العلوم تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم فالعم المحمود ما يرتبط به مصالح الدين والدنيا كالطب والحساب، وكل علم لا يستغني عنه، في قوام أمر الدين والدنيا، كأصول الصنائع من الفلاحة والحياكة، والسياسة، والحجامة بل الحجامة من العلوم اللازمة فلو خلا البلد عن الحجام تسارع الهلاك إلى أهل ذلك البلد فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فيقبح التعرض للهلاك. ومن المعلوم، أن الإنسان مدني بالطبع فهو محتاج إلى التمدن والاجتماع مع أنباء جنسه، ومهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات إذ تحدث رياسة الزوج على الزوجة ورياسة الأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج على من يقوم عليه. ومهما حصلت الرياسة على عاقل أفضى إلى الخصومة، بخلاف الرياسة على البهائم إذ ليست لها قوة المخاصمة، ولو ظلمت أما المرأة فتنازع الزوج وأما الولد فينازع الأبوين هذا في المنزل وأما أهل البلد فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتنازعون على الأرض ثم قد يعجز بعض الناس عن الصناعة بعمى أو مرض أو هرم ولو ترك ضائعا لهلك ولو وكل تفقده إلى الجميع لفرطوا ولو خص واحد، من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له. فحدث من هذه الأمور الحاصلة بالاجتماع علوم منها علم المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل ومنها علم الجندية لحراسة البلد بالسيف ومنها صناعة الحكم لفصل الخصومات ومنها علم القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهذه، أمور مخصوصة لا يقوم بها إلا مخصوصون بالعلم والتمييز وإذا اشتغلوا بها، لم يتفرغوا لصناعة أخرى، ويحتاجون إلى المعاش ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلا وتعطلت الصناعات ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح، بالصناعات وطلب القوت، تعطلت البلاد عن الحراس، وهلكت الناس. فلزم أن يدهم أهل البلد بأموالهم ليحرسوهم فتحدث الحاجة إلى الخراج، ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج علوم أخر إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على أرباب الأموال وهم العمال وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة وإلى من يجمع عنده إلى وقت التفرقة الخزان وإلى من يفرق بالعدل وهو الفارض للعساكر وهذه الأعمال لو تولاها أناس كثيرون لا يجمعهم إنسان واحد لا نخرم النظام فحدثت الحاجة إلى ملك يدبرهم بالعلوم السياسية التي تلزم معرفتها كل ملك فيكون الخلق كلهم بالنسبة إلى العلوم المحتاج إليها ثلاثة طوائف الأول الفلاحون والمحترفون والثانية الجند الحماة بالسيوف والثالثة المترددون بين الطائفتين بالأخذ والعطاء.
ثم حدث بسبب البيع والشراء الحاجة إلى التقدير فإن من يريد أن يشتري طعاما بثوب أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم؟ هو فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال ويحتاج إلى ما يطول بقاؤه وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس، فحدثت الحاجة إلي: دار الضرب، والنقش، والتقدي وعلم المعادن واستخراجها، وتصفيتها فهذه هي علوم الخلق وهي معايشهم، وكلها محمودة.
صفحه ۱۱