إن المفردات ذات المعاني الدقيقة وذات التاريخ الطويل بما يحمله هذا التاريخ من أفكار، والتي لم يسبق أن عرفتها اللغة العربية، وغابت عن مجتمعاتنا غيابا كليا، وغير موجودة في معاجمنا، يلزم أن تظل كما هي حتى يمكنها أن تحتفظ بدلالاتها الصادقة ومعانيها المفهومة عند أصحابها، وعند من أخذ بالديمقراطية في العالم جميعا - عدانا بالطبع - لأننا نعيش مجتمعا عالميا أصبح متصلا بعضه ببعض، ويلزمه كي يفهم بعضه بعضا بلا غموض ولا خداع أن تظل المفردات كما هي بمعانيها وتاريخها ودلالاتها. والديمقراطية لا يمكن ترجمتها ببساطة خادعة إلى بديلنا (الشورى)؛ لأننا في هذه الحال سيكون علينا أن نجد الترجمة البديلة لملايين الألفاظ مثل الفيروس والبكتريا والأمبير والأكسجين والدكتاتورية والجمهورية ... إلخ. وأن تكون الترجمة وافية بالمعنى الأصلي للفظ لتؤدي ذات الدلالات ونفس الهدف.
إن المعنى الأول الذي حملته كلمة ديمقراطية منذ نحتها الرومان في مجلس الساناتو قبل الإسلام بعشرة قرون، كانت تعني أن يحكم الأحرار أنفسهم بأنفسهم. وهو معنى لا يعرفه المخزون العربي؛ ومن ثم ليس في المعاجم العربية ما يعبر بصدق عن هذا المعنى الأول؛ وعليه فلا سبيل سوى استخدام اللفظ كما نحته أهله بمعانيه ودلالاته، وإلا نكون مزورين ومزيفين. المشكلة هنا أن أصحاب الشورى عندما يرونها بديلا، فهو ما يعني أنهم قد أجروا مفاضلة بين الشورى والديمقراطية. لكن طالما أن بديلهم لا يطابق الأصل، ويحمل معنى التميز بعد المفاضلة، فهو ما يدفع للسؤال عن أيهما الأفضل ... البديل الإسلامي أم الأصل الديمقراطي؟ لأنه في مساحة الأمانة العلمية يجب اقتضاء الدراسة المقارنة التفضيلية، وهو شأن يقوم به المتخصصون في القانون الدولي والقانون الدستوري وأهل فلسفة السياسة والقانون والتاريخ؛ ولا بأس من أهل الفقه الإسلامي معهم، للمقارنة ثم العرض على أولي الشأن للاختيار. وأولو الشأن هنا ليسوا هم أهل الذكر وليسوا الفقهاء؛ لأن رأي الفقهاء سيوضع إلى جوار آراء الخبراء كرأي مفرد، أهل الذكر هنا هم أصحاب الديمقراطية. وعليه فإن إبداء الرأي فيما إذا كانت الشورى هي الديمقراطية ليس من اختصاص رجال الدين الإسلامي؛ لأن الديمقراطية ليست من لدنهم، وعليهم الرجوع إلى أهل الذكر؛ إلى أهل الحضارة والثقافة الغربية صاحبة الديمقراطية ليفصلوا لنا في هذا الخصوص؛ فهم من يستطيع بإجراء المقارنات أن يقولوا لنا إن كانت الشورى هي الديمقراطية من عدمه.
وقول الدكتور معروف: «فمنهم من رفض الديمقراطية وجعل الشورى هي البديل» كان يستدعي منه إتباع هذا القول بالاستفسار عمن أعطاهم حق الرفض؟ وما هي صفة هؤلاء ليرفضوا أو يقبلوا؟ إن العبارة تشير إلى دكتاتورية كامنة وأسلوب تفكير مستسلم لفكر أسطوري إملائي، دون أن يكون لصاحب هذا الفكر أي حق في الإلزام أو الإجبار، وهي صيغة حكم، أو هي نتيجة بلا مقدمات، وتفضيل بلا طرح للبدائل، هي تعبير عن غطرسة دينية لم تكن حتى لدى الأنبياء، هي صيغة جبروت يختار لنا، وعلينا القبول بخنوع، هي صيغة أغبياء يعجزون عن المقارعة فكرا بفكر؛ لذلك هم لا يقارنون بالبدائل، بل يفرضون؛ لأنهم يعلمون أن الشورى لا يمكن أن تكون بديلا للديمقراطية، فعندما يعطيني الصيدلي بديلا للعلاج المطلوب، فهو يعطي بديلا تغير فيه الاسم التجاري فقط، بينما لم يتبدل المحتوى والمكونات؛ فهو هو بمادته التصنيعية بذات المركبات وذات النسب. وبهذا المعنى لا يمكن أن تكون الشورى بديلا للديمقراطية؛ لأن المكونات تتضارب بينهما وتتناقص تناقصا صارخا، وصاحب الديمقراطية الذي صنعها هو من يعرف ما تستبطن من معان وفلسفات وبرامج ومقاصد، وليس نحن.
المفروض في المفاضلة إذا كانوا يقصدون المفاضلة أن يستعرضوا لنا ما في بطن الشورى وما في بطن الديمقراطية، ثم يتركوا لنا الاختيار، ما دمنا نتحدث عن الديمقراطية. لكنهم أخذوا القرار وعلينا التسليم بأن الشورى بديل الديمقراطية، بأحكام كلها غير أمينة. إن كلمات مثل أمبير وأكسجين وهيدروجين تحمل معاني يعرفها المكتشفون وقاموا بتعليمها لبقية الناس في العالم، فسلم بها كل العالم، وظلت كما هي بدلالاتها وما في بطنها من تراكم معرفي خاص بمكانه وزمنه، ومثلها الديمقراطية، ومثلها «الفيمتو ثانية»، من يشرحها لنا صاحبها د. «أحمد زويل» وليس «شيخ الأزهر»، ولا يمكن ترجمة معناها بالمقابل الإسلامي، كالديمقراطية سواء بسواء؛ لأنها قادمة من مجتمع وفلسفة مختلفة؛ لأنه ليس لها أي مرادف في مخزوننا الثقافي، واصطناع أي لفظ عربي مهما كان لن يعبر عن المعنى الذي أراده أصحابها. المشكلة أنهم يحيلون المعنى إلى لفظ قرآني (الشورى)؛ يعني ربنا موجود في الموضوع ليطرد أي كائن أو رأي آخر؛ لأنه هو من قال؛ يعني هناك جهنم لمن رفض تفضيل القرآني على البشري؛ يعني انعدم الاختيار تماما، وانعدم أول مبادئ الديمقراطية في بساطتها البدهية.
وحتى لا نقبل ما نقبل إلا عن بينة، أو نرفض ما نرفض إلا عن بينة، تعالوا نرى ما في بطن الشورى لنرى هل هي بديل الديمقراطية حقا، من عدمه. •••
الشورى نظام عربي قديم عرفته قبائل بوادي الجزيرة العربية؛ فكان لشيخ القبيلة مجلس للشورى يضم أفراد القبيلة الأحرار صرحاء النسب الذين بلغوا الأربعين من العمر فما فوق، ويتسمون برجاحة العقل وأيضا بالثراء المادي. وقد لازمت الشورى العرب في الإسلام كما لازمه الكثير من شئون الجاهلية؛ لذلك جاء ذكرها في القرآن مرتين: الأولى في قوله:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران: 159). وقد أورد الدكتور معروف شرح الطبري للآية بنصه: «إن الله عز وجل أمر نبيه
صلى الله عليه وسلم
بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه؛ تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته
صلى الله عليه وسلم
صفحه نامشخص