فقعدت المتنكرة، واستأنفت أوجستينا التحقيق: أتأسف يا ذات العذار أن دار الاعتقال خلو من موسى يحلق بها عارضاك، ولكنك لو أنبأتني منذ أول ساعة أنك اعتدت الحلاقة كل صباح وكل مساء لاختلقت لك موسى من أعماق الخفاء، فعذرا. أين الموسى التي كنت تحلق بها عارضيك فآتي بها إليك؟
فتبرم الفتى، ولم يجب بكلمة. - عذرت إقلالك من الكلام أمس إذ كانت رئيسة الشرطة تحقق معك؛ لأن الحياء من طبع النساء الجاريجاريات المتحصنات. ولكن الإقلال من الكلام الآن إنما هو جبن لا يليق بالرجال الجاريجاريين الذين تربطنا بهم أوثق صلة، صلة الدم. فمعظمهم آباؤنا وإخوتنا وأولادنا. هل تريد أن تنكر شهادة هذا العذار اليانع؟ (قالته بابتسامة). - لا أنكره. - حسنا، ولماذا كنت تحصده كل يوم، وهو نصف حسن الفتى الجميل؟ - لأنه مستنكر في بنطس. - ومن هي المرأة التي لم تستنكر وجودك معها بدونه؟ - لا أعرف امرأة أمازونية لا تستنكر وجود رجل معها في بنطس.
فقالت باسمة ابتسامة شعاعية: أما كنت تأوي إلى منزل امرأة حسناء؟ - لا. - أين كنت تبيت؟ - في السجن. - وقبل السجن؟ - كنت في الحدود.
فقالت سيدة القضاء أوجستينا متدللة مبالغة في الابتسام: من هي المرأة السعيدة التي كانت تتوقع قدومك إليها؟ - لا أدري. - إلى أين كنت تقصد إذن؟ - إلى أي فندق في هذه العاصمة. - لماذا قدمت؟ - لأجل النزهة، ولمفاخرة رفاقي في مشاهدة عاصمة مملكة النساء التي لم يدخلها رجل. - هل كنت تجهل القانون الأمازوني الذي يحرم على الرجال الدخول إلى مملكة النساء وعقاب مخالفته؟ - كنت أعلمهما ولهذا تنكرت. - أما حسبت حساب الافتضاح وهذا المصير الذي انتهيت إليه؟ - إن طيش الشباب يخطئ الحساب يا سيدتي.
وكانت تحملق في عينيه باشة إلى أن قالت: لا يطل من هاتين المقلتين إلا سحر بابل. أمن أصل بابلي أصل سلالتك؟ - ربما. - لا أرى في هذه النظرات الخالبات طيشا. بل أرى ذكاء يضارع البهاء الذي يشع من هذا المحيا الوضاح، فلست أقتنع أنك غبي لا تحسب حساب وقوعك تحت الشبهة. أعتقد أنك لم تقدم على هذه المجازفة إلا اعتمادا على قوة تنقذك. فما هي؟
فقال الفتى متبسما: ما هي إلا رحمة القضاء بي. - لقد صحت فراستي. لم تطمع برحمة القضاء بك إلا اعتمادا على شفاعة قوية بك. فما هي؟ - ما هي إلا شفاعة القضاء نفسه. - يلوح لي أنك عظيم الأمل بتسامح القضاء، ففي مقابل أية محمدة تمني نفسك بعطف القضاء ورحمته؟ - التسامح يا مولاتي في مقابل محمدة لا يعد رحمة بل هو جزاء للمحمدة؛ لأن المحمدة ثمن له، فأنا آمل برحمة القضاء لأني شاعر بأنه مفعم «رحمة وعطفا بلا ثمن.»
فقالت أوجستينا متهللة كأنها أصابت غرضا في نفسها: ولكن قانون الأمازونيات صارم (مشيرة إلى رق القانون الذي في يدها وناشرة منه بعضه). - القانون كتابة بكماء في رقعة صماء، والقضاء ينشره ويطويه كما يشاء.
حينئذ شعرت أوجستينا بفيض الشعر في مخيلتها وقالت متغزلة: يخيل لي أنك توكل هذه النظرات الساحرات بأن تشل اليد التي تنشر القانون، ثم لفت الرق كما كان وردته إلى موضعه إذ كان الفتى يجيب باسما: إذن لم يخب أملي برحمة القضاء. - هل كانت تلك المرأة المسبية بهذه اللواحظ تطمع برحمة القضاء بك. - عسى أن تعثري على امرأة كهذه فتسألينها. - ما خاطب ظني في سحر هاتين المقلتين الفاتنتين، سحر يشق الطريق إلى الدهاء. سؤال آخر، هل تتفضل بالإجابة؟ - أشكر لسيدة القضاء الموقرة لباقة تحقيقها التي فرشت طريق الإجابة بزهور العطف واللطف، وأطلقت لساني من قيد الاعتصام بالصمت كلما أنذر السؤال بخطر الوقوع في الفخ. فتفضلي بالسؤال: هل تتوقع أن الحسناء التي كانت تتوقع نعيم اللقاء بك تقبل الرحمة بك من يد القضاء؟ (تشير بيدها). - جواب هذا السؤال يا سيدتي في فم المستقبل.
فقالت أوجستينا متململة: ما أسعد حظ تلك المعشوقة العاشقة التي يختم حبك لها باب أسرارها بختم لا يستطيع أحد فكه، ترى هل هي جديرة بهذا الإخلاص؟
أشكر حسن عقيدتك بأسيرك يا مولاتي. هل عندك دليل على وجود عاشقة لي معشوقة؟
صفحه نامشخص