إذن الفقه كله فكر وليس شريعة! آمنا بالله ... فالصواب لا يقبل الاختلاف، خاصة مع تأكيد الدكتور أن «تلك النظريات هي أفكار وليست شريعة واجبة الاتباع»، وله بدل الموافقة بنعم واحدة «نعمين»، ثم التفكير فيما قال: «الفقه صناعة فكر المنظرين الإسلاميين كأساليب للحكم والإدارة، وليس شريعة واجبة الاتباع»، فإعمالا لهذا المبدأ، يكون ما يعرضه علينا الدكتور معروف هنا في دراسته التي هي بين أيدينا الآن، هو بدوره فكر وليس شريعة واجبة الاتباع. ويكون رأيه في إطلاق يد المشايخ من باب التنوع في التشريع والأحكام، هو من باب التضليل؛ لأنه بغض النظر عن كونهم تقريبا طبعة واحدة، فإن التنوع الحقيقي يكون في إطلاق حق المختلف مع هذا الفكر لنقده نقدا علميا واضحا، ليعيد الفقيه إلى مكانه الطبيعي (مفسرا) قد نأخذ بتفسيره أو لا نأخذ.
إن القول إن الفكر يصنعه العقل، وإن الفكر يمكن أن يكون شرعا، فلماذا الوقوف إذن عند فكر الفقهاء وحدهم مع تعددهم، ولأن اختلافهم رحمة؟ خاصة أنه إذا كان شرعهم ابن فكرهم فهو في النهاية سيكون شرعا وضعيا، وضعه صاحب هذا العقل أو صاحب هذا الفكر، فلماذا يظل الفكر حكرا على طائفة الفقهاء؟ •••
إن من يقولون إن الشرع رباني ويطلبونه كما هو على حاله، بوضوح ودون التفاف، هم أكثر رحمة؛ لأنهم أكثر صدقا مع أنفسهم وأفضل اتساقا؛ فالشرع عندهم ليس ناتج تفكير العقل الإنساني وحواره مع نفسه أو مع الآخر؛ فالرب عندما يضع شرعه لا يحاور الآخر ولا يحاور حتى نفسه؛ لأن المحاورة هدفها الاختيار بين بدائل، والرب الكامل حسبما يعتقد المسلمون لا يصح أن يختار بين بدائل، وإلا فعلينا أن نتساءل: من وضع له البدائل وسمح له بالاختيار وأعطاه حرية التفكير لينتقي ويقرر، وكله مما يتنافى مع عقيدة التوحيد؛ لذلك كان الشرع معبرا عن إرادة الخالق وليس فكره، فمن يفكر هو الضعيف الذي يبحث عن المخرج والأفضل بين الحلول المتاحة.
هؤلاء أكثر اتساقا لأنهم واضحون، وعلينا أن نتعامل مع ما يطرحون بوضوح مقابل، فنرفض أن تقرر السماء للبشر قوانينهم، وأن نعلن أن ذلك زمن قد انتهى، ونؤمن في نفس الوقت أنها كانت قرارات سماوية صادقة تناسب زمنها، وأننا اليوم من يقرر ويشرع لنفسه، هكذا بشديد الوضوح. أما من يلعبون بنا وبالدين وبالغرب القوي الحر لطرح فكرة دولة إسلامية شرعية يفكر لنا فيها الفقهاء، ويشرعون لنا حتى يتسق شرعنا مع ديننا ومع حقوق الإنسان الديمقراطية، فهو تلفيق وتزوير على الكل، وعلى الأمة المجهولة والموجودة كلتيهما.
يقول الدكتور إنه من الغلط أن نظن أن الشريعة هي ما كتبه الفقهاء وما يكتبه فقهاء زماننا مثل سيادته، ويصر على العودة عند التشريع للفقهاء، لاعتقاده كمسلم أن الكتاب والسنة هما المرجعية، خاصة وبالذات في التشريع، وأن الكتاب والسنة لم يتركا شيئا إلا فصلاه، حتى خروج المسلم إلى الخلاء ونظافته الشخصية لقيت من الشريعة اهتماما عظيما بالتفصيل الممل أحيانا.
ومع ذلك لا يجد فلاسفة الدولة الإسلامية المأمولة بين أيديهم في القرآن ولا في السنة ما يسعفهم في شأن نظام الحكم وآلياته وهيئاته ومؤسساته، رغم أنها أهم من شئون الخلاء وأفضل. فإذا كان نظام الحكم شأنا إسلاميا فلماذا غفل الإسلام عنه كل هذه الغفلة، وإذا كان الله حسب إيمان المسلم كان يعرف مفاهيم أيامنا وما سيستحدث فيها فلماذا لم ينزل سورة الدستور أو آية الديمقراطية. وهل لم يكن الله عالما في زمن الدعوة أن هذه الشئون ستحدث في زماننا؟ لا شك لدى المؤمن أنه كان يعلم، وأنه لو كان يريد للدين أن يتدخل في مثل هذه الشئون لقالها صراحة وبوضوح، لقد تنبأ القرآن بانتصار الروم من بعد غلبهم حتى يفرح المؤمنون، وقد انتصر الروم لتتحقق النبوءة، فلماذا لم يتنبأ بحال أمته اليوم؟ ولماذا لم يضع لهم الدساتير والآليات في كتابه المقدس.
إن ما قرره مفكرو الأمة المسلمون وجعلوه شرعا منذ فجر الإسلام وحتى اليوم، إنما يشير إلى شخصيات ديكتاتورية مستبدة، ظلوا يشرعون من جانب واحد طوال الوقت. ومنذ أيام حسن البنا وسيد قطب، آمن المسلمون بشيء لم يكن يوما في دين المسلمين، وهو أن الإسلام دين ودولة. ومع حضور القوى العالمية في المنطقة، وبداية إعادة تشكيل ثقافة منطقة الشر أوسط الكبير، بدأ سادتنا الفقهاء يعترفون بأن ما قيل من قبل بشأن الحكم كان مجرد فقه، مجرد فكر، وليس شرعا مفروضا؛ لعلمهم أنه كان أسوأ شرع للحكم يمكن تطبيقه على بشر؛ لذلك هو لا يلزمنا اليوم، لكن يصرون على شرط وضع التشريع بيد الفقهاء كأساس ضروري، ليشرعوا كما شرعوا من قبل من بنات أفكارهم وأوهموا الناس أن هذا هو الإسلام، وهو ما كان عين الاستبداد ذاته.
إن ما نفهمه من إسلامنا، ومما قال الدكتور الآن - وهو ما يجب أن يفهمه بدوره - أن الله قد ترك مسألة الحكم ونظام الدولة وعلاقة الحاكم بالمحكومين عن عمد منه وقصد، لا عن تقصير وسهو في أمور هي من المهمات العظيمات، كما أنه لم يتركها لحفنة منهم هم الإخوان أو غيرهم من كهنة الإسلام، ولم يحددهم بالخصوص بالذات للقيام على هذا الشأن دون غيرهم. لقد ترك الإنسان يستهدي بعقله وظروف زمنه في مساحة حرة لم يتدخل فيها الشرع، ليؤكد له إنسانيته، وأن هذا هو سر في تكريم بني آدم؛ هو أنه خلقه حرا لتأكيد إنسانيته، وهو بالفعل تكريم صادق. لكن أهل الدين والمشتغلين به صادروا هذه المنطقة الحرة التي تركها لنا الله دون أن يقول فيها قولا، لصالحهم، ليحولوا الناس عن العبادة لله إلى العبادة لشيء لم يعرفه الإسلام في بكارته الأولى.
الدكتور معروف حبذ اختلاف العلماء؛ فهو بمجمله رحمة يوسع دائرة الفهم والتفسير ومساحة اختيار المسلمين بين بدائل كلها شرعي، بعد أن أكد أن الفقهاء هم العلماء المجتهدون الذين حاولوا فهم الشريعة وتفسيرها، استنادا إلى فهمهم واجتهادهم في زمن معين، ولم يخطر له أن يناقش أسباب هذا الاختلاف الموضوعية ولم يتطرق إليها بالمرة، إنما ذهب مباشرة إلى النتائج التي رآها بمجملها رحمة، ولا تعلم أين هذه الرحمة في تاريخنا العتيد الغليظ حتى نقتدي بها. يعني هل انتهت مشكلة القرآن مخلوق أم قديم؟ وهل يمكن لأحدنا اليوم أن يقول قول المعتزلة ويعلن ذلك ويكتبه ويدافع عنه دون أن يجزوا رقبته أو يحبسوه بتهمة ازدراء الأديان؟ هل انتهت مشكلة صفات الله وذاته ويمكن لأحدنا أن ينكر عنه الصفات تنزيها له وأن يعلن ذلك ويدافع عنه، دون أن تصدر بشأنه آلاف الفتاوى التكفيرية، ويتطوع لقتله عجلاتي أو نجار مسلح أو سباك بفتوى مشيخية.
لو كان ما يقوله الدكتور صادقا وسديدا لكان شيعة العراق والخليج قلة معززة مكرمة. إن اختلاف الفقهاء الذي يقصده الدكتور هو في شئون بسيطة وهينة وتافهة وضيقة تتعلق بالسنن في العبادات في الأغلب؛ لأن قضايا التفكير الفلسفي في شأن الدين عبر علم الكلام لم تعد موجودة ويبدو أنها لن توجد؛ لأن اختلاف وجهات النظر لم يكن رحمة بالمسلمين؛ لأن كليهما انطلق من ذات النص وأصبح هو المؤمن وغيره ليس كذلك؛ مما أباح دمه، فحدثت الفتن الكبرى من عثمان إلى الجمل إلى كربلاء إلى وقعة الحرة الكريهة ... إلخ. الفتن حدثت لأن كل فرقة رأت أنها الصواب في شأن الحكم؛ ولأنه لم يكن لديهم قانون في الحكم أو تشريع، فقد جاز لكل فريق التأويل والاجتهاد على هواه. وما الفتنة الكبرى إلا نتيجة تضارب وجهات النظر؛ لأنها كانت تضاربا في المصالح، كانت صراعا على السلطة والحكم، وتم استخدام الدين دائما كطرف في هذا الصراع، رغم أن هذا الدين لم يقل يوما إن لديه أي رغبة ولو بالتلميح في الحديث عن نظام الحكم أو شكل الدولة.
صفحه نامشخص