واستسلمت لهم سائر المدن الفينيقية، وقد وجد اسم حفرع مكتوبا على الآثار الفينيقية، ثم عاد بختنصر فأقر سلطته على الفينيقيين. وأما بعل الذي ملكه بختنصر على عرش صور فلم تتجاوز مدة ملكه عشر سنوات ، وذلك من سنة 573 إلى سنة 563ق.م، فثار الصوريون واستبدلوا الحكومة الملكية بحكومة جمهورية يحكمها قضاة كانوا يسمونهم شفط، فكان أول قاض فيهم أكينعل، ثم تولى بعده كالب، ثم آبار عظيم الكهنة، ثم موتون وجيروست، ثم بلاتور، ثم استدعى الصوريون مور بعل من بابل وجعلوه ملكا عليهم. ثم خلفه أخوه حيرام، وفي أيامه خضعت فينيقية لكورش ملك فارس، ومات حيرام سنة 531، فخلفه ابنه موتون ونهج في السياسة نهج أبيه، فلبث يؤدي الجزية مع سائر الملوك الفينيقيين إلى الفرس. وقد أحسن كورش إلى اليهود وأذن لهم بترميم أورشليم ، فأتى اثنان وأربعون ألفا منهم كانوا قد جلوا إلى بابل وشرعوا في ترميم أورشليم، فاحتاجوا إلى مساعدة الصوريين والصيدونيين بالأخشاب اللازمة لهم من لبنان، فكانوا لذلك يعطونهم زيتا ومأكلا مكافأة لهم على تلك المساعدة.
ولما قضى كورش قتيلا في حرب وقعت له مع بعض قبائل التتر، وخلفه ابنه كمبيس اجتاز فينيقية لمحاربة مصر، وكان الفينيقيون منقادين لسلطته، ولكنه لما شاء محاربة قرطاجنة والاستيلاء عليها أبى الفينيقيون أن يساعدوه على ذوي قرباهم الذين كانوا مرتبطين معهم بعهد إخاء، فضلا عن رابطة النسب، معتذرين بأن دينهم يمنعهم من محاربة إخوانهم. ولم ير كمبيس من الحكمة أن يسلك معهم سبيل القسوة والجفاء؛ لأن نخبة جنوده البحرية منهم. ولبث الفينيقيون على طاعة الفرس في أيام داريوس (دارا) الذي استوى على عرش الملك من سنة 521 إلى سنة 485ق.م، ولم يثوروا مع من ثار عليه من أهل أقاليم ملكه. ولبثت الأساطيل الفينيقية منقادة بأمر الفرس، وقد استخدمها داريوس في افتتاح الجزر عند ساحل آسيا الصغرى، وجزأ داريوس مملكته إلى تسع عشرة ولاية؛ فكانت فينيقية وسورية وفلسطين وقبرس الخامسة من تلك الولايات، ثم إن الفينيقيين أقاموا على طاعة الفرس في أيام كي خسرو (المسمى عند العرب كركس) وهو ابن دارا، تبوأ عرش الملك سنة 485ق.م، وبعد أن أخضع المصريين حمل على اليونان، فاستخدم لذلك أساطيل الفينيقيين، وقد بدت منهم علائم البسالة وشدة البأس في الحرب التي شبت بينهم وبين الأعداء، إلا أنهم لما كسروا في إحدى المواقع وشى بهم إلى ملك الفرس؛ فتغيظ عليهم وأمر بضرب رءوس كثيرين منهم. فلما رأى الفينيقيون ذلك وأن الدائرة ربما دارت على الفرس، وأوجسوا خيفة من عواقب ذلك من المعرة والإهانة؛ رجعوا بسفنهم إلى مواطنهم ولم يبق إلا بعض من السفن لنقل الذخائر والمعدات.
وفي أيام أرتحشستا الذي خلف كي خسرو على مملكة فارس، وذلك سنة 465ق.م كانت السفن اليونانية تسطو على الثغور الفينيقية منتصرة للمصريين على الفرس، وكان الحكام على فينيقية إذ ذاك ولاة من قبل الفرس، ولبث حال الفينيقيين على هذا المنوال والمحاربات بين الفرس والمصريين مستعرة نيرانها، حتى رقي عرش الملك في فارس أرتحشستا الثالث الملقب أوكوس سنة 359ق.م، فشرع يفكر في إصلاء الحرب على المصريين؛ فجهز لذلك جيشا كبيرا. وكان ملك المصريين نكتابنو، فغلب نكتابنو أوكوس غلبة شديدة، فأفضى ذلك إلى أن الفينيقيين وغيرهم ممن استقرت ولاية الفرس عليهم عمدوا إلى شق عصا الطاعة، وكان والي فينيقية حينئذ تيناس فزحف أرتحشستا إليهم بجيش جرار ينوي الانتقام من الفينيقيين ولا سيما الصيدونيين. وكانت مصر قد بعثت إلى تيناس ببعث من اليونان لنجدته يرأسه منتور الرودسي، وأما تيناس فتولاه الرعب وتواطأ مع أوكوس على تسليم صيدا، وأما الصيدونيون فجهزوا أسطولهم وتحصنوا بسور منيع غير عالمين بخيانة تيناس، فلما دنا أوكوس من المدينة خرج إليه تيناس يقود مائة رجل من أعيان المدينة كانوا سببا في إثارة العصيان ودفعهم إلى أوكوس، فأمر أوكوس بقتلهم فقتلوا، ثم اقترب الفرس من المدينة فمثل لديهم خمسمائة رجل من أهلها يرفعون على أكفهم عرائض التسليم والطاعة، فلم ينثن أوكوس عن عزمه من الانتقام؛ فأمر بقتل الخمسمائة. وكان تيناس قد تواطأ مع الجنود المصرية على إخلاء السبيل للفرس حتى يلجوا المدينة، فلما رأى الصيدونيون ما نالهم من الخيانة وما حاق بهم من الخطر آثروا أن يجرعوا كأس الحمام من يد أنفسهم على أن يقعوا في قبضة الفرس، فأحرقوا لذلك سفنهم قطعا لوسائل نجاتهم بها، ثم أووا منازلهم بنسائهم وأبنائهم وأموالهم وأضرموا بها النيران حتى أصبحت المدينة كلها شعلة من نار فاحترقوا جميعا، وبلغ عدد الذين أكلتهم النيران أربعين ألف نفس، وأما تيناس وقد كبر عليه أمر الخيانة التي أتاها، فنوى أن يقتل نفسه، فسبقته زوجه إلى ذلك وقتلته، ثم قتلت نفسها بعده.
وبالجملة، فإن الفينيقيين لبثوا تحت نير سلطة الفرس حتى ظهر إسكندر المكدوني، ويلقبه العرب بذي القرنين. قيل إنه لقب بذلك؛ لأنه ملك قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقيل: لأنه كان له جواد رأسه رأس عجل، وقيل: لذؤابتين برأسه. وتبوأ تخت المملكة في مكدونية سنة 336ق.م ، وتيسر له أن ضم إليه الممالك اليونانية بأسرها، ثم سطا على ملك الفرس، وكان حينئذ داريوس الثالث فغلبه، وجعل على البقاع ودمشق عاملا من رجاله اسمه مانون، وقيل: بارمانيون وسيره إلى عمله، وأما الإسكندر نفسه فأتى الثغور الفينيقية فلقيه في الطريق عشتروت ابن ملك أرواد، ودفع إليه تاجا من ذهب وسلمه أرواد وضواحيها، وكان ملكها جيرو عشتروت وأنيل ملك جبيل وغيرهما من ملوك فينيقية متغيبين بالأسطول البحري بأمر من دولة الفرس، فلما دنا الإسكندر من جبيل خرج إليه أهلها وملكوه المدينة مستسلمين له، ثم سار إلى صيدا فتملكها بعد أن تملك سائر المدن التي كانت في طريقه، ولما بلغ صور خرج إليه جماعة من أهلها يبدون الطاعة، فلأسباب سياسية أبى الإسكندر إلا أن يتملك المدينة تملكا حقيقيا، فأفضى الأمر إلى الحرب فانتصر الإسكندر بعد أن حاصر المدينة مدة سبعة أشهر، وفتك جنده بالصوريين فتكا ذريعا، ثم جاء الإسكندر بجماعة من الكاريين وأسكنهم في المدينة، ثم سار إلى غزة فأخذها عنوة.
ولم تلبث سورية أن دانت بجملتها لإسكندر فأصبحت ولاية مكدونية
17
بعد أن كانت ولاية فارسية، وبعد أن قضى الإسكندر نحبه سنة 323ق.م وحدث ما حدث من التنازع بين خلفائه؛ انقسمت ممالكه إلى أربعة أقسام، فخرجت سورية وما يتصل بها من البحر الأسود إلى نهر أندوس في الهند نصيبا لسلوقس بن ديمتريوس نيقانور أحد قادة الإسكندر، وهو أول الدولة السلوقية التي بعد أن اشتد بأسها وعظم سلطانها ببناء مدينة أنطاكية الحصينة سنة 300ق.م على ضفة العاصي، وبناء مدينة سلوقية على الفرات وسلوقية الأخرى على البحر المتوسط؛ طمعت في الاستيلاء على فينيقية، فحدث بين السلوقيين وبطالسة مصر ما حدث من المحاربات مما كانت فيه فينيقية ولبنان معتركا للمتحاربين.
وكثيرا ما استخدمت السفن الفينيقية للقتال، أما الدولة السلوقية في سورية فقد تسلطت مدة تزيد عن مائتين وثلاثين سنة، وبلغ عدد ملوكها واحدا وعشرين ملكا.
ويتبين من تأريخ هذه الدولة أن بعض المدن الفينيقية كان لها بعض الاستقلال بدليل وجود بعض المسكوكات لها، يمتد تاريخها إلى ما قبل المسيح بمائة وست وعشرين سنة بل أكثر من ذلك،
18
صفحه نامشخص