وأما قمم الغريزة التي قلنا أنه الأصل فالتفاوت فيه لا طريف إلى جحده فإنه مثل نور يشرق على الإنسان ويطلع صبحه ومبادئ إشراقه عند سن التمييز وهو تمام الأسبوع الأول أعني سبع سنين ثم لا يزال ينمو ويزداد على التدريج إلى أن يتكامل يقرب الأربعين سنة ومثاله: نور الصبح فإن أوائله تخفى حفاء بشق إدراكه ثم يتدرج إلى الزيادة، إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس، وعادة الله جارية في جميع مخلوقاته، بالتدريج وكيف ينكر تفاوت الناس في الغريزة ولولا تفاوتها لما اختلف الناس في فهم العلوم. ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من المعلم وإلى ذكي يفهم بأقل إشارة وإلى كامل يدرك حقائق الأشياء دون تعليم فلقتسام الناس إلى من يتنبه من نفسه ويفهم وإلى من لا يفهم إلا بتنبيه وتعليم وإلى ما يجمع فيه الماء ويقوي فيتفجر بنفسه عيونا وإلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج الماء في الآبار وإلى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها فكذلك هذا الاختلاف في النفوس في غريزة العقل.
والسبب الظاهر بحسب العادة، أجراها الله باختياره وبما دل عليه الاستقرار في اختلاف الناس في عقولهم وأخلاقهم وسيرهم أحوال الشمس في الحركة فإن الناس على ثلاثة أقسام: أحدها: الذين يسكنون تحت خط الاستواء إلى ما يقرب من المواضع التي يحاذيها ممر رأس السرطان واسمهم العام السودان والأجل أن الشمس تمر على رؤوسهم إما مرة أو مرتين في السنة صارت أبدانهم وشعورهم سوداء وهم أضعف الناس عقلا وأوحشهم أخلاقا وأما الذين مساكنهم، أقرب إلى ممر رأس السرطان، فعقولهم أكمل من الذين قبلهم والسواد فيهم أقل وطبائعهم معتدلة وأخلاقهم مؤنسة وأجسامهم نظيفة وهم أهل الهند، واليمن، وبعض المغاربة وكل العرب.
وأما القسم الثاني من أهل الأرض فهم الذين مساكنهم على رأس ممر السرطان إلى محاذاة بنات نعش. وهم سكان وسط هذه المعمورة وهو المسمى بإيران شهر، كأهل العراق والشام وخراسان وأصبهان فهم أكمل الناس عقلا وألطفهم أذهانا وهم مختلفون في الكمال، ويليهم في الكمال، سكان فرنسا فإنهم وسط الإقليم الخامس ويليهم في الكمال أهل الأندلس فإن بلادهم أخذت من الإقليم الخامس والسادس وأما القسم الثالث من سكان الأرض فهم الذين مساكنهم محاذية لبنات نعش وهم الروس والصقالبة فعقولهم ناقصة وأخلاقهم وحشية وطبائعهم باردة. ولكثرة بعدهم عن حر الشمس صار البرد عليهم أغلب والرطوبات أكثر لأنه ليس هنالك ما ينشفها وينضجها. فلذلك صارت ألوانهم بيضاء وشعورهم شقراء سبطة وأبدانهم عظيمة رخوة.
تكملة القوى الأربع
قوة العقل هي إحدى القوى الأربع التي إذا اعتدلت في الإنسان يكون إنسانا كاملا وهي قوة العقل وقوة الشجاعة وقوة العفة وقوة العدل.
فقوة العقل هي حالة النفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأحوال والعدل حالة للنفس بها يسوس الغضب والشهوة ويجملها على مقتضى العقل في الاسترسال والانقباض والشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها والعفة تؤدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع فمن اعتدال هذه القوى الأربع تصدر الأخلاق الجميلة كلها فمن اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأمور ومن إفراطها المذموم، تحصل الصفات المذمومة والأخلاق القبيحة، مثل: المكر والحقد والخداع والدهاء والحيلة ومن تفريط المذموم أيضا تصدر الصفات المذمومة، مثل البله والغباوة والغمارة والحمق والجنون. وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل والجنون عبارة عن اختلال القوة العملية المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة، المدركة للعواقب، بأن لا يظهر أثرها، وتتعطل أفعالها إما بسبب نقصان خلق عليه وإما بسبب خلط أو آفة. والفرق بين الحمق والحنون: أن الأحمق مقصودة صحيح ولكن سلوكه الطريق الموصل إلى الغرض وأما المجنون، فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره فاسدا وأما الشجاعة فيصدر عنها الكرم والنجدة والشهاة وكسر النفس، والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد إلى الناس وأمثالها وهي صفات محمودة وأما إفراط هذه القوة وهو مذموم فيحصل منه التهور والصلف والبذخ والتكبر والعجب والاستشاطة وأما تفريطها وهو مذموم أيضا فيصدر منه المهانة والمذلة والجزع والحساسة وصغر النفس ولانقباض عن تناول الحق اللازم.
صفحه ۷