الذیل علی طبقات الحنابله
الذيل علا طبقات الحنابلة
ناشر
مطبعة السنة المحمدية
محل انتشار
القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم. وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أزواجه الطيبات الطاهرات، أمهات المؤمنين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الشيخ الإمام، العالم المقرئ، العامل الزاهد، الحافظ المحدث، زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الزاهد، الإمام العالم المقرئ، شهاب الدين، أبى العباس أحمد بن حسن بن رجب - رحمهم الله تعالى برحمته -:
هذا كتاب جمعته، وجعلته ذيلا على كتاب «طبقات فقهاء أصحاب الإمام أحمد» للقاضى أبى الحسين محمد بن القاضى أبى يعلى. رحمهم الله تعالى.
وابتدأت فيه بأصحاب القاضى أبى يعلى. وجعلت ترتيبه على الوفيات.
والله المسئول أن ينفع به فى الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.
1 / 5
وفيات المائة الخامسة من سنة ٤٦٠ هـ - إلى سنة ٥٠٠ هـ
١ - على بن أبي طالب
بن زبيبا البغدادى، أبو الغنائم.
من قدماء أصحاب القاضى أبى يعلى، تفقه عليه.
قال القاضى أبو الحسين: كان يدرس فى الحريم بالمسجد المقابل لباب بدر، وله أيضا حلقة بجامع المهدى. وقرأ عليه أبو تراب بن البقال، وأبو الحسين ابن الفاعوس وغيرهما. ونسخ بخطه كثيرا من تصانيف القاضى، كالخلاف الكبير، نسخه مرتين، والعدة، وأحكام القرآن، والجامع الصغير. وغير ذلك.
وهو أول من توفى من أصحاب القاضى أبى يعلى بعده بنحو سنة. ودفن قريبا منه. ﵀.
ذكره ابن النجاد قال: كان من أعيان أصحاب القاضى أبى يعلى، وله حلقة بجامع المهدى للمناظرة. روى عن أبى الحسين بن بشران، ونصر بن محمد بن على الآمدى. روى عنه القاضى عزيزى بن عبد الملك الجيلى. ثم أرّخ وفاته يوم الخميس ثانى عشرين شهر ربيع الآخر سنة ستين وأربعمائة. وصلّى عليه من الغد بجامع القصر. وكان له جمع كثير.
و«زببيا» قيّده ابن نقطة: بكسر الزاى، وكسر الباء المعجمة بواحدة بعدها باء أخرى مثلها ساكنة، وياء مفتوحة معجمة من تحتها باثنتين.
وقال ابن عقيل: كان من أصحاب القاضى أبى يعلى أرباب الحلق: ابن البازكردى، وابن زبيبا، فقيهان مفتيان، ولهما حلقتان بجامع الرصافة، يقصّان الفقه شرحا للمذهب على وجه ينتفع به العوام.
٢ - علىّ بن الحسن القرميسينى أبو منصور.
ذكره أبو الحسين، وقال:
أحد من علق عن الوالد من الخلاف والمذهب. وسمع منه الحديث، وزوّج ابنته لأبى على بن البناء، وأولدها أبا نصر.
1 / 7
وتوفى فى رجب سنة ستين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
٣ - عبد الله بن عبد الله
بن عبيد الله بن توبة العكبرى، الخياط الأديب الكاتب، أبو محمد.
روى عن الأحنف العكبرى من شعره. روى عنه الخطيب.
وتوفى يوم الثلاثاء سابع عشر محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة.
ذكره ابن البناء فى تاريخه، وقال: هو صاحب الخط والأدب.
٤ - عبد الله البردانى،
أبو محمد الزّاهد.
كان منقطعا فى بيت بجامع المنصور، يتعبد خمسين سنة.
قال ابن البناء: كان من خيار المسلمين، لا يقبل من أحد شيئا، مع الزهادة والعبادة. روى عنه أبو بكر المزرفىّ الفرضى أنه قال: رأيت النبى ﷺ فى المنام، فقال لى: يا عبد الله، من تمسّك بمذهب أحمد فى الأصول سامحته فيما اجترح - أو فيما فرّط - فى الفروع.
وذكر ابن البناء، عمن يثق به: أنه رأى فى منامه، فى حياة البردانى - هذا - ملكين قد نزلا من السماء، فقال أحدهما لصاحبه: فيم جئت؟ قال:
جئت أخسف بأهل بغداد، فإنّه قد عمّ فيها الفساد! فقال له الملك الآخر: كيف تفعل هذا، وفيها عبد الله البردانى؟
قال ابن البناء: توفى عبد الله البردانى الزاهد الحنبلى يوم السبت سادس ربيع الأول، سنة إحدى وستين وأربعمائة. وصلّى عليه بجامع المنصور. وكان خلقا عظيما. ودفن فى مقبرة الإمام أحمد، وتولّى غسله والصلاة عليه الشريف أبو جعفر. رحمه الله تعالى.
٥ - علي بن محمد بن عبد الرحمن البغدادى،
أبو الحسن المعروف بالآمدى
1 / 8
ويعرف قديما بالبغدادى. نزل ثغر آمد. وهو أحد أكابر أصحاب القاضى أبى يعلى.
قال ابن عقيل فيه: بلغ من النظر الغاية، وكانت له مروءة. يحضر عنده الشيخ أبو إسحاق الشيرازى، وأبو الحسن الدّامغانى - وكانا فقيهين - فيضيفهما بالأطعمة الحسنة، وكان يتكلم معهما إلى أن يمضى من الليل أكثره.
وذكر أنه كان هو المتقدم على جميع أصحاب القاضى أبى يعلى.
قال ابن عقيل: وسمعت المتولى لما قدم: يذكر أنه لم يشهد فى سفره أحسن نظرا من الشيخ أبى الحسن البغدادى بآمد.
قال القاضى أبو الحسين، وتبعه ابن السّمعانى: أحد الفقهاء الفضلاء، والمناظرين الأذكياء. وسمع الحديث من أبى القاسم بن بشران، وأبى إسحاق البرمكى، وأبى الحسن بن الحرانى، وابن المذهب وغيرهم. وسمع من القاضى أبى يعلى، ودرس عليه الفقه، وأجلس فى حلقة النظر والفتوى بجامع المنصور فى موضع ابن حامد. ولم يزل يدرّس ويفتى ويناظر إلى أن خرج من بغداد، ولم يحدّث ببغداد بشئ، لأنه خرج منها فى فتنة البساسيرى، فى سنة خمسين وأربعمائة إلى آمد، وسكنها واستوطن بها، ودرس بها الفقه إلى أن مات فى سنة سبع - أو ثمان - وستين وأربعمائة. وقبره هناك مقصود بالزيارة. وكان يدرس فى مقصورة بجامع آمد.
وله هناك أصحاب يتفقهون عليه. وبرع منهم طائفة.
وله كتاب: «عمدة الحاضر وكفاية المسافر» فى الفقه، فى نحو أربع مجلدات، وهو كتاب جليل يشتمل على فوائد كثيرة نفيسة. ويقول فيه: ذكر شيخنا ابن أبى موسى فى الإرشاد، فالظاهر: أنه تفقه عليه أيضا. وسمع منه بآمد: أبو الحسن ابن الغازى السّنّة للخلاّل عن أبى إسحاق البرمكى، وعبد العزيز الأزجى.
٦ - محمد بن عمر بن الوليد الباجسرائى،
الفقيه، أبو عبد الله
1 / 9
قال أبو الحسين: كانت له حلقة بجامع المنصور، تردد إلى مجلس الوالد السعيد الزمان الطويل، وسمع منه الحديث والدرس.
ومات سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد بلغ من السنّ خمسا وتسعين سنة. رحمه الله تعالى.
٧ - محمد بن علي بن محمد
بن موسى بن جعفر، أبو بكر الخيّاط، المقرئ البغدادى.
ولد سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وقرأ على أبى أحمد الفرضى، وأبى الحسين السّوسنجردى، وبكر بن شاذان، وأبى الحسن الحمامي، وغيرهم. وسمع الحديث من ابن الصّلت المجبّر، وأبى عمر بن مهدى، وخلق من طبقتهما. ورأى أبا عبد الله بن حامد. وكان يتردّد إلى القاضى أبى يعلى، ويسمع درسه، ويحضر أماليه، واشتغل بإقراء القرآن، ورواية الحديث فى بيته ومسجده وجامع المنصور.
وكان يحضره خلق كثير.
وقرأ عليه خلق، منهم: القاضى أبو الحسين بن القاضى أبى يعلى، وأبو عبد الله البارع، وأبو بكر المزرفى، وهبة الله بن الطبرى.
وحدّث عنه جماعة كثيرون، منهم: أبو بكر الخطيب فى تاريخه، وأبو منصور القزاز، ويحيى بن الطراح، وغيرهم. وانتهى إليه إسناد القراءة فى وقته.
قال ابن الجوزى: ما يوجد فى عصره فى القراءات مثله. وكان ثقة صالحا.
وقال المؤتمن الساجى: كان شيخا ثقة فى الحديث والقراءة، صالحا، صبورا على الفقر.
وقال أبو ياسر البردانى: كان من البكائين عند الذكر، أثرت الدموع فى خدّيه.
وقال ابن النجار: كان شيخ القراء فى وقته، تفرد بروايات، وكان عالما، ورعا متدينا.
1 / 10
وذكره الذهبى فى طبقات القراء، فقال: كان كبير القدر، عديم النظير، بصيرا بالقراءات، صالحا عابدا، ورعا ناسكا، بكاء قانتا، خشن العيش، فقيرا متعففا، ثقة فقيها على مذهب أحمد. وآخر من روى عنه بالإجازة: أبو الكرم الشهرزورى.
قال ابن الجوزى: توفى ليلة الخميس ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة، ودفن فى مقبرة جامع المدينة - يعنى مدينة المنصور - وقال غيره:
صلّى عليه أبو محمد التميمى فى الجامع.
٨ - على بن الحسين
بن أحمد بن إبراهيم بن جدا، أبو الحسن العكبرى.
ذكره ابن شافع فى تاريخه، فقال: هو الشيخ الصالح، الزاهد، الفقيه، الأمّار بالمعروف، والنّهاء عن المنكر.
سمع: أبا على بن شاذان، والبرقانى، وأبا القاسم الخرقى، وأبا القاسم بن بشران. وكان فاضلا، خيرا ثقة، مستورا صينا، شديدا فى السنة على مذهب أحمد. رضى الله عنه.
وقال القاضى أبو الحسين، وابن السمعانى: كان شيخا صالحا، دينا كثير الصلاة، حسن التلاوة للقرآن، ذا لسن وفصاحة، فى المجالس والمحافل، وله فى ذلك كلام منثور، وتصنيف مذكور مشهور.
وذكره أبو الحسين وابن الجوزى وقالا: سمع من أبى على بن شهاب، وأبى على بن شاذان، وكان فقيها صالحا فصيحا.
قال أبو الحسين: قرأ الفقه على الوالد السعيد، وله مصنف فى الأصول.
وتوفى فجأة فى الصلاة فى رمضان سنة ثمان وستين وأربعمائة، ودفن فى مقبرة أحمد.
وذكر ابن شافع وغيره: أنه توفى يوم الأحد سابع عشر رمضان المذكور.
وقال ابن شافع: جدا - بفتح الجيم - كذا سمعته من أشياخنا، ورأيته مضبوطا بخط أسلافنا.
1 / 11
وروى عنه القاضى أبو بكر، وأبو منصور القزاز، وسمع منه مكى الرّميلى الحافظ وجماعة.
وقال ابن خيرون: حدث بشئ يسير، كان مستورا صينا ثقة.
وروى عنه الخطيب فقال: حدثنى على بن الحسين بن جدا العكبرى قال:
رأيت هبة الله الطبرى فى المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لى. قلت:
بماذا؟ قال: كلمة خفيفة: بالسنة.
قال الحافظ عبد القادر الرهاوى: أنبأنا أبو موسى المدينى الحافظ قال:
رأيت بخط ابن البناء - وقرأته على ابن ناصر بإجازته من ابن البناء - قال: حكى أبو الحسن على بن الحسين بن جدا العكبرى قال: سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلى الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود، فتناظرا.
قال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية. لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت.
فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمنى أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك. قال: فبهت.
أخبرنا محمد بن إسماعيل الصوفى - بالقاهرة - أخبرنا عبد العزيز بن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو على بن الحريف أخبرنا القاضى أبو بكر بن عبد الباقى أخبرنا أبو الحسن بن جدا أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبرى الحافظ قال: ذكر أن فتى من أصحاب الحديث أنشد فى مجلس أبى زرعة الرازى هذه الأبيات، فاستحسنت منه:
دين النبى «محمد» أختار … نعم المطية للفتى الآثار
لا تغفلنّ عن الحديث وأهله … فالرأى ليل، والحديث نهار
ولربّما غلط الفتى إثر الهدى … والشمس بازغة لها أنوار
٩ - عبيد الله بن محمد
بن الحسين الفراء، أبو القاسم بن القاضى أبى يعلى.
1 / 12
ذكره أخوه فى الطبقات، وأنه ولد يوم السبت سابع شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وقرأ بالروايات على أبى بكر الخياط، وابن البناء، وأبى الخطاب الصوفى، وأحمد بن الحسن اللحيانى، وغيرهم. وسمع الحديث من والده، وجده لأمه جابر بن ياسين، وأبى محمد الجوهرى، وغيرهم، وابن المهتدى وابن النّقور، وابن الآبنوسى، وابن المسلمة، وابن المأمون، والصّريفينى، وغيرهم.
ورحل فى طلب الحديث والعلم إلى: واسط، والبصرة، والكوفة، وعكبرا، والموصل، والجزيرة، وآمد، وغير ذلك.
وقرأ بآمد من الفقه على أبى الحسن البغدادى قطعة صالحة من الخلاف والمذهب. وكان قد علق قبل سفره على الشريف أبى جعفر، وكان قد حضر قبل ذلك درس والده وعلق عنه.
وكان يحضر مجالس النظر فى الجمع وغيرها، ويتكلم فى المسائل مع شيوخ عصره. وكان والده يأتم به فى صلاة التراويح إلى أن توفى. وكان أكبر ولد القاضى أبى يعلى، وهو الذى تولى الصلاة عليه بجامع المنصور. وكان ذا عفة، وديانة وصيانة، حسن التلاوة للقرآن، كثير الدرس له، مع معرفته بعلومه. وله معرفة بالجرح والتعديل، وأسماء الرجال والكنى، وغير ذلك من علوم الحديث، حسن القراءة، وله خط حسن.
ولما وقعت فتنة ابن القشيرى: خرج إلى مكة، فتوفى فى مضيه إليها بموضع يعرف بمعدن النقرة، أواخر ذى القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة، وله ست وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونيف وعشرون يوما تقريبا. ﵀ وعوضه الجنة.
١٠ - محمد بن أحمد بن محمد
بن الحسن بن على بن الحسين بن هارون، أبو الحسن البردانى الفرضى الأمين. والد الحافظ أبى على، الآتى ذكره إن شاء الله تعالى.
ولد بالبردان سنة ثمان وثمانين - وقيل: سنة ثمان وسبعين - وثلاثمائة. ونشأ بها
1 / 13
ثم انتقل إلى بغداد سنة ست وأربعين وأربعمائة واستوطنها. وسمع الكثير من أبى الحسن بن رزقويه، وأبى الحسين بن بشران، وأخيه أبى القاسم، وأبى الفضل التميمى، وأخيه أبى الفرج، وأبى الحسن بن مخلد، وأبى على بن شاذان، البرقانى، وخلق.
وروى عنه ولداه: أبو على، وأبو ياسر، والقاضى أبو بكر بن عبد الباقى وغيرهم.
قال القاضى أبو الحسين بن أبى يعلى: صحب الوالد، وتردد إلى مجالسه فى الفقه وسماع الحديث، وكان رجلا صالحا.
قال ابن النجار: وكان رجلا صالحا صدوقا، حافظا لكتاب الله تعالى، عالما بالفرائض وقسمة التركات. كتب بخطه الكثير، وخرّج تخاريج، وجمع فنونا من الأحاديث وغيرها. وخطه ردئ كثير السقم. وكان أمين القاضى أبى الحسين بن المهتدى. ثم ذكر عن ابنه أبى ياسر عبد الله: أن أباه أبا الحسن سرد الصوم ثلاثين سنة.
وذكر عن السلفى: أنه جرى ذكر ابنه أبى علي، فقال الحافظ أبو محمد السمرقندى: لو رأيت أباه وصلاحه لرأيت العجب. روى لنا عن ابن رزقويه وطبقته. وكان فقيها، وضيئا محدثا، مرضيا.
وذكر عن ابن خيرون: أن البردانى كان رجلا صالحا ثقة.
وقال ابن الجوزى: كان له علم بالقراءات والفرائض. وكان ثقة، عالما صالحا أمينا.
توفى يوم الخميس ثامن عشرين ذى القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة.
ودفن يوم الجمعة بباب حرب. كذا ذكره ابن النجار.
وذكر ابن شافع: أنه توفى ليلة الجمعة تاسع عشرين ذى القعدة؛ ثم قال:
قرأت بخط ابنه أبى علي: أن أباه توفى يوم الخميس مستهل ذى الحجة من السنة.
قال: وصليت عليه يوم الجمعة فى المقصورة. وتبعه خلق عظيم. رحمه الله تعالى
1 / 14
قلت: له كتاب «فضيلة الذكر والدعاء» رواه عنه ابنه أبو على.
أخبرنا محمد بن إسماعيل الأيوبى الصوفى - بالقاهرة - أخبرنا عبد العزيز ابن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو على الحريف أخبرنا القاضى أبو بكر محمد بن عبد الباقى أخبرنا أبو الحسن البردانى أخبرنا أبو الحسن بن مخلد أخبرنا إسماعيل الصفار حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا المعتمر بن سليمان: سمعت عاصما الأحول يقول: حدثنى شرحبيل أنه سمع أبا سعيد، وأبا هريرة، وابن عمر يحدّثون أن نبى الله ﷺ قال: «الذّهب بالذّهب وزنا بوزن، مثلا بمثل.
من زاد أو ازداد فقد أربى».
وأنبأناه عاليا أبو الفتح الميدومى أخبرنا عبد اللطيف بن عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو الفرج بن كليب أخبرنا أبو القاسم بن بيان أخبرنا ابن مخلد - فذكره.
١١ - عبد الخالق بن عيسى
بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، الشريف أبو جعفر بن أبى موسى الهاشمى العباسى.
و«أبو موسى» هو كنية جده الأعلى: عيسى بن أحمد بن موسى.
هذا هو الصحيح فى نسبه. وهو الذى ذكره صاحباه القاضيان: أبو بكر الأنصارى، وأبو الحسين بن القاضى، وابن الجوزى، وابن السمعانى، وغيرهم.
فإن الشريف أبا جعفر هو ابن أخ الشريف أبى على محمد بن أحمد بن محمد ابن عيسى بن أحمد بن موسى صاحب «الإرشاد».
ووقع فى تاريخ ابن شافع وغيره: عبد الخالق بن أحمد بن عيسى بن أبى موسى عيسى بن أحمد، وهو وهم.
ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
1 / 15
قال ابن الجوزى: كان عالما فقيها، ورعا عابدا، زاهدا، قوالا بالحق، لا يحابى، ولا تأخذه فى الله لومة لائم.
سمع أبا القاسم بن بشران، وأبا محمد الخلال، وأبا إسحاق البرمكى، وأبا طالب العشارى، وغيرهم.
وتفقه على القاضى أبى يعلى، وشهد عند أبى عبد الله الدامغانى، ثم ترك الشهادة قبل وفاته. ولم يزل يدرس بمسجده بسكة الخرقى من باب البصرة وبجامع المنصور. ثم انتقل إلى الجانب الشرقى، فدرس فى مسجد مقابل لدار الخلافة، ثم انتقل - لأجل ما لحق نهر المعلّى من الغرق - إلى باب الطاق، وسكن درب الديوان من الرّصافة، ودرس بمسجد على باب الدرب، وبجامع المهدى.
وذكر القاضى أبو الحسين نحو ذلك، وقال: بدأ بدرس الفقه على الوالد من سنة ثمان وعشرين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسين، يقصد إلى مجلسه ويعلق، ويعيد الدّرس فى الفروع وأصول الفقه. وبرع فى المذهب، ودرّس، وأفتى فى حياة الوالد.
وكان مختصر الكلام، مليح التّدريس، جيد الكلام فى المناظرة، عالما بالفرائض، وأحكام القرآن والأصول. وكان له مجلس للنظر فى كل يوم اثنين ويقصده جماعة من فقهاء المخالفين. وكان شديد القول واللسان على أهل البدع ولم تزل كلمته عالية عليهم، ولا يردّ يده عنهم أحد. وانتهى إليه فى وقته الرحلة لطلب مذهب الإمام أحمد.
وذكره ابن السمعانى فقال: إمام الحنابلة فى عصره بلا مدافعة. مليح التدريس، حسن الكلام فى المناظرة، ورع زاهد، متقن عالم بأحكام القرآن والفرائض، مرضى الطريقة. ثم ذكر بعض شيوخه، وقال: روى لنا عنه أبو بكر محمد بن عبد الباقى البزار، ولم يحدثنا عنه غيره.
وقال ابن خيرون: مقدم أهل زمانه شرفا، وعلما وزهدا.
1 / 16
وقال ابن عقيل: كان يفوق الجماعة من أهل مذهبه وغيرهم فى علم الفرائض.
وكان عند الإمام - يعنى الخليفة - معظما حتى إنه وصّى عند موته بأن يغسله، تبركا به. وكان حول الخليفة ما لو كان غيره لأخذه. وكان ذلك كفاية عمره فو الله ما التفت إلى شئ منه، بل خرج ونسى مئزره حتى حمل إليه. قال:
ولم يشهد منه أنه شرب ماء فى حلقة على شدة الحر، ولا غمس يده فى طعام أحد من أبناء الدنيا.
قلت: وللشريف أبى جعفر تصانيف عدّة، منها «رءوس المسائل» وهى مشهورة، ومنها «شرح المذهب» وصل فيه إلى أثناء الصّلاة، وسلك فيه مسلك القاضى فى الجامع الكبير. وله جزء فى أدب الفقه، وبعض فضائل أحمد، وترجيح مذهبه. وقد تفقه عليه طائفة من أكابر المذهب، كالحلوانى، وابن المخرّمى، والقاضى أبى الحسين.
وكان معظما عند الخاصة والعامة، زاهدا فى الدنيا إلى الغاية، قائما فى إنكار المنكرات بيده ولسانه، مجتهدا فى ذلك.
قال أبو الحسين، وابن الجوزى: لما احتضر القاضى أبو يعلى أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، فلما احتضر القائم بأمر الله قال: يغسلنى عبد الخالق، ففعل، ولم يأخذ مما هناك شيئا. فقيل له: قد وصى لك أمير المؤمنين بأشياء كثيرة، فأبى أن يأخذ. فقيل له: فقميص أمير المؤمنين تتبرك به! فأخذ فوطة نفسه، فنشفه بها، وقال: قد لحق هذه الفوطة بركة أمير المؤمنين. ثم استدعاه فى مكانه المقتدى، فبايعه منفردا. قال: وكان أول من بايع، وقال الشريف: لما بايعته أنشدته:
«إذا سيّد منّا مضى قام سيّد
ثم أرتج عليّ تمامه، فقال هو:
قئول لما قال الكرام فعول
1 / 17
قال: وأنبأنا ابن عبد الله عن أبى محمد التميمى قال: ما حسدت أحدا إلاّ الشريف أبا جعفر، فى ذلك اليوم، وقد نلت مرتبة التدريس والتذكير والسفارة بين الملوك، ورواية الأحاديث، والمنزلة اللطيفة عند الخاص والعام.
فلمّا كان ذلك اليوم خرج الشريف علينا، وقد غسل القائم عن وصيته بذلك.
ثم لم يقبل شيئا من الدنيا، ثم انسل طالبا لمسجده، ونحن كلّ منا جالس على الأرض متحف، متغير لونه، مخرق لثوبه، يهوله ما يحدث به بعد موت هذا الرجل على قدر ما له تعلق بهم، فعرفت أن الرجل هو ذلك.
قال القاضى أبو الحسين - أى ابن أبى يعلى -: قلت له - أى قلت لعبد الخالق - بعد اجتماعه معه: أين سهمنا مما كان هناك؟ فقال: أحييت جمال شيخنا والدك الإمام أبى يعلى. يقال: هذا غلامه، تنزه عن هذا القدر الكثير، فكيف لو كان هو؟
وفى سنة أربع وستين وأربعمائة: اجتمع الشريف أبو جعفر ومعه الحنابلة فى جامع القصر، وأدخلوا معهم أبا إسحاق الشيرازى وأصحابه. وطلبوا من الدولة قلع المواخير، وتتبع المفسدين والمفسدات، ومن يبيع النبيذ، وضرب دراهم تقع بها المعاملة عوض القراضة. فتقدم الخليفة بذلك. فهرب المفسدات، وكبست الدور، وأريقت الأنبذة. ووعدوا بقلع المواخير، ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب الدراهم التى يتعامل بها. فلم يقنع الشريف ولا أبو إسحاق بهذا الوعد. وبقى الشريف مدة طويلة متعتبا مهاجرا لهم.
وحكى أبو المعالى صالح بن شافع عمن حدّثه: أن الشريف رأى محمدا وكيل الخليفة حين غرقت بغداد سنة ست وستين، وجرى على دار الخلافة العجائب، وهم فى غاية التخبط. فقال الشريف أبو جعفر: يا محمد، يا محمد، فقال له: لبيك يا سيدنا، فقال له: قل له: كتبنا وكتبتم، وجاء جوابنا قبل جوابكم، يشير إلى قول الخليفة: سنكاتب فى رفع المواخير، ويريد بجوابه: الغرق وما جرى فيه
1 / 18
وفى سنة ستين وأربعمائة كان أبو على بن الوليد - شيخ المعتزلة - قد عزم على إظهار مذهبه لأجل موت الشيخ الأجل أبى منصور بن يوسف، فقام الشريف أبو جعفر، وعبر إلى جامع المنصور، هو وأهل مذهبه، وسائر الفقهاء وأعيان أهل الحديث، وبلغوا ذلك. ففرح أهل السنة بذلك، وقرءوا كتاب التوحيد لابن خزيمة. ثم حضروا الديوان، وسألوا إخراج الاعتقاد الذى جمعه الخليفة القادر. فأجيبوا إلى ذلك. وقرئ هناك بمحضر من الجميع، واتفقوا على لعن من خالفه، وتكفيره. وبالغ ابن فورك فى ذلك.
ثم سأل الشريف أبو جعفر، والزاهد الصحراوى: أن يسلم إليهم الاعتقاد، فقال لهم الوزير: ليس ههنا نسخة غير هذه. ونحن نكتب لكم به نسخة لتقرأ فى المجالس. فقالوا: هكذا فعلنا فى أيام القادر، قرئ فى المساجد والجوامع.
فقال: هكذا تفعلون، فليس اعتقاد غير هذا، وانصرفوا. ثم قرئ بعد ذلك الاعتقاد بباب البصرة، وحضره الخاص والعام.
وكذلك أنكر الشريف أبو جعفر على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وغيره، فاختفى مدة ثم تاب وأظهر توبته. وسنذكر مضمون ذلك فى ترجمة ابن عقيل، إن شاء الله تعالى.
وآخر ذلك كله: فتنة ابن القشيرى، قام فيها الشريف قياما كليا، ومات فى عقبها.
ومضمون ذلك: أن أبا نصر بن القشيرى ورد بغداد، سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس فى النظامية. وأخذ يذم الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم.
وكان المتعصب له أبو سعد الصوفى، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازى، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة، ويسأله المعونة. فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبى جعفر فى مسجده، والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومه إن وقعت. فلما وصل أولئك إلى باب المسجد
1 / 19
رماهم هؤلاء بالآجر. فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة، وجرح آخرون، وأخذت ثياب.
وأغلق أتباع ابن القشيرى أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور - يعنون العبيدى صاحب مصر - وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسى، وأنه ممالئ للحنابلة، لا سيما والشريف أبو جعفر ابن عمه.
وغضب أبو إسحاق، وأظهر التأهب للسفر. وكاتب فقهاء الشافعية نظام الملك بما جرى، فورد كتابه بالامتعاض من ذلك، والغضب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى. وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما.
وحكى أبو المعالى صالح بن شافع، عن شيخه أبى الفتح الحلوانى وغيره، ممن شاهد الحال: أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة. فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن جردة، فتلطفوا به حتى حضر فى الليل، وحضر أبو إسحاق، وأبو سعد الصوفى، وأبو نصر بن القشيرى. فلما حضر الشريف عظّمه الوزير ورفعه، وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين فى عقائدهم، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد، وأمرهم بالدنوّ من الشريف. فقام إليه أبو إسحاق، وكان يتردد فى أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ، فقال:
أنا ذاك الذى تعرف، وهذه كتبى فى أصول الفقه، أقول فيها: خلافا للأشعرية، ثم قبل رأسه.
فقال له الشريف: قد كان ما تقول، إلاّ أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما فى نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجا بزرك (^١) - يعنى النظام - أبديت ما كان مخفيا.
_________
(^١) معناه: العظيم. وكان لقب الوزير نظام الملك
1 / 20
ثم قام أبو سعد الصوفى، فقبّل يد الشريف، وتلطف به، فالتفت مغضبا وقال: أيها الشيخ، إنّ الفقهاء إذا تكلموا فى مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت: فصاحب لهو وسماع وتعبير فمن، زاحمك على ذلك حتى داخلت المتكلمين والفقهاء، فأقمت سوق التعصب؟
ثم قام ابن القشيرى - وكان أقلّهم احتراما للشريف - فقال الشريف:
من هذا؟ فقيل: أبو نصر بن القشيرى، فقال لو جاز: أن يشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب؛ لأنه باد هنا بما فى نفسه، ولم ينافقنا كما فعل هذان.
ثم التفت إلى الوزير فقال: أى صلح يكون بيننا؟ إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية، أو دنيا، أو تنازع فى ملك. فأما هؤلاء القوم: فإنهم يزعمون أنّا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرا، فأىّ صلح بيننا؟ وهذا الإمام يصدع المسلمين، وقد كان جدّاه - القائم والقادر - أخرجا اعتقادهما للناس، وقرئ عليهم فى دواوينهم، وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض، ونحن على اعتقادهما.
وأنهى الوزير إلى الخليفة ما جرى، فخرج فى الجواب: عرف ما أنهيته من حضور ابن العم - كثّر الله فى الأولياء مثله - وحضور من حضر من أهل العلم. والحمد لله الذى جمع الكلمة، وضم الألفة، فليؤذن للجماعة فى الانصراف، وليقل لابن أبى موسى: إنه قد أفرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع فى كثير من الأمور المهمة، وليتبرك بمكانه.
فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها.
فحمل إلى موضع أفرد له بدار الخلافة. وكان الناس يدخلون عليه مدة مديدة. ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة، فاقتصر على من تعيّن دخوله، فقال: مالى غرض فى دخول أحد علىّ. فامتنع الناس.
ثم إن الشريف مرض مرضا أثّر فى رجليه فانتفختا. فيقال: إن بعض المتفقّهة من الأعداء ترك له فى مداسه سما. والله تعالى أعلم.
1 / 21
ثم إن أبا نصر بن القشيرى أخرج من بغداد، وأمر بملازمة بلده لقطع الفتنة.
وذلك نفى فى الحقيقة.
قال ابن النجار: كوتب نظام الملك الوزير بأن يأمره بالرجوع إلى وطنه، وقطع هذه الثائرة، فبعث واستحضره، وأمره بلزوم وطنه، فأقام به إلى حين وفاته
قال القاضى أبو الحسين: أخذ الشريف أبو جعفر فى فتنة أبى نصر بن القشيرى، وحبس أياما، فسرد الصوم وما أكل لأحد شيئا.
قال: ودخلت عليه فى تلك الأيام ورأيته يقرأ فى المصحف، فقال لى:
قال الله تعالى: (٤٥:٢ ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)﴾ تدرى ما الصبر؟ قلت:
لا، قال: هو الصوم. ولم يفطر إلى أن بلغ منه المرض، وضج الناس من حبسه.
وأخرج إلى الحريم الطاهرى بالجانب الغربى (^١) فمات هناك.
وذكر ابن الجوزى: أنه لما اشتد مرضه، تحامل بين اثنين، ومضى إلى باب الحجرة، فقال: جاء الموت، ودنا الوقت، وما أحبّ أن أموت إلا فى بيتى بين أهلى. فأذن له. فمضى إلى بيت أخته بالحريم.
قال: وقرأت بخط أبى على بن البناء قال: جاءت رقعة بخط الشريف أبى جعفر، ووصيته إلى أبى عبد الله بن جردة فكتبها. وهذه نسختها:
«مالى - يشهد الله - سوى الحبل والدلو، وشئ يخفى علىّ لا قدر له.
والشيخ أبو عبد الله، إن راعاكم بعدى، وإلاّ فالله لكم. قال الله ﷿:
(٩:٤ ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ)﴾ ومذهبى: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وما عليه أحمد، ومالك والشافعى، وغيرهم ممن يكثر ذكرهم، والصلاة: بجامع المنصور إن سهل الله تعالى ذلك عليهم.
_________
(^١) نسبة إلى طاهر بن الحسين. وبه كانت منازلهم. وسمى «الحريم» لأن من لجأ إليه أمن.
1 / 22
ولا يعقد لى عزاء، ولا يشق علىّ جيب، ولا يلطم خد. فمن فعل ذلك فالله حسيبه».
وتوفى رحمه الله تعالى ليلة الخميس سحرا، خامس عشر صفر سنة سبعين وأربعمائة، وغسله أبو سعيد البردانى، وابن الفتى بوصية منه، وكانا قد خدماه طول مرضه.
وصلّى عليه يوم الجمعة ضحى بجامع المنصور، وأمّ الناس أخوه الشريف أبو الفضل محمد. ولم يسع الجامع الخلق وانضغطوا، ولم يتهيأ لكثير منهم الصلاة، ولم يبق رئيس ولا مرءوس من أرباب الدولة وغيرهم إلا حضره، إلا من شاء الله، وازدحم الناس على حمله. وكان يوما مشهودا بكثرة الخلق. وعظم البكاء والحزن. وكانت العامة تقول: ترحّموا على الشريف الشهيد، القتيل المسموم؛ لما ذكر من أن بعض المبتدعة: ألقى فى مداسه سما. ودفن إلى جانب الإمام أحمد.
قال ابن السمعانى: سمعت أبا يعلى بن أبى حازم بن أبى يعلى بن الفراء الفقيه الحنبلى - يوم خرجنا إلى الصلاة على شيخنا أبى بكر بن عبد الباقى، ورأى ازدحام العوام، وتزاحمهم لحمل الجنازة - فقال أبو يعلى: العوام فيهم جهل عظيم.
سمعت أنه فى اليوم الذى مات فيه الشريف أبو جعفر حملوه ودفنوه فى قبر الإمام أحمد، وما قدر أحد أن يقول لهم: لا تنبشوا قبر الإمام أحمد، وادفنوه بجنبه.
فقال أبو محمد التميمى - من بين الجماعة - كيف تدفنونه فى قبر الإمام أحمد بن حنبل وبنت أحمد مدفونة معه فى القبر؟ فإن جاز دفنه مع الإمام لا يجوز دفنه مع ابنته.
فقال بعض العوام: اسكت، فقد زوجنا بنت أحمد من الشريف، فسكت التميمى، وقال: ليس هذا يوم كلام.
ولزم الناس قبره، فكانوا يبيتون عنده كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، ويخرج المتعيشون، فيبيعون الفواكه والمأكولات، فصار ذلك فرجة للناس. ولم
1 / 23
يزالوا على ذلك مدة شهور، حتى دخل الشتاء ومنعهم البرد. فيقال إنه: قرئ على قبره فى تلك المدة عشرة آلاف ختمة.
ورآه بعضهم فى المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لما وضعت فى قبرى رأيت قبة من درة بيضاء لها ثلاثة أبواب، وقائل يقول: هذه لك، أدخل من أى أبوابها شئت.
ورآه آخر فى المنام، فقال: ما فعل الله بك؟ قال: التقيت بأحمد بن حنبل فقال لى: يا أبا جعفر، لقد جاهدت فى الله حق جهاده، وقد أعطاك الله الرضى رضى الله عنه.
وقع لى جملة من حديث الشريف أبى جعفر بالسماع، فمنها: ما أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الصوفى - بالقاهرة - أخبرنا أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرانى أخبرنا أبو على بن أبى القاسم ابن الحريف أخبرنا القاضى أبو بكر محمد بن عبد الباقى البزار أخبرنا أستاذى أبو جعفر عبد الخالق ابن عيسى الهاشمى - بقراءتى عليه - قلت له: حدثكم أبو القاسم عبد الملك بن محمد ابن بشران أخبرنا أبو على محمد بن أحمد بن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبى، حدثنا يزيد بن هارون وأبو عبد الرحمن قالا: أخبرنا المسعود عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبى طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبى هريرة عن النبى ﷺ قال: «لا يلج النار أحد بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن فى الضرع، ولا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم فى منخرى امرئ أبدا».
وقرأت بخط ابن عقيل فى الفنون قال: مما استحسنته من فقه الشريف الإمام الزاهد أبى جعفر عبد الخالق بن عيسى بن أبى موسى الهاشمى رضى الله عنه وتدقيقه - وإن كان أكثر من أن يحصى -: ما قاله فى أوائل قدوم الغزالى بغداد، وجعلوا يأخذون من أموال الناس فى الطرقات، وتقصر أيدى العوام عنهم، فقال: الذى نسبه من مذهب أبى حنيفة: أن تجرى عليهم أحكام
1 / 24
قطّاع الطريق، وإن كان ذلك فى الحضر. لأنهم عللوا بأن فى الحضر يلحق الغوث، فلا يكون لهم حكم قطاع الطريق فى الصحارى والبرارى. وهذا التعليل موجود فى الحضر؛ لأنه لا مغيث يغيث منهم، لقوتهم واستطالتهم على العوام.
قلت: هذا قريب من قول القاضى أبى يعلى: إن أصحابنا اختلفوا فى المحاربين فى الحضر: هل تجرى عليهم أحكام المحاربين؟ فظاهر كلام الخرقى:
أنها لا تجرى عليهم. وقال أبو بكر: بل أحكام المحاربين جارية عليهم. وفصّل القاضى بين أن يفعلوا ذلك فى حضر يلحق فيه الغوث عادة أولا. فإن كان يلحق فيه الغوث عادة: فليسوا بمحاربين، وإلاّ فهم محاربون. ومعلوم أن السلطان إذا امتنع من دفعهم - إمّا لضعفه وعجزه، وإما لكونه ظالما يسلط أعوانه على الظلم - تعذّر لحوق الغوث مع ذلك عادة. فيثبت لهم - على قوله - أحكام المحاربين والله أعلم.
ونقلت من بعض تعاليق الإمام أبى العباس أحمد بن تيمية ﵀. مما نقله من الفنون لابن عقيل: حادثة رجل حلف على زوجته بالطلاق الثلاث:
لا فعلت كذا، فمضى على ذلك مدة، ثم قالت: قد كنت فعلته. هل تصدق مع تكذيب الزوج لها؟ أجاب الشريف الإمام أبو جعفر بن أبى موسى: تصدّق ولا ينفعه تكذيبه. وأجاب الشيخ الإمام أبو محمد: لا تصدق عليه، والنكاح بحاله.
قلت: أبو محمد: أظنه التميمى.
ومن الفنون أيضا: مسألة، إذا وجد على ثوبه ماء واشتبه عليه: أمذى أم منى؟ إن قلتم: يجب حمله على أقل الأحوال، من كونه مذيا، لأن الأصل سقوط غسل البدن: أوجبتم غسل الثوب. لأن المذى نجس، والأصل سقوط غسل الثوب متقابلا. فقال الشريف أبو جعفر بن أبى موسى رضى الله عنه:
لا يجب غسل الثوب ولا البدن جميعا، لتردد الأمر فيهما. وأوجب غسل أربعة الأعضاء. لأن الخارج - أىّ خارج كان - يوجب غسل الأعضاء.
1 / 25