مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل
مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل
ناشر
مطابع أضواء المنتدى
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
ژانرها
مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل
جمع وتعليق
عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف
أستاذ مساعد، قسم العقيدة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الرياض، المملكة العربية السعودية
ملخص البحث. يتحدث البحث في المقدمة: عن براعة ابن تيمية في المناظرات، وتقريره مشروعية المناظرات، وأن للمناظرات أحوالًا متنوعة.
ثم ساق الباحث أربع مناظرات لابن تيمية تجاه النصارى، في شركهم وتأليههم المسيح وقولهم بظهور اللاهوت في الناسوت.
ثم أتبع ذلك بمناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود، والتي تتميّز بكثرتها وتنوّع مسائلها، وعثر الباحث على مناظرتين لابن تيمية مع القبوريين، إحداهما في شأن تعظيمهم الأحجار، والأخرى في غلوهم في قبور العبيديين، ثم أوجز الباحث مناظرات ابن تيمية للرفاعية نظرًا لطولها وشهرتها، ثم أعقب ذلك بمناظرتين للرافضة في مسائل الإمامة، وأما مناظراته نفاة الصفات فقد وقف الباحث على أربع مناظرات، وتضمّنت الخاتمة أهم نتائج البحث..
صفحه نامشخص
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلا يزال تراث ابن تيمية (١)
محل اهتمام الباحثين في مختلف الدراسات الإسلامية، فما أكثر الأبحاث والرسائل العلمية التي كتبتْ عن منهجية هذا الإمام في العلوم الشرعية، وجهوده العلمية، والعملية المتعددة، ومع ذلك فلا تزال جوانب مهمة في هذا الشأن - مجالًا رحبًا للباحثين، ومن ذلك: مناظرات (٢) ابن تيمية لأهل الملل والنحل، فهو موضوع لم يسبق بحثه، حسب اطلاعي، وأحسب أنه من الموضوعات المهمة، والجديرة بالبحث والدراسة، فهذه المناظرات مبثوتة في بطون
_________
(١) . هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية النميري الحراني، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسّر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أفتى ودرّس وهو دون العشرين، وله مئات التصانيف، توفي سنة ٧٢٨هـ.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ٢/٣٨٧، والعقود الدرية لابن عبد الهادي، والجامع لسيرة ابن تيمية.
(٢) . عرّف جمع من العلماء المناظرة فقالوا: هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب. انظر الكليات للكفوي ص ٨٤٩، منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن ١/٣٠.
1 / 5
كتب ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا في كتب التاريخ والتراجم، فتحتاج إلى استخراج وترتيب، مع شيء من الدراسة والتعليق.
وإذا كان من المهم أن ينتفع بمناظرات الأئمة السابقين، وتجاربهم في مجادلة ومناظرة المخالفين، فإن مناظرات ابن تيمية لمخالفيه أكثر أهمية وأعظم نفعًا - كما سيظهر إن شاء الله تعالى -.
لا سيما مع هذا الانفتاح الهائل، والتواصل الدائم الذي يعيشه العالم الآن، فقد أظهر ذلك انتشارًا لمختلف العقائد والأفكار، وأوقع الكثير في المناظرات والمحاورات، فإبراز هذه المناظرات يعطي نماذج متميزة، وتطبيقات عملية محكمة في هذا المقام.
لقد قمت - ولله الحمد والمنة- باستقراء وتتبع مؤلفات شيخ الإسلام، واستخراج وجمع هذه المناظرات ثم تصنيفها، وقد تعذر ترتيب أكثرها حسب وقوعها لعدم تمكني من معرفة تاريخها، واخترت هذا العنوان "مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل " باعتبار أن الملل هي سائر الأديان، وأن النحل سائر طوائف أهل القبلة، كما استعمل ذلك شيخ الإسلام في غير موضع، كقوله: "وهذه الفرقة الناجية أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل " (١) .
فيتضمن البحث مناظرات ابن تيمية للنصارى، ومناظراته لطوائف
_________
(١) . مجموع الفتاوى ٣/٣٧٠، وانظر: مجموع الفتاوى ٤/٢٣، ٢٤.
1 / 6
متعددة من أهل القبلة، ومن ينتسب إلى الإسلام، كأهل الاتحاد ووحدة الوجود (١)، والقبوريين، والأحمدية (٢)، والرافضة (٣)، ونفاة الصفات.
وما كان من هذه المناظرات مطولًا فقد أوردته مختصرًا، كما في مناظرة ابن تيمية للأحمدية، ومناظرته بشأن العقيدة الواسطية.
وأسوق - بعد إيراد مناظرة كل طائفة - جملة من التحريرات والتقريرات المستفادة ومن كلام شيخ الإسلام، لما يتحقق فيها مالا يحصل في غيرها، من تجلية لتلك المناظرات واستكمالها، وبيان ملابسات وقوعها، وما تحويه من قواعد المناظرات وآدابها.
_________
(١) . أهل الاتحاد ووحدة الوجود القائلون: أن الله تعالى عين وجود الكائنات.
انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ٢/ ١٧٢، والكليات للكفوي ص ٣٦.
(٢) . الأحمدية: طريقة صوفية تنسب إلى أحمد الرفاعي (ت ٥١٢هـ)، وتعرف بالطريقة الرفاعية، وتسمى أيضًا الطائفة البطائحية لأن الرفاعي سكن في قرى البطائح بالعراق، وهذه الطريقة لا تنفك عن محدثات متنوعة، كاتخاذ الخرقة والأذكار المحدثة، وخوارق شيطانية.
انظر: سير أعلام النبلاء ٢١/٧٢، والطرق الصوفية للنجار ص ١٥٦.
(٣) . الرافضة من أكبر طوائف الشيعة، وهم أرباب انحراف في الصفات، وشرك في توحيد العبادة، وغلو في الأئمة، وتضليل للصحابة ﵃ وزعموا أن الإمامة أهم منازل الدين.
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري ٢/٨٨، والملل والنحل للشهرستاني ٢/١٦٢.
1 / 7
ونشير في مطلع هذا البحث إلى ما تحلّى به شيخ الإسلام من براعة في المناظرات، وتقريره مشروعية المناظرات، وبيانه أحوالها، وذلك على النسق التالي:
أ) براعة ابن تيمية في المناظرات: تميّز شيخ الإسلام ابن تيمية بدراية فائقة في المناظرات، وقوة حجة، وسرعة بديهة، كما شهد بذلك الأئمة، حتى قال عنه ابن الزملكاني: (١) - " لا يُعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه " (٢) .
وقال عنه الحافظ الذهبي (٣): - "ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو إلى المسند، أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف " (٤)
_________
(١) . هو محمد بن علي الأنصاري الشافعي، شيخ الشافعية بالشام، كان معجبًا بابن تيمية، ثم تغير عليه، توفي سنة ٧٢٧هـ.
انظر: البداية لابن كثير ١٤/١٣١، وشذرات الذهب لابن العماد ٦/٧٨.
(٢) . العقود الدرية ابن عبد الهادي ص ٧، وانظر ص ٦٧.
(٣) . هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الإمام، الحافظ، المؤرخ، ولد سنة ٦٧٣هـ، بدمشق، له رحلات في طلب العلم، وصاحب مؤلفات كثيرة، توفي بدمشق سنة ٧٤٨هـ.
انظر: طبقات الشافعية ٩/١٠٠، والبدر الطالع ص ٢/١١٠
(٤) . ذيل تاريخ الإسلام للذهبي، نقلًا عن الجامع لسيرة شيخ الإٍسلام ابن تيمية ص ٢٠٦.
1 / 8
وقال أيضًا: "لقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين، ومقدمات وأمور لم يسبق إليها.. وقام عليه خلق من علماء مصر والشام، قيامًا لا مزيد عليه، وبدّعوه، وناظروه، وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه " (١) .
وقال ابن عبد الهادي (٢) " ثم انفتح له بعد ذلك من الردّ على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع، وما لا يوصف ولا يعبر عنه، وجرى له من المناظرات العجيبة والمباحث الدقيقة، في كتبه وغير كتبه، مع أقرانه وغيرهم، في سائر أنواع العلوم ما تضيق العبارة عنه " (٣) .
ب) مشروعية المناظرة وأهميتها عند ابن تيمية: قرر شيخ الإسلام مشروعية المناظرة وأهميتها، وبيّن أن ذلك حال السلف السابقين، فقال: "وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى". (٤)
وقال في موطن آخر: " حضّ الله على المناظرة والمشاورة،
_________
(١) . العقود الدرية ص ٨٢ = بتصرف يسير.
(٢) . أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، مقرئي، فقيه، أصولي، محدث، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة ٧٤٤هـ.
انظر: الدرر الكامنة ٣/٤٢١، البدر الطالع ٢/١٠٨.
(٣) . العقود الدرية ص ٦٧.
(٤) . الدرء ٧/١٧٤.
1 / 9
لاستخراج الصواب في الدنيا والآخرة، حيث يقول لمن رضي دينهم: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: ٣٨) كما أمرهم بالمجادلة والمقاتلة، لمن عدل عن السبيل العادلة، حيث يقول آمرًا وناهيًا لنبيه والمؤمنين، لبيان ما يرضاه منه ومنهم: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: ١٢٥) ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ سورة العنكبوت (العنكبوت: ٤٦) .
فكان أئمة الإسلام ممتثلين لأمر المليك العلاّم، ويجادلون أهل الأهواء المضلة، حتى يردّوهم إلى سواء الملة، كمجادلة ابن عباس ﵄ للخوارج المارقين، حتى رجع كثير منهم إلى ما خرج عنه من الدين، ومن في قلبه ريب يخالف اليقين " (١)
وذكر أن المناظرة المحمودة نوعان، ثم فصّل ذلك قائلًا: "وذلك لأن المناظر إما أن يكون عالمًا بالحق، وإما أن يكون طالبًا له، فمن كان عالمًا بالحق فمناظرته المحمودة أن يبيّن لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدًا طالبًا للحق إذا تبيّن له، أو يقطعه ويكف عدوانه إن كان معاندًا غير متبع للحق إذا تبيّن له..
وذلك لان المخالف بالمناظرة إذا ناظره العالم المبيّن للحجة، إما أن يكون ممن يفهم الحق ويقبله، وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه، أو ليس
_________
(١) . تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل ١/٣، ٤ = بتصرف يسير
1 / 10
له غرض في فهمه، بل قصده مجرد الردّ له، فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شرّه عن الناس.
وإما أن يكون الحق قد التبس عليه، وأصل قصده الحق، لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق، مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق، أو لضعف عقله، لكونه لا يمكن أن يفهم دقيق العلم، أو لا يفهمه إلا بعد عسر، أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه، وظن أنه لا جواب عنه، فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك، إما معرفة بالحق، وإما شكًا وتوقفًا في اعتقاده بالباطل، وبقيت همته على النظر في الحق وطلبه.." (١) .
وأكّد على الجمع بين جدال الكفار وقتالهم، وأنه لا منافاة في حقهم بين الجدال المأمور به، وبين القتال المأمور به (٢)، فكان مما قاله: "وأما مجاهدة الكفار باللسان، فما زال مشروعًا من أول الأمر إلى آخره، فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال النبي ﷺ " جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم " (٣) وكان ينصب لحسّان منبرًا في مسجده، يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول
_________
(١) . الدرء ٧/ ١٦٧، ١٦٨ = باختصار
(٢) . انظر الجواب الصحيح ١/٦٧
(٣) . أخرجه أبو داود، ك الجهاد ح (٢٥٠٤، وأحمد ٣/١٢٤، والحاكم ٢/٨١، وصحح النووي إسناده في رياض الصالحين ح (١٣٤٩) .
1 / 11
آيات القتال، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على حجة الإسلام، وإبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب؟ (١) .
وعظّم شأن مناظرة المخالفين ودحض شبهاتهم فقال: " كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور، وطمأنينة النفوس " (٢)
خلاصة ما سبق أن المناظرة مشروعة (٣)، كما هو حال السلف الصالح، وقد تكون مناظرة الكفار ومجاهدتهم باللسان أولى من الجهاد باليد، كما أن القيام بها وإظهار الحجة فيها من حقوق الإسلام وموجباته، لا سيما إذا كان المناظر عالمًا بالحق.
جـ) أحوال المناظرات عند ابن تيمية: بيّن شيخ الإسلام أن للمناظرات أحوالًا وأطوارًا منها:
- " إن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه
_________
(١) . الجواب الصحيح ١/٧٤
(٢) . الدرء ١/ ٣٥٧، وانظر: التسعينية ١/ ٢٣٢
(٣) . ومما يحسن ذكره هاهنا أن نورد تقرير مشروعية المناظرة كما سطّره ابن القيم ضمن فوائد قصة وفد نجران بقوله: "جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يُرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب عن مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليولّ ذلك إلى أهله.." زاد المعاد ٣/٦٣٩.
1 / 12
إليها، أمكن الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقًا. " (١) .
- " وإما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضًا، فعليه أن يعتصم أيضًا بالكتاب والسنة ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبيّن الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. " (٢)
- " وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعّى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها، فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظًا مجملة.. فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقًا وباطلًا، قُبِل لحق ورُدّ الباطل. " (٣)
وبيّن شيخ الإسلام أن من امتنع عن التكلم بالألفاظ المجملة نفيًا واثباتًا في هذا المقام قد ينسب إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها دون تفصيل، نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقًا وباطلًا (٤) .
ولما قرر شيخ الإسلام مشروعية المناظرة وأحوالها، ذكر جملة من
_________
(١) . الدرء ١/٢٣٤.
(٢) . الدرء ١/ ٢٣٥، ٢٣٦.
(٣) . الدرء ١/ ٢٣٨.
(٤) . انظر الدرء ١/ ٢٢٩.
1 / 13
الأحوال التي ينهى السلف فيها عن المناظرة فقال: " وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يفسده ذلك المضلّ، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجًا قويًا من علوج الكفار، فإن ذلك يضرّه ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد ينهى عنه إذا كان المناظر معاندًا يظهر له الحق فلا يقبله - وهو السوفسطائي - فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة، بيّنة بنفسها، ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائيًا، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك، بل إن كان فاسد العقل داووه، وإن كان عاجزًا عن معرفة تركوه، وإن كان مستحقًا للعقاب عاقبوه مع القدرة " (١)
وبهذا يتبين أن المناظرة المشروعة لها أحوال، منها: إن كان في مقام دفع من يلزمه ببدعة فعليه أن لا يجيب إلا إلى نصوص الوحيين، كما في مناظرة الإمام أحمد للجهمية (٢) .
وإن كان في مقام الدعوة لغيره، فعليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، وما يبيّن ذلك من الأقيسة العقلية، كما نلحظ في مناظرة ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود - كما سيأتي إن شاء الله - وإن كان في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، فيحتاج إلى حلّ شبهته وبيان بطلانها، كما
_________
(١) . الدرء ٧/١٧٣.
(٢) . انظر الدرء ١/٢٣٠.
1 / 14
فعل ابن تيمية في مناظرته لنفاة الرؤية - كما هو مبسوط في موضعه من هذا البحث -
وقد يُنهى عن المناظرة إن كان المناظر ضعيف العلم، أو كان معاندًا مكابرًا..
وسنورد مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل على النسق التالي:
1 / 15
١ - مناظرات ابن تيمية للنصارى:
المناظرة الأولى: حكى شيخ الإسلام مناظرته للنصارى في القاهرة فقال: "لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض معظميهم من الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بيّنت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة.
وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني أن قلت له: أنتم مشركون، وبيّنت من شركهم ما هم عليه من العكوف على التماثيل والقبور، وعبادتها، والاستغاثة بها.
قال لي: نحن ما نشرك بهم ولا نعبد هم، وإنما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك.
فقلت له: وهذا أيضًا من الشرك، ليس هذا من دين المسلمين، وإن فعله الجهال، فأقر أنه شرك، حتى إن قسيسًا كان حاضرًا في هذه المسألة، فلما سمعها قال: نعم، على هذا التقدير نحن مشركون " (١) .
المناظرة الثانية - وقال - أثناء حديثه عمن تلبّس بالشرك: - " وهؤلاء
_________
(١) . مجموع الفتاوى ٢٧/ ٤٦١، ٤٦٢ - باختصار
1 / 16
يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق، وقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهذا ليس من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده لشبهة الاتحاد والحلول، ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان الحلول ممكنًا لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك، بل موسى أحق بذلك، ولهذا خاطبتُ من خاطبتُ من علماء النصارى، وكنتُ أتنزّل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية، فلم يجدوا فرقًا، بل أبيّن لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم، فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق" (١) .
المناظرة الثالثة: ولما سجن شيخ الإسلام بمصر سنة ٧٠٧هـ، حصلت له مناظرة مع رهبان النصارى كما أوردها تلميذه إبراهيم بن أحمد الغياني (٢) قائلًا: " ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم (٣)، دخل عنده ثلاثة رهبان من الصعيد، فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار، وما هم على الدين الذي كان عليه إبراهيم والمسيح، فقالوا له: نحن نعمل مثل ما
_________
(١) . الرد على البكري ص ٣٢٧، وانظر مجموع الفتاوى ١٥/ ٢٢٨
(٢) . لم أعثر له على ترجمة.
(٣) . الترسيم نوع من الحبس انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ٣٥ / ٣٩٩، ١٥/١٣٦.
1 / 17
تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة (١)، ونحن نقول بالسيدة مريم، قد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذي قبلكم، ونحن كذلك.
فقال لهم: وإن من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان إبراهيم عليه أن لا نعبد إلا الله وحده، لا شريك له، ولا ندّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكًا، ولا نبيًا، ولا صالحًا، وإن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره مثل تفريج الكربات، وغفران الذنوب.
والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - نؤمن بهم ونعظمهم، ونصدّقهم في جميع ما جاءوا به ونطيعهم كما قال نوح وصالح وهود وشعيب: أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون، فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله، فلو كفر أحد بنبيّ من الأنبياء وآمن بالجميع ما نفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي.
_________
(١) . هي نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ﵄، وهي من الصالحات العابدات، كانت في المدينة ثم تحولت إلى مصر، وتوفيت بها سنة ٢٠٨ هـ.
انظر سير أعلام النبلاء ١٠/١٠٦، البداية والنهاية ١٠/٢٦٢، شذرات الذهب ٢/٢١.
1 / 18
فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه" (١)
المناظرة الرابعة: وردّ على النصارى تشبيههم ظهور اللاهوت في الناسوت بظهور الروح في البدن، وأنه إذا كان البدن يتألم بما يصيب الروح من الألم، فيلزم النصارى أن يكون الناسوت لما صلب وتوجّع أن يكون أيضًا اللاهوت متوجعًا، ثم ساق هذه المناظرة:
"وقد خاطبت بهذا بعض النصارى، فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم، فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت أمنعّمة، أو معذبة؟ فقال: هي في العذاب، فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذّب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت، بالروح في البدن، لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت، كما تتألم الروح إذا تألم البدن.
فاعترف هو وغيره بلزوم بذلك (٢) ".
وبالنظر في تلك المناظرات وما يجليها من تقريرات لشيخ الإسلام، نسوق الأمور التالية:
١ - لا يخفى الأثر السلبي لانحراف المنتسبين إلى الإسلام، وكيف احتج به النصارى هاهنا في تسويغ شركهم، فالنصارى يشركون المسيح
_________
(١) . الجامع لسيرة ابن تيمية ص ٨٩، ٩٠ = باختصار، وانظر مجموع الفتاوى ١/ ٣٧٠، ٣٧١
(٢) . الجواب الصحيح ٢/ ١٧٢.
1 / 19
ومريم، كما أن من المسلمين من يشرك الحسين ﵁ ونفيسة.
ورحم الله ابن القيم (١) إذ يقول: " ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرًا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام، ممن يعظّمهم الجهال من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، ولمن جاء به، فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به.
فالله طليب قطّاع طريق الله وحسيبهم. " (٢)
ومع هذا الانحراف في واقع المسلمين، إلا أن ابن تيمية كان صاحب استعلاء في إيمانه، ورسوخ في حجته، فقد أقام عليهم الحجة، فاعترفوا بشركهم، وصحة دين الإسلام، بل إن بعض النصارى أسلم على يد ابن تيمية وحسن إسلامه، كداود المتطبب (٣)، والذي صار من علماء أهل السنة، وصنّف كتابًا في الطب النبوي.
_________
(١) . هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، كان جريئ الجنان، واسع العلم، عارفًا بالخلاف، ومذهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة ٧٥١هـ.
انظر: البداية والنهاية ١٤/ ٢٣٤، الدرر الكامنة ٤/٢١.
(٢) . إغاثة اللهفان ٢/٤١٦.
(٣) . هو داود بن أبي الفرج الدمشقي، أسلم على يد بن تيمية سنة ٧٠١هـ، وصنف كتاب الطب النبوي وحكى فيه نصوصًا عن أحمد، توفي داود سنة ٧٣٧هـ.
انظر الجوهر المنضّد لابن عبد الهادي (ابن المبرد) ص ٣٨.
1 / 20
٢ - بيّن ابن تيمية من خلال مناظرته في السجن - مناقضة النصارى لدين الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين، وقد عُني ابن تيمية في مواطن كثيرة بتقرير هذا الإسلام العام وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له (١) .
ومن ذلك قوله: " والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل، وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة، وإن تنوّعوا في الشريعة والمنهاج.
- إلى إن قال- فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأنه أرسل إلى الخلق رسلًا من البشر، وأنه أوجب العدل وحرّم الظلم والفواحش والشرك، وأمثال ذلك من الشرائع الكلية (٢) "
٣ - لم يتردد شيخ الإسلام في الحكم على تلك الأعمال التي تلبّس بها من يدّعى الإسلام، فبيّن أن طلب الشفاعة شرك سواءً فعله نصراني أو من ينتسب إلى الإسلام (٣) .
_________
(١) . انظر: الجواب الصحيح ١/ ١١، ٣٧٦، والتدمرية ص ١٦٨، اقتضاء الصراط المستقيم ٢/ ٨٣١، مجموع الفتاوى ١٩/ ١٠٦.
(٢) . الجواب الصحيح ١/ ٣٧٦، ٣٧٧ = باختصار
(٣) . ومما يلحق بذلك ما حكاه ابن حزم من تحريف النصارى والإنجيل، واحتجاجهم على أهل الإسلام بمقالة الرافضة بتبديل القرآن.. فأجاب ابن حزم قائلًا: الروافض ليسوا من المسلمين، وأنها طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر. " الفصل ٢/٢١٣.
1 / 21
ونظير ذلك أنه لما ساق اعتراض بعضهم بأن الغلو والشرك والبدع في الرافضة موجودٌ في كثير من المنتسبين إلى السنة، أجاب قائلًا: "هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله، وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه، سواءً كان فاعله منتسبًا إلى السنة أو إلى التشيع.." (١) .
٤ - فرّق ابن تيمية - اتباعًا للنصوص الشرعية - بين ما كان حقًا لله تعالى وحده كالعبادة والتقوى، وما كان حقًا لرسوله كالطاعة، فإن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قرر ذلك في مواضع كثيرة (٢) .
ومن ذلك قوله: "والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره، وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق مشتركة، فالله تعالى مستحق أن نعبده ولا نشرك به شيئًا، وهذا أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل.
ويدخل في ذلك أن لا نخاف إلا إياه، ولا نتقي إلا إياه، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (النور: ٥٢) فعجل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده " (٣) .
_________
(١) . منهاج السنة النبوية ١/ ٤٨٣
(٢) . انظر: منهاج السنة النبوية ٢/ ٤٤٦، والتدمرية ص ١٩٩، واقتضاء الصراط المستقيم ٢/ ٨٢٦، مجموع الفتاوى ١/١٨١، ١٠/٣٦
(٣) . اقتضاء الصراط المستقيم ٢/٨٢٥، ٨٢٦ = باختصار
1 / 22
٥ - ذكر ابن تيمية: بعد إحدى المناظرات السابقة - أن " النصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عبّاد المسلمين، وقسيسيهم مثل علماء المسلمين، فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام، بل يقولون: هذا طريق إلى الله، وهذا طريق إلى الله (١) . "
كما حذّر شيخ الإسلام وغلّظ من تسويغ اتباع النصرانية أو اليهودية، كما عليه أكثر اليهود والنصارى، والذين يرون دين المسلمين واليهود والنصارى بمنزلة المذاهب الأربعة في دين المسلمين، فتحدّث عن هذه المسألة في غير موضع (٢)، فقال: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين باتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد ﷺ فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض الكتاب " (٣) .
٦- أظهر شيخ الإٍسلام - في المناظرة الرابعة - تهافت قول النصارى في تشبيههم ظهور اللاهوت في الناسوت بظهور الروح في البدن، وما يلزمهم من التنقص لله ﷿.
_________
(١) . مجموع فتاوى ١٧/ ٤٦٢ = باختصار
(٢) . انظر: الرد على المنطقيين ص ٢٨٢، مجموع الفتاوى ١٧/ ٤٦٣، ٢٨/ ٥٢٣.
(٣) . مجموع الفتاوى ٢٨/٥٢٤
1 / 23