لقد ذكر الخطيب في المقدمة الخاصة بخطط بغداد القصور الفخمة والعمائر العظيمة في دار الخلافة لكنه لم يذكر المهندسيين الذين أبدعوا تلك المرافق التي حيرت الألباب في هندستها وتصاميمها وتنفيذها من البرك الجميلة ، والتماثيل الرائعة ، والدهاليز الفخمة. وذكر أن مهندسين وزنوا ماء الخالص حتى أدخلوه إلى الجانب الشرقي من بغداد ، لكنه لم يذكر لنا واحدا منهم ، ويصح ذلك على مئات الأطباء والصيادنة والصناعيين الذين أبدعوا آلات الجراحة مثلا حيث لم يتضمن الكتاب ترجمة أي واحد منهم.
من هنا ينبغي أن ندرك بأن تراجم «تاريخ مدينة السلام» عنيت بشرائح معينة من المجتمع البغدادي حسب ، وأن المصنف أسقط كثيرا من تراجم النخبة الذين وجدهم ، بناء على تكوينه الفكري وثقافته ، غير جديرين بالذكر والتدوين ، مما يتعين على الدارسين أخذ ذلك بنظر الاعتبار ، فهو في حقيقته لا يصور الحركة الفكرية ببغداد في المدة التي تناولها تصويرا حقيقيا وأمينا ، بل قد يعطي مفهوما معكوسا ويكون تصورا في ذهن القارئ ، وكأن ليس ببغداد إلا المحدثين والفقهاء ، والصوفية وبعض الشعراء والأدباء ، حتى بلغ الأمر به أن ترجم لمن يتعاطى الكدبة بسبب أنه سمع منه وريقات بإسناد نازل ، قال في ترجمة الحسين ابن الحسن بن أحمد الجواليقي المعروف بابن العريف : «كتبنا عنه ، وكان شيخا فقيرا يسأل الناس في الطرقات ، فلقيناه ناحية سوق باب الشام ، ودفع إليه بعض أصحابنا شيئا من الفضة ، وقرأت عليه أوراقا من كتاب لبعض أصحابنا كان كتبه عنه ، وذلك في سنة ثمان وأربع مئة» (1). وقد صارت هذه عادة لمن جاء بعده ونهج نهجه كأبي سعد السمعاني وابن الدبيثي وابن النجار ونحوهم.
أما الغرباء فقد وضح المصنف الأسس التي انتقى بموجبها تراجم هؤلاء الغرباء ، فقال : «ولم أذكر من محدثي الغرباء الذين قدموا مدينة السلام ولم يستوطنوها سوى من صح عندي أنه روى العلم بها. فأما من وردها ولم يحدث
صفحه ۴۳