يتغلب أبي على أحمد ماهر باشا في معركة رئاسة مجلس النواب، ولهذا لم ندهش كثيرا حين كنا جالسين في حجرة مكتب أبي بالعباسية، وإذا بنا نجد الباب يفتح فجأة ونرى شخصا أنيقا واقفا في لحظة وسط الحجرة، وكأنه نبت من الأرض، وهو يقول بصوت جهوري غاية في الأدب: «دولة رئيس الوزراء.»
صفحه نامشخص