دکارت: مقدمهای بسیار کوتاه
ديكارت: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
وكان ديكارت يعني برهانا نظريا. لقد قدمت مقالات ديكارت بالفعل شكلا أدنى من البراهين لمبادئه؛ فالأبحاث في مجالي البصريات وعلم الأرصاد الجوية التي عولت على تلك المبادئ فسرت ببساطة وسلاسة مجموعة كبيرة من الظواهر، لكن هذا كان إنجازا دون ما يصبو إليه ديكارت، طالما أنه على الأقل من المتصور أن ثمة مبادئ أخرى بخلاف مبادئ ديكارت لها أن تقدم لنا تفسيرا لا يقل بساطة وسلاسة لمجموعة الظواهر نفسها؛ ولذلك يستحب وجود محاجة مستقلة لقبول المبادئ.
الفصل العاشر
الحاجة إلى الميتافيزيقا
يرسم الجزء الرابع من «مقال عن المنهج» الخطوط العريضة للمحاجة التي كان الهدف منها تقديم دعم مستقل لفيزياء ديكارت. وفي قلب المحاجة، نجد قضية أن البشر خلق لرب كريم جليل منحنا نسخة من ذكائه. وحشد الرب العقل البشري بعدد من الأفكار «البسيطة» التي يستحيل أن تكون خاطئة، على افتراض خيرية الرب. وتتضمن هذه الأفكار تلك الضرورية لفهم عام صحيح للمادة؛ أي لفيزياء صحيحة. في الجزء الرابع من «مقال عن المنهج»، يصف ديكارت الاستدلال الذي توصل من خلاله إلى نتيجة أن الرب موجود، وأنه كامل، ومن ثم فإنه لا يخدعنا. ويبدأ استدلال ديكارت باكتشاف علاقة حتمية بين تفكيره ووجوده، وينتقل بعد ذلك إلى الموضوعية الضرورية لفكرة الرب، ويخلص أخيرا إلى نتائج حول القدرات الفكرية للكائنات التي تثق بأن الرب الكريم لا يضع أفكارا بسيطة مضللة في عقولها.
لم يرض ديكارت عن الطريقة التي صور بها الاستدلال الميتافيزيقي في «مقال عن المنهج». وكما فسر في عدد من مراسلاته (قارن: 1 : 347 و558)، فإن عمله أنجز في عجالة. وكان الجزء الرابع من «مقال عن المنهج» قيد التأليف بعد طباعة الأجزاء السالفة له واثنتين من المقالات، وكان ديكارت واقعا تحت ضغوط من ناشره لتسليم الأوراق النهائية. ومن مصادر الغموض أيضا في الجزء الرابع، على حد قول ديكارت، تردده الشديد في توظيف حجج بعينها ظنها ضرورية لتأهيل العقل لاستقبال الحقائق الميتافيزيقية. كتب ديكارت مخاطبا فاتييه في رسالة بتاريخ 22 فبراير 1638:
لم أجرؤ على الخوض في تفاصيل حجج المشككين، ولا على التصريح بكل ما هو ضروري «لعزل العقل عن الحواس»؛ فلا يستقيم أن يعرف يقين ودليل محاجتي على وجود الرب بحق دون استدعاء الحجج التي تعرض الشك في جميع معارفنا عن الأشياء المادية، ولم تبد تلك الأفكار مناسبة لتضمينها في كتاب أردت أن يكون مفهوما حتى للنساء، مع اشتماله في الوقت نفسه على مادة فكرية لأفضل العقول وأكثرها نبوغا. (1 : 558)
لكن أمرا ما أكثر من خوفه من أن يعرض قراؤه لمثل هذه الأفكار هو الذي منعه من المضي قدما في عرض الحجج الضرورية: فلم يرد ديكارت أن يوصم بأنه من الفلاسفة المتشككين. ففي الجزء الرابع، اكتفى بإيضاح فكرة أن اليقين بوجود الرب أكبر من اليقين بوجود الأشياء المادية، فهو لم يشأ أن ينكر أنه يمكن أن يكون لدينا علم للمادة. لكن تفسير كل هذا يتطلب أكثر من أسطر قليلة مطبوعة. في «مقال عن المنهج»، اضطر ديكارت إلى أن يكتفي بنسخة مضغوطة وغير مرضية لما كان يلزم التصريح به.
وربما من المدهش، في ظل المحتوى الميتافيزيقي الضئيل لمؤلفه «مقال عن المنهج»، أن أحد قرائه - وكان عالما هاويا ومشرفا على أعمال التحصين في أقاليم فرنسية يعرف باسم بيير بيتي - قد خرج بمجموعة كبيرة من الاعتراضات على الجزء الرابع؛ فقد كان له رأي آخر بخصوص فرضية ديكارت بأن كل إنسان لديه فكرة عن الرب، وشكك في أن المعرفة بوجود الرب ضرورية لمعرفة أي شيء آخر. وأشار بيتي إلى أن أكثر الملاحدة تطرفا أحاطوا علما بوجود الأرض والشمس والكثير من الأشياء غيرهما. كان ديكارت يزدري بشكل علني اعتراضات بيتي، ولم يجشم نفسه عناء الرد عليها، لكنه لم ينس تلك الاعتراضات قط، ونجد أن ثمة إشارة ضمنية إليها في مقدمة مؤلفه «تأملات في الفلسفة الأولى» (7 : 8). ولاحقا، انهال عليه نقاد آخرون بالنقد بخصوص مسألة الملحد واسع الاطلاع.
لو كانت المقالات قد لاقت استحسانا كليا، لما كانت الضرورة لتستدعي أن يحسن ديكارت الجزء الرابع من «مقال عن المنهج». فقد كان الغرض منه خلق قاعدة عريضة من محبي فيزيائه التي نشرها في «مقال عن المنهج»، فالقراء الذين ثبت استحسانهم لنظريته عن الانكسار، أو لتفسيره لقوس قزح، سيمثلون بالفعل، ولو جزئيا، أنصارا لأفكاره الواردة في كتاب «العالم»، لكن تبين أن استمالة المؤيدين أصعب من المتوقع، فقد واجهت المقالات، وخاصة «الهندسة» و«مبحث انكسار الضوء»، اعتراضات كبيرة عجز ديكارت عن الرد عليها بشكل قاطع وحاسم. وطوال عام 1638، أي إثر نشر المقالات بعام، كان ديكارت منشغلا جدا بالجدليات الرياضية والعلمية التي تمخضت عنها.
وفي تلك الأثناء، نأى عنه علماء اللاهوت الذين عقد ديكارت الآمال على أن يدعموا مؤلفه «مقال عن المنهج» ومقالاته الأخرى. ولقد أرسل عددا من النسخ الأولى إلى اليسوعيين في لافليش دون أن تثمر هذه المبادرة عن أية نتائج. وكتب مدرس من لافليش إلى ديكارت أنه يجب أن يكون أكثر وضوحا حيال مبادئه الميتافيزيقية قبل أن يتوقع أية تعليقات أو اعتراضات. وقبلت النسخ التي أرسلت إلى أقطاب الكنيسة في روما شريطة ألا تدرس تلك المقالات مسألة حركة الأرض. وذاع خبر تأييد ديكارت للموضوعات المحظور تدريسها في روما رغم تكتمه على مؤلفه «العالم»، وصارت الحاجة إلى وجود أطروحة تثبت توافق فيزياء ديكارت مع الأركان الرئيسية التي تقوم عليها العقيدة الكاثوليكية، صارت أكثر إلحاحا لهذا السبب وحده.
صفحه نامشخص