الدولة المسلمة والدولة الدستورية 1
الشورى والديمقراطية من الدولة الدينية إلى الدولة الإسلامية
الدولة المسلمة والدولة الدستورية 1
الشورى والديمقراطية من الدولة الدينية إلى الدولة الإسلامية
الدولة المسلمة للخلف در
الدولة المسلمة للخلف در
تأليف
سيد القمني
إهداء
إلى أهل قريتي «قمن العروس»،
الذين لم أعرفهم إلا قليلا،
وأعتز بهم كثيرا.
الدولة المسلمة والدولة الدستورية 1
في القرن الخامس قبل الميلاد عقدت روما أول جمعية مشكلة من مواطنيها، وقررت هذه الجمعية - إقرارا للعدل - التخلص من السلطة المطلقة في نظامها الملكي، واختارت بدلا من الملك قنصلين متعادلين في السلطة، يحكمان لمدة عام واحد فقط؛ ليكون من مهام كل قنصل مراقبة زميله؛ وعينت اثنين من البريتور
ليراقب كل منهما القنصلين حرصا على مصالح الشعب؛ ووضعت لبنات أساسية لدستور كانت مهمته الأولى هي التصدي للحكم الفردي المطلق؛ ونصت على قتل من يحاول أن يصبح ملكا. وإن تم الحكم على مواطن بالإعدام في زمن الحرب من أحد الحكام، فللمواطن أن يلجأ للجمعية العمومية. كما نصت على أن عقوبة الإعدام هي من حق الشعب وحده في زمن السلم.
حدث هذا قبل ظهور الإسلام بما ينوف على الألف بقرنين من الزمان. وكان فارق الزمان هذا كفيلا أن يعرف العالم معنى العدالة ومعنى الديمقراطية منذ تأسست في روما، وأن لهذه الديمقراطية الأولية آليات وأجهزة تقوم على حمايتها وتنفيذ مآربها، بهدف تحقيق القانون بالعدل بين الناس، فلا يكون لأحد سلطان على رقبة آخر، يعطيه حقا فرديا في الاعتداء على حياة أحد المواطنين. حدث هذا في روما الوثنية قبل ظهور المسيح بخمسة قرون، وقبل الإسلام بألف ومائتي عام.
ويقول لنا أصحاب حلم الدولة الإسلامية إن الإسلام قد أسس للمساواة كأسنان المشط، ولا فضل لأعجمي على عربي، وجعل الحاكم محاسبا أمام الرعية؛ ألم يقل البدوي لأبي بكر لو أخطأت لقومناك بسيوفنا؟ أليس جميلا ومؤثرا موقف الخليفة العادل عمر بن الخطاب وهو يطلب من ابن الأسفلين أو ابن المستعبدين أن يأخذ ثأره من ابن الأكرمين؟ ألا تشير العبارة بوضوح لهذا الترفع في المعنى؟
الكلام جميل وحلو ومؤثر وعاطفي؛ فهو كلام؛ أقوالنا المأثورة عن المساواة والعدالة ومسئولية الحاكم إزاء الرعية نكررها هي هي؛ لأنها تعد على أصابع اليد الواحدة، في نفس الحادث السالف ذكره، قال عمر قولته الخالدة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
الكلام سهل؛ خاصة عندما يدلك العواطف؛ فما أحلى كلام الإنجيل عن المحبة والصفح الرائعين بلا شبيه ولا نظير، لكن محاكم التفتيش والحروب الصليبية قالت في الواقع قولا آخر مكتوبا بدم الأبرياء وصراخ الثكالى.
في التاريخ الديني يوجد نصان؛ أحدهما نظري خطابي إرشادي وعظي قصصي حكمي روائي عاطفي يخاطب القلوب والأرواح، والآخر هو ما تم تدوينه في الواقع فعلا وحدثا، وهو كما حدث في المسيحية حدث في الإسلام، ودونه المسلمون بأيديهم، كلون من الفخار والعزة والسؤدد ليفاخروا به التاريخ كله. وكلا النصين مقدس. وكلاهما عندما فعل في الواقع بالفعل البشري ونوازعه ورغباته أدى إلى احتلال البلاد والإسراف في القتل والاستبداد بالعباد، مع قهر وظلم بلا شبيه ولا نظير؛ لأنه تم تدوينه بدم الناس وأوجاعهم، وبالإبادات الجماعية الشاملة التي نسميها اليوم جرائم حرب ضد الإنسانية.
اليوم يوجه لنا المشتغلون بالدين علينا الخطاب الأول ويغطون حتى على مصادر الخطاب الثاني، ويطلبون عودة بلادنا إلى نظامها الخليفي الأول، ويطلب الاتحاد العالمي للإخوان إحياء الخلافة هدفا رئيسيا في برنامجه؛ لذلك يصبح واجبا على المسلم أن يعلم ما هو مقبل عليه في حال استلام الإخوان أو أحد إخوانهم لحكم مصر المحروسة لا قدر الله ولا كان.
نعود للخلفاء الراشدين قدوة المسلمين، والذين تحولت فعالهم في المذهب السني إلى سنة كسنة الرسول، مكملة له بالضرورة، بحسبانها النموذج الذي يدعو له المتأسلمون على كافة ضروبهم، لنجد الواقع ينطق بغير أقوالنا المأثورة؛ فالخليفة الذي قبل من الأعرابي قوله أن يقومه بسيفه، هو من قوم الجزيرة كلها بسيفه، فقتل أهلها شر قتلة؛ قتل من اعترضوا على خلافته وشكوا في شرعية حكمه وصحة بيعته، وقتل من قرر ترك الإسلام إلى دين قومه؛ فأمر برمي الجميع من شواهق الجبال، وتنكيسهم في الآبار ، وحرقهم بالنار، وأخذ الأطفال والنساء والثروات غنيمة للمسلمين المحالفين لحكم أبي بكر؛ وهو ما دونته كتب السير والأخبار الإسلامية على اتفاق. والخليفة الثاني العادل، هو من استعبد شعوبا بكاملها، ومات مقتولا بيد واحد ممن تعرضوا للقهر والاستعباد في خلافته. أما الخليفة الثالث فكان واضحا من البداية في التمييز وعدم العدل خاصة في العطاء، فكان أن قتله أقاربه وصحابته الذين هم صحابة النبي قتلا أقرب إلى المثلة، فكسروا أضلاعه بعد موته عندما نزوا عليه بأقدامهم، ورفض المسلمون دفنه في مقابرهم فدفن في حش كوكب؛ مدفن اليهود.
ستواجهنا هنا مشكلة أخرى؛ فبأي الخلفاء الراشدين سنقتدي في دولتنا الإسلامية المقبلة؟ وبأي طريقة سيتم اختيار الخليفة؛ لأن الخلفاء الأربعة كان لكل منهم طريقة في الوصول إلى الحكم.
الخليفة أبو بكر انتصر بحديث «الإمامة في قريش» أو «الخلفاء من قريش»، وفي تأويل آخر رمزي اعتبر تكليف النبي له بالصلاة بالمسلمين في مرضه الأخير، تفويضا له بالخلافة؛ ولم يكن تعيينا واضحا دقيقا بالمرة. واختار أبو بكر عمر من بعده، واختار عمر من بعده ستة يختاروا من بينهم واحدا، وفي ولاية الإمام علي أقوال كثيرة.
كل هذا يشير إلى أن رب الإسلام لم يضع للمسلمين نظاما واضحا في الحكم ليتبعوه؛ بدليل اختلاف الهداة الراشدين، وإلا كان تصرف وفعال وطريقة كل خليفة في الحكم مخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة. إنهم يقولون لنا غير ذلك؛ يقولون إن دولة الخلافة والشريعة معلوم من الدين بالضرورة، ومن يعارض قيامها (مثلي مثلا؛ فأنا من أشد أعدائها) هو مرتكب لما هو مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة!
إنهم يزيدون علينا في أمر ديننا؛ وهذا هو التعريف الدقيق للبدعة. المسألة ببساطة أن رب الإسلام ترك شأن الحكم للمسلمين؛ إن شاءوا فعلوا ما فعل الأثينيون بديمقراطيتهم المباشرة، وإن شاءوا فعلوا فعل بلقيس عندما كان لها لجنة استشارية متخصصة ترجع إليها في شئون الحكم، وهو ما أخبرنا به القرآن. ولم يعب القرآن حكم بلقيس، إنما عاب دينها، ففصل الدين عن السياسة، وترك لنا نموذجا آخر بين البدائل الممكن اختيارها. فإن شاءوا أخذوا بالطريقة المصرية أو الساسانية. وكل ما يجمع بين هذه الأمثلة هو وجود المؤسسات والهيئات التي تقوم على حفظ نظام الدولة وكيانها وإقامة العدل بين المواطنين، وحفظ حقوقهم.
نعود لزمن الرسول والصحابة نبحث أي النماذج اختاروا للحكم من بين المعروض في الدنيا. وهو مساحة صمت فيها الوحي، فكانت مساحة حرة يمكن فيها اختيار أفضل الأنظمة لأفضل الأديان ليعبر عنه وعن عدله ومساواته، ومحققا لمأثوراتنا؛ خاصة أسنان المشط دلالة على المساواة.
يقول: «أبو حاتم وابن مردويه، عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقضى بينهما، فقال الذي قضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب. فأتينا إليه، فقال الرجل: قضى لي رسول الله على هذا، فقال ردنا إلى عمر. فقال عمر: أكذاك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما. فخرج إليهما مشتملا سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر. فقتله، وأدبر الآخر، فقال: يا رسول الله، قتل عمر صاحبي. فقال عليه السلام: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن. فأنزل الله:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء: 65).»
ويتأسس على هذا الحدث وتلك الآيات في أيامنا هذه تشريع فتوى بقتل المخالفين وتفجيرهم لأنهم لا يرضون بحكم الله والرسول بمخالفتهم للمذهب السني! لأن عمر قتل الذي لجأ إليه طلبا للعدل وهو يقول: «هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله.»
وقضاء الله ورسوله اليوم هو التجديد الوهابي للمذهب السني بالتحديد والتدقيق، فإن خالفته في شيء فعلوا بك فعل عمر فيمن ذهب إليه طالبا العدل.
تعالوا نعرض هذا الموقف على الرؤية الرومانية الوثنية قبل الإسلام باثني عشر قرنا. كان من حق هذا المقتول أن يعرض أمره على الجمعية العمومية قبل تنفيذ الحكم، لا أن يصدر الحكم وينفذ في نفس اللحظة، كما أن عقوبة الإعدام وقت السلم لا يحق صدورها من أفراد بل هي من حق الشعب من خلال مؤسسات المجتمع ونظام الدولة.
ولم يكن خلاف هذين المتخاصمين في أمر من أمور الدين؛ فليس بينهم خلاف على نبي ولا شعيرة ولا آية؛ كان خلافا في شأن دنيوي بعيدا عن دائرة الدين، وكلاهما كان من الصحابة مثل عمر، وكلاهما صديقان لا يرجو إحداهما الشر للآخر، وهو ما تشير إليه لوعة الثاني الذي عاد يشكو للنبي: «يا رسول الله: قتل عمر صاحبي.» وكانا يعرفان النبي كما يعرفان عمر، وكان قول النبي: «ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن»، يشير إلى معرفة النبي أن الرجل ليس مسلما فقط بل هو مؤمن، وهو أعلى درجة من المسلم. لكن الله حسم الموقف بعدم إيمان المقتول. هنا لا بد للعقل أن يتساءل: وهل كان عمر عندما قتل القتيل يعرف أنه غير مؤمن؛ فالنبي نفسه لم يكن يعرف ذلك؟ وإن كان القتل قد تم بناء على عدم إيمانه وأن عمر استنتج ذلك لعدم قبوله بتحكيم الرسول، فما هي الحال مع الأعراب الذين قال الله بشأنهم
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا (الحجرات: 14)؟
وحتى لو كان عدم إيمان الرجل مؤكدا، فإن ذلك العقاب بمنطق اليوم وحقوق اليوم غير مقبول بجميع المقاييس.
المقصود هنا بيان أن دولة النبوة كانت شأنا خاصا وطارئا، وكذلك دولة الراشدين، وإنه كان للزمن ولظروف البيئة وإحكامها وتحكمها للشكل القبلي في الحكم، لكنها لا تلزمنا اليوم باتباعها؛ لأن مسألة الحكم تركها الله لنا مساحة حرة نقيم حكمنا بأيدينا كيفما شئنا. أما دولة النبي أو دولة الراشدين فكانت ائتلافا قبليا، وهو ما يصعب علميا أن نطلق معه كلمة دولة على هذا الائتلاف؛ لأنه لا يملك أيا من مقومات الدولة.
ودليل من فعالهم يشير إلى قناعتهم الداخلية أن الحكم الديمقراطي شيء ودولة الرسول والراشدين شيء آخر، وأن مطالبة الإخوان بحزب يخوض العملية الديمقراطية بغرض إقامة نظام إسلامي «الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة» ليس سوى احتيال على الديمقراطية؛ الدليل دعوة الإخوان لمقاطعة الاستفتاء على المادة 76، فلو كانت الديمقراطية من دولة الإسلام أو من الإسلام لكانوا أول المشاركين عملا بالشرع وأول الداعين له، لكنهم يزعمون الديمقراطية سبيلا ويؤكدون أنها عمدة الإسلام بقوانينها المحترمة لنقبل بهم في حفل الديمقراطية خلفاء علينا يطبقون ما يعن لهم؛ لأنه لا يوجد تفصيل وتقنين واضح لطريقة الحكم في الإسلام. لكنهم يدعون الناس إلى مقاطعة الديمقراطية والاستفتاء لأنهم يعلمون أنهم لن يكونوا فيها وهم على حالهم هذا.
لماذا لم يقولوا للناس: اذهبوا ومارسوا الحق الدستوري وتعلموا الديمقراطية وقولوا ما تريدون. وكان بالإمكان أن يحرض الإخوان الناس ليذهبوا وليقولوا «لا»، فيكونوا قد فعلوا ما يحمد لهم باحترام الديمقراطية وتكريمها عند الناس. إن الاستفتاء خطوة في الطريق الصحيح، خذ إذن وطالب، ولا تكن كما كنت دوما تطلب كل شيء أو لا شيء، فتأخذ «لا شيء». لتكن مرحلة انتقالية يصارع فيها الجميع سلميا لتحقيق الديمقراطية. لقد ساووا بيننا وبين العبيد الرومان 500 قبل الميلاد؛ فهم فقط من لم يكن من حقهم التصويت.
كان على الإخوان أن يثبتوا احترامهم للديمقراطية بدعوة الناس دعوة عامة للمشاركة في الاستفتاء ويقولوا «لأ»، كما اهتموا بالدعوة العامة للحجاب والخمار والنقاب ... سادتي الإخوان؛ إن الديمقراطية أهم من الحجاب واللحية والسروال الباكستاني.
المشكلة عند الإخوان أنهم يدعون - تلبيسا وتقية - مبادئ الديمقراطية؛ لأنهم لو صدقوا ما طلبوها دولة إسلامية ديمقراطية؛ لأنكم لو أصررتم على أنها إسلامية فإن مجرد ترشيح أحدكم ضد الحاكم سيكون خروجا على الشريعة، ولحق عليكم جز الرقبة في ميدان عام حسب الشريعة. «عن أبي بكر عن رسول الله قال: من خرج يدعو إلى نفسه أو إلى غيره وعلى الناس إمام، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فاقتلوه» (تاريخ الديلمي، انظر أيضا تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص76).
هذا لأن الدولة الإسلامية بحكم منشئها وتكوينها الاجتماعي القبلي لم تكن دولة مؤسسات، وكان من الضروري تفعيل هذا الحديث النبوي لإحداث الاستقرار والتماسك للدولة الناشئة، ولم تعرف تلك الدولة تداول السلطة، بل إنها في أحيان كثيرة لم تعرف العدل بقدر ما عرفت الظلم.
كانت روما منذ قرون متطاولة قد قسمت شعبها مئات، سميت بمجالس مئوية هي كل الشعب، وهي التي تختار كبار المتنفذين، وتنظر في الإجراءات التي يعرضها عليها الموظفون أو مجلس الشيوخ لتجيزها أو ترفضها، كما تنظر فيما يرفع إليها من استئناف الأحكام، وتنظر في جميع قضايا الإعدام، وتعلن الحرب، وتعقد الصلح.
وفي عام 454 قبل الميلاد، بناء على رغبة الشعب، أرسل مجلس الشيوخ إلى بلاد اليونان لجنة من ثلاثين حكيما لدراسة شرائع صولون
SOLON
وغيره وكتابة تقرير عنها؛ ومن ثم تم تشكيل لجنة من عشرة حكماء للخروج بما جاء به الثلاثون، لوضع قانون لروما «دستور»، وتم تخويلهم لمدة سنتين للانتهاء من وضع القانون، الذي تم تدوينه على اثني عشر لوحا «ذائعة الصيت» وافقت عليها الجمعية بعد تعديلات، وتم عرضها في السوق للناس ليعرفوا حقوقهم وواجباتهم. وكان هذا أول دستور في تاريخ الإنسانية.
أما في دولة الراشدين فكان الحكم يقوم كما قال أبو بكر على الكتاب والسنة، رغم أن الكتاب كان مفرقا بين الصحابة في الأكتاف والعظم والعسيب والأحجار، ولم يتم جمعه بعد في مصحف واحد، ورغم أن الحديث لم يكن بدوره حتى مسموحا بتدوينه، وكانت نصوصه غير معلومة لجميع أفراد الأمة، وكذلك القرآن، فكيف كان يتم حكم تلك الدولة بالكتاب والسنة وهما غير مدونين وغير معلومين من الأمة محل تطبيق هذه القوانين؟ ناهيك عن واضعي الأحاديث المحترفين وأصحاب الفتاوى، وكلها كانت تصب لصالح حلف الفقيه والسلطان. والملحوظ أن المواطن لم يطالب بحقوقه من حرية ومساواة وعدل وأمن بقانون وآليات لتنفيذه وحمايته، ولم تسع الدولة من جانبها لتوضيح تلك الحقوق له كما فعل الرومان.
وإذا كانوا سيستدعون لنا تلك الدولة النموذج ليحكمونا بها فليقولوا لنا كيف يقام العدل وتتم المساواة والحرية التي يؤكدون أنها أسس دولتهم الإسلامية؟
كيف قامت عدالة دون قانون منشور معلن يعرفه الناس ليحكموا به؟ لو كان هناك قانون مدون ما عاد أبو بكر إلى حديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»، ردا على فاطمة بنت النبي عندما طلبت ميراثها، وفوجئت لأنها لا تعلم من أبيها أخص خصائصها، ما كان وحده من سيتذكر هذا الحديث أو يعتمد على الذاكرة. بهذا المعنى تكون الدولة دولة طوارئ طوال الوقت، كلما أردت اتخاذ خطوة أخرجوا لك حديثا لم يكن معلوما من قبل. دولة القانون حتى لو كانت دولة الكتاب والسنة فلا بد أن تعرف الرعية حقوقها وواجباتها حتى لا تخالف القانون، وتقف أنت عند محاكمتك بين صحابي يدينك بحديث وبين آخر يجرمك بآخر وبين فتوى تهدر دمك. إن الظلم هو خالق العدالة؛ لأنها لو وجدت لاختفى. والظلم كالجرم هو خروج على القانون. ولا بد أن يطلع المواطن على القانون؛ لأنه كان نسبيا بين بلد وآخر؛ يعني عندما أتزوج أربع نساء في السعودية ليست جريمة، ولو عملتها في فرنسا جريمة. فالقانون هو ما يوضح الجرم للناس ويشرحه لهم. عندما تضع يافطة ممنوع الانتظار فمعنى ذلك أن تظهر المخالفات، لو رفعنا اليافطة لن تكون هناك مخالفات. فالقانون هو ما يحدد الجرم، بل هو ما يخلقه جرما؛ لأنه يحرم أفعالا لن أستطيع تمييزها إن لم أعرف القانون. وهنا يحدثوننا عن عدل عمر والقانون غير معروض، وهو ما سوغ لعمر قتل مسلم مؤمن فاستوى الظلم مع العدل.
ومن بعد، عندما تم السماح بتدوين الحديث وجمعه حدثت كارثة الحديث الحاصل على درجات؛ فهذا جيد جدا سنده قوي، وهذا حصل على درجة مقبول لأن سنده ضعيف، وذاك تسلل إلى مقدسنا بفعل إسرائيلي، كيف يكون القانون هنا؟ وما هو بالضبط؟
أما المثير للانتباه أن جامعي الحديث لم تكلفهم الدولة بذلك عبر تاريخها المتطاول، إنما قام به من قام متطوعا لوجه الله. مجرد تذكير: إن الآية التي جاءت في قتل عمر للمتقاضي إليه لا بد أن نفهم أنها كانت تبريرا لعمر لمكانته الخاصة في الإسلام ومن نبي الإسلام، وليست تشريعا، وإلا وجب قتل الأعراب الذين قالوا آمنا وهم مسلمون فقط لم يرتقوا إلى رتبة المؤمنين بعد.
كيف كان لقاض أن يحكم بالكتاب والسنة زمن الراشدين ولم تكن معه نسخة من الكتاب ومن السنة؟ في هذه الحال أن يجتهد رأيه، وهو ما قاله النبي لمعاذ بن جبل سفيرا إلى اليمن؛ يعني كل واحد واجتهاده وكل واحد ورأيه، فهل هكذا سيحكموننا عندما يركبون مصر؟ كل واحد حسب ظروفه؟! وكل واحد ومزاجه؟!
الملحوظة التي تؤكد ذلك أنه تم قتل أكثر من سبعين من أسرة النبي الأقربين، ودخل الصحابة قتالا قتلوا فيه بعضهم بعضا بالألوف من كربلاء وحتى وقعة الحرة المخزية، وحتى ضرب الكعبة بالمنجنيق وحرقها، يؤكد هذا الخوارج الذين رفضوا التحكيم، يؤكد هذا أطراف معركة الجمل، كل طرف دوما كان يتحدث لصالح قضيته بالقرآن والسنة، وكل طرف ومعه الوضاعون يخترعون له الحديث، ولم يتحدثا سياسة صريحة. ولو كان هناك قانون من القرآن والسنة مدونا لرجعوا إليه في وقعة الجمل أو في مقتل عثمان، ولكان كل شيء قد سار بسلام إلى نتائجه وفق ترتيب قانوني واضح غير ملتبس. إن دولة الراشدين لم تعش حتى السبعين من عمرها وسقطت، واكتظت بأخبار الفظائع الدموية؛ لأنها لم تكن دولة مؤسسات، إنما ائتلاف قبلي لم يتمتع بعد بمؤهلات الدولة المؤسسية، وهيئاتها التمثيلية، ونظمها المحاسبية، وهيئات المتابعة الرقابية، والقضائية، وهيئاتها التنفيذية التي تضمن سيادة القانون وتحميه لتحقيق العدالة والمساواة.
هذا ما يريدون أن يأخذونا إليه، حيث واحة الديمقراطية والعدل، غير مدركين أننا نحب ديننا ونحترمه، لكننا نعلم أن منه كثيرا مما كان يخص زمنه وظرفه الاجتماعي وبيئته الجغرافية وواقعه التاريخي وقيمه وأساليبه، وأن علمنا هذا لا يقلل من حبنا واحترامنا لديننا، لكنه فهم يتركنا بسلام مع حاضرنا نتفاعل معه بلغته من أجل ديمقراطية حقوقية كاملة، يوضع حجر الأساس له بالإصلاح هذه الأيام، ويجب أن يحضر احتفاليته جميع المصريين، ليبنوا المستقبل معا.
الشورى والديمقراطية من الدولة الدينية إلى الدولة الإسلامية
سبق لنا أن ناقشنا مفهوم الشورى في الإسلام في كتابنا «شكرا بن لادن»، ومجددا، وفي صحيفة الحياة بدءا من تاريخ 28 / 8 / 2004م كتب الدكتور بشار عواد معروف دراسة مطولة وهامة حول الشورى يمكن أن نستخدمها هنا كأساس لإعادة المناقشة والتحليل والدرس، من وجهة نظر أخرى جديدة تماما. والدكتور بشار عواد أكاديمي عراقي يقيم بالأردن ، وهو قطب إخواني كبير، وقد عنون دراسته ب «الجماعة والسلطة: قراءة في المبادئ والقواعد والوقائع التاريخية»، وقد أعيد نشرها على الشبكة الدولية للمعلومات بتاريخ 27 / 2 / 2005م تحت عنوان: «الشورى والسلطة التشريعية». •••
يدخل الدكتور معروف إلى موضوعه عبر مقدمة تقول: «ربط المفكرون الإسلاميون فكرة الشورى بالديمقراطية، فمنهم من رفض الديمقراطية وجعل الشورى هي البديل، ومنهم من حاول - في سعيه للتجديد والمعاصرة - التقريب بينهما، ومنهم من دعا إلى الأخذ بالديمقراطية باعتبارها نظام حكم وآلية للمشاركة. وإن التغاير بين المشروع الحضاري الإسلامي وبين الديمقراطية هو من باب التنوع والتمايز لا التضاد والخصومة.» ا.ه.
وفي هذه المقدمة الصغيرة وردت كثير من الألفاظ والمفاهيم التي تحتاج إلى وقفة للفهم والتحليل والتدقيق مثل الشورى والديمقراطية، والشورى كبديل للديمقراطية ... إلخ. فكيف نفهم مثلا أن المفكرين الإسلاميين جعلوا الشورى هي البديل للديمقراطية؟ إن البديل هو الذي يساوي ويطابق بديله، والمشكلة الأولى هنا هي أن الديمقراطية كمفهوم هي منتج غربي بلفظ لاتيني، فهل مجرد نقله والقول إن بديله العربي هو الشورى، يعني أن اللفظين قد تطابقا، وأن الشورى قد أصبحت البديل الصادق المعبر عن المعاني التي قصدها أهل الديمقراطية؟
أم أننا نأخذ لفظ الديمقراطية كمنطوق لساني لفظي بغض النظر عن معناه ودلالاته ومحتواه ومضمونه وأسسه الفكرية والفلسفية، لنطابقه بلفظنا «الشورى» ببساطة مدهشة، وخفة شديدة؟! فإذا كانت الألفاظ دون دلالات اللفظ وتاريخه وموطنه يمكن تبادلها بهذه البساطة، فإن «رع» سيكون بنفس البساطة هو «الله»، ويكون «بوذا» هو «خاتم الأنبياء»، بذات الخفة والتبسيط المخل.
إن المفردات ذات المعاني الدقيقة وذات التاريخ الطويل بما يحمله هذا التاريخ من أفكار، والتي لم يسبق أن عرفتها اللغة العربية، وغابت عن مجتمعاتنا غيابا كليا، وغير موجودة في معاجمنا، يلزم أن تظل كما هي حتى يمكنها أن تحتفظ بدلالاتها الصادقة ومعانيها المفهومة عند أصحابها، وعند من أخذ بالديمقراطية في العالم جميعا - عدانا بالطبع - لأننا نعيش مجتمعا عالميا أصبح متصلا بعضه ببعض، ويلزمه كي يفهم بعضه بعضا بلا غموض ولا خداع أن تظل المفردات كما هي بمعانيها وتاريخها ودلالاتها. والديمقراطية لا يمكن ترجمتها ببساطة خادعة إلى بديلنا (الشورى)؛ لأننا في هذه الحال سيكون علينا أن نجد الترجمة البديلة لملايين الألفاظ مثل الفيروس والبكتريا والأمبير والأكسجين والدكتاتورية والجمهورية ... إلخ. وأن تكون الترجمة وافية بالمعنى الأصلي للفظ لتؤدي ذات الدلالات ونفس الهدف.
إن المعنى الأول الذي حملته كلمة ديمقراطية منذ نحتها الرومان في مجلس الساناتو قبل الإسلام بعشرة قرون، كانت تعني أن يحكم الأحرار أنفسهم بأنفسهم. وهو معنى لا يعرفه المخزون العربي؛ ومن ثم ليس في المعاجم العربية ما يعبر بصدق عن هذا المعنى الأول؛ وعليه فلا سبيل سوى استخدام اللفظ كما نحته أهله بمعانيه ودلالاته، وإلا نكون مزورين ومزيفين. المشكلة هنا أن أصحاب الشورى عندما يرونها بديلا، فهو ما يعني أنهم قد أجروا مفاضلة بين الشورى والديمقراطية. لكن طالما أن بديلهم لا يطابق الأصل، ويحمل معنى التميز بعد المفاضلة، فهو ما يدفع للسؤال عن أيهما الأفضل ... البديل الإسلامي أم الأصل الديمقراطي؟ لأنه في مساحة الأمانة العلمية يجب اقتضاء الدراسة المقارنة التفضيلية، وهو شأن يقوم به المتخصصون في القانون الدولي والقانون الدستوري وأهل فلسفة السياسة والقانون والتاريخ؛ ولا بأس من أهل الفقه الإسلامي معهم، للمقارنة ثم العرض على أولي الشأن للاختيار. وأولو الشأن هنا ليسوا هم أهل الذكر وليسوا الفقهاء؛ لأن رأي الفقهاء سيوضع إلى جوار آراء الخبراء كرأي مفرد، أهل الذكر هنا هم أصحاب الديمقراطية. وعليه فإن إبداء الرأي فيما إذا كانت الشورى هي الديمقراطية ليس من اختصاص رجال الدين الإسلامي؛ لأن الديمقراطية ليست من لدنهم، وعليهم الرجوع إلى أهل الذكر؛ إلى أهل الحضارة والثقافة الغربية صاحبة الديمقراطية ليفصلوا لنا في هذا الخصوص؛ فهم من يستطيع بإجراء المقارنات أن يقولوا لنا إن كانت الشورى هي الديمقراطية من عدمه.
وقول الدكتور معروف: «فمنهم من رفض الديمقراطية وجعل الشورى هي البديل» كان يستدعي منه إتباع هذا القول بالاستفسار عمن أعطاهم حق الرفض؟ وما هي صفة هؤلاء ليرفضوا أو يقبلوا؟ إن العبارة تشير إلى دكتاتورية كامنة وأسلوب تفكير مستسلم لفكر أسطوري إملائي، دون أن يكون لصاحب هذا الفكر أي حق في الإلزام أو الإجبار، وهي صيغة حكم، أو هي نتيجة بلا مقدمات، وتفضيل بلا طرح للبدائل، هي تعبير عن غطرسة دينية لم تكن حتى لدى الأنبياء، هي صيغة جبروت يختار لنا، وعلينا القبول بخنوع، هي صيغة أغبياء يعجزون عن المقارعة فكرا بفكر؛ لذلك هم لا يقارنون بالبدائل، بل يفرضون؛ لأنهم يعلمون أن الشورى لا يمكن أن تكون بديلا للديمقراطية، فعندما يعطيني الصيدلي بديلا للعلاج المطلوب، فهو يعطي بديلا تغير فيه الاسم التجاري فقط، بينما لم يتبدل المحتوى والمكونات؛ فهو هو بمادته التصنيعية بذات المركبات وذات النسب. وبهذا المعنى لا يمكن أن تكون الشورى بديلا للديمقراطية؛ لأن المكونات تتضارب بينهما وتتناقص تناقصا صارخا، وصاحب الديمقراطية الذي صنعها هو من يعرف ما تستبطن من معان وفلسفات وبرامج ومقاصد، وليس نحن.
المفروض في المفاضلة إذا كانوا يقصدون المفاضلة أن يستعرضوا لنا ما في بطن الشورى وما في بطن الديمقراطية، ثم يتركوا لنا الاختيار، ما دمنا نتحدث عن الديمقراطية. لكنهم أخذوا القرار وعلينا التسليم بأن الشورى بديل الديمقراطية، بأحكام كلها غير أمينة. إن كلمات مثل أمبير وأكسجين وهيدروجين تحمل معاني يعرفها المكتشفون وقاموا بتعليمها لبقية الناس في العالم، فسلم بها كل العالم، وظلت كما هي بدلالاتها وما في بطنها من تراكم معرفي خاص بمكانه وزمنه، ومثلها الديمقراطية، ومثلها «الفيمتو ثانية»، من يشرحها لنا صاحبها د. «أحمد زويل» وليس «شيخ الأزهر»، ولا يمكن ترجمة معناها بالمقابل الإسلامي، كالديمقراطية سواء بسواء؛ لأنها قادمة من مجتمع وفلسفة مختلفة؛ لأنه ليس لها أي مرادف في مخزوننا الثقافي، واصطناع أي لفظ عربي مهما كان لن يعبر عن المعنى الذي أراده أصحابها. المشكلة أنهم يحيلون المعنى إلى لفظ قرآني (الشورى)؛ يعني ربنا موجود في الموضوع ليطرد أي كائن أو رأي آخر؛ لأنه هو من قال؛ يعني هناك جهنم لمن رفض تفضيل القرآني على البشري؛ يعني انعدم الاختيار تماما، وانعدم أول مبادئ الديمقراطية في بساطتها البدهية.
وحتى لا نقبل ما نقبل إلا عن بينة، أو نرفض ما نرفض إلا عن بينة، تعالوا نرى ما في بطن الشورى لنرى هل هي بديل الديمقراطية حقا، من عدمه. •••
الشورى نظام عربي قديم عرفته قبائل بوادي الجزيرة العربية؛ فكان لشيخ القبيلة مجلس للشورى يضم أفراد القبيلة الأحرار صرحاء النسب الذين بلغوا الأربعين من العمر فما فوق، ويتسمون برجاحة العقل وأيضا بالثراء المادي. وقد لازمت الشورى العرب في الإسلام كما لازمه الكثير من شئون الجاهلية؛ لذلك جاء ذكرها في القرآن مرتين: الأولى في قوله:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران: 159). وقد أورد الدكتور معروف شرح الطبري للآية بنصه: «إن الله عز وجل أمر نبيه
صلى الله عليه وسلم
بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه؛ تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته
صلى الله عليه وسلم
يفعل. فأما النبي
صلى الله عليه وسلم
فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه وإلهامه إياه صواب ذلك. وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك، على تصادق وتوخي الحق وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هوى؛ فالله مسددهم وموفقهم. وأما قوله تعالى:
فإذا عزمت فتوكل على الله ، فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها.»
أما الآية الثانية فهي
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (الشورى: 38). يقول الطبري: «وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم.» وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره «أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييبا لقلوبهم ليكونوا فيما يفعلون أنشط لهم، كما شاورهم في الحروب ونحوها.»
ويعقب الدكتور معروف بقوله: «ويلاحظ في تفسير الطبري للآية الأولى أن النبي
صلى الله عليه وسلم
إنما كان يشاور تطييبا لقلوب أصحابه مع عدم إلزامية هذه الشورى له، والمضي فيما أمر به، وإن خالف ما أشار به أصحابه، وتعليما منه
صلى الله عليه وسلم
لمن يأتي بعده بضرورة المشاورة. ومن هنا يتعين الفصل بين الشورى في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
وممارسات الشورى لمن جاء بعده؛ فالاستشهادات بالتطبيقات العملية للشورى في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
فيها الكثير من عدم الدقة؛ لأن شخصية الرسول شخصية رسالية يصعب التمييز داخلها بين تصرفاته الرسالية المتأتية من الوحي وبين الاجتهادات الشخصية الدنيوية. والتوكل الذي أشارت إليه الآية في سورة آل عمران سواء أجاء موافقا أم مخالفا لأهل الشورى هو من أمر الله. ويمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة المشابهة.
أما الخلفاء الذين جاءوا بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
فكانوا يستشيرون الصحابة، لكن الآراء لم تكن ملزمة لهم باتباع ما أشير به ... وكل إنسان قديما أو حديثا يستشير لكنه غير ملزم باتباع ما أشير إليه دائما، وإلا فلا معنى للفظة الشورى.» ا.ه.
ونضيف هنا ما جاء في تفسير القرطبي: «قال قتادة: أمر الله نبيه
صلى الله عليه وسلم
إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله لا على مشاورتهم، وعاتبه على المشاورة في الأسرى: ما كان لنبي أن يتخذ أسرى حتى يثخن في الأرض.»
وقد عمل أبو بكر وعمر بهذا النظام في الشورى؛ فقد أشار الصحابة على أبي بكر ببقاء الجيش لمحاربة المرتدين، فلم يأخذ بالشورى وأنفذ بعث أسامة، ثم أشار الصحابة على أبي بكر مهادنة القبائل الانفصالية (المرتدة) وقبول الصلاة وترك الزكاة حتى يعز الله الإسلام بالقوة، فما كان منه إلا أن اتخذ القرار النقيض بشن الحرب على المرتدين. ولم يكن هناك مبرر منطقي في القرارين، وكان أهل الشورى هم الأكثر منطقية. لم يكن هناك مبرر سوى تنفيذ رأيه بغض النظر عن المشورة. كذلك أجمع الصحابة على أن يقود الخليفة عمر جيوش المسلمين لحرب الفرس عدا عبد الرحمن بن عوف الذى أشار ببقاء الخليفة بالمدينة، فأخذ الخليفة برأي عبد الرحمن وحده ورفض الإجماع.
ومن هنا اختلف الفقهاء في شئون بلا قيمة؛ لأن المبدأ نفسه غير ملزم للحاكم، ولا يملك أدوات إلزام ولا تشريع بالإلزام ولا مؤسسات يكون في تمكينها الإلزام؛ وذلك من قبيل تقدير حدود الشورى، وكيفية التزام الحاكم بها، ومن هم أهل الشورى ومن يمثلون، وهل هم أسماء كبيرة بلا مصداقية؟ هل هم رؤساء القبائل وأمراء الجند، أم أهل العلم الديني والفتوى؟ لن ترى في بحثك وراء الشورى سوى عشوائية تامة مما يشير إلى أنها توسع كالورم في أمر لم يكن يقصد كل هذا التوسع؛ لأن الغرض منه لم يكن أكثر من تطييبه لقلوب الصحابة مع عدم إلزامه منذ زمن النبي كما شرح الطبري؛ لتبقى مجرد ورم في تاريخ المسلمين. وقد سمحت هذه الفوضى مؤخرا للشيخ يوسف قرضاوي بتحديد من هم أهل الشورى بالضبط، فقال: «يقول الإمام ابن عطية في تفسيره: إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب» (الإسلام والعلمانية وجها لوجه، مكتبة وهبة، القاهرة، 120). وهو نفسه من سنسمعه بعد قليل وبداخل ذات الكتاب ينكر أن تكون الشورى من قواعد الشريعة أو عزائم الأحكام؛ لأن مساءلة الحاكم كانت كلاما لطيفا من باب حسن النية، ولأن الأمر في الحديث النبوي هو «طاعة ولي الأمر من غير معصية» إعمالا لأمر القرآن، ومع الطاعة لا مكان لشيء اسمه الشورى أو الديمقراطية.
ومبدأ الشورى لم يعن يوما عبر تاريخه أي معنى من معاني حرية الرأي والاختلاف، فهذه مفاهيم لم يعرفها المسلمون؛ لأن الدولة الإسلامية مارست الاستبداد في تماميته استنادا لمبدأ الشورى؛ فالرأي للخليفة وليس للناس؛ يعرض رأيه على المشيرين وقد يأخذ وقد لا يأخذ بقول المشيرين، وحق الشورى قاصر فقط على المسلمين، محجوب عن أهل الذمة، فحق الاختيار مشروط بالإسلام، وهو ما يتنافى بالكلية مع أبسط مبادئ الديمقراطية. كذلك تفتقر الشورى للتقنين وضبط الشكل الذي يمارس به حق إعطاء الرأي في الشورى، فلم يكن حقا انتخابيا بمعنى اليوم، ولم تكن لها مؤسسة سياسية، أو سيادية لضمان تنفيذات رسمية أو قانونية لقرارتها، إضافة إلى أنه لم يكن هناك حتى قانون يوضح مساحة الحقوق والواجبات بين المواطن والحكومة.
وحتي زمن كتابة الماوردي لكتابه «الخراج» لم يكن قد تم نحت اصطلاح واضح لأهل الشورى، حتى نحته الماوردي: «أهل الحل والعقد»، وهو اصطلاح تم تداوله رغم غموضه بدوره؛ فقد اشترط أن يحوز أهل الحل والعقد على 3 شروط هي: (1) العدالة. (2) العلم الديني الذي يستحق صاحبه به الإمامة. (3) الرأي والتدبير المفضي لحسن الاختيار. وهو ما حصر أهل الحل والعقد في رجال الدين؛ لأن رجال الدين هم ببساطة من وضع هذه الشروط. بل وقيل إن هؤلاء هم أولو الأمر المطلوب طاعتهم في الآيات، كما أوضح الفخر الرازي في التفسير الكبير للآية 59 النساء. ومع المنافع والمصالح أضاف رجال الدين، ببعض التساهل، إلى أهل الحل والعقد الأشراف والأعيان؛ أي الأثرياء من المسلمين.
واختلف الفقهاء حول عدد أهل الحل والعقد اللازم لاختيار الإمام بين ثلاثة آراء، آخرها وأحدثها أن يكون من كل بلد واحد، وأقدمها حد أدنى للاتفاق على المرشح بستة أشخاص سيرا على سنة الخليفة عمر عندما رشح ستة للخلافة من بعده، ثم رأي ثالث يصل بأهل الشورى إلى عدد ثلاثة أفراد يتولاه أحدهم بموافقة اثنين، احتجاجا بعقد النكاح الذي يصح بحضور ولي وشاهدين، وبعدها يحكم الخليفة الذي اختاره صديقاه أو شقيقاه مدى الحياة.
ورغم كل هذا التوسع في مسألة الشورى فإنها لا تطابق الديمقراطية لا معنى ولا تاريخا ولا فلسفة ولا أغراضا. بينما ظل أهل الحل والعقد مجرد تبرير للملك العضود عبر التاريخ الإسلامي. وسرعان ما اختفت حكاية أهل الحل والعقد وأصبحت ذكريات باهتة مدونة في كتب يقرؤها المتخصصون وحدهم، مع الجهل الذي ساد بلاد المسلمين بفضل هؤلاء المتخصصين ذاتهم. حتى جاءت الصحوة الإسلامية كصحوة أهل الكهف، فإذا بها تواجه زمنا قد اختلف بالكلية عن زمن السلف، وبيدها عملة لم تعد صالحة لأيامنا. •••
يقف وراء إصرار المتأسلمين على العودة إلى قديمهم طوال الوقت لينبشوا في ركامهم عما يمكن أن يكون بديلا لمنجز الإنسانية منذ فجرها حتى اليوم، آية
ما فرطنا في الكتاب من شيء ، معتبرين إياها تعميما على كل العصور وكل الأمكنة حتى نهاية الأزمان. وهو ما جعل المسلم يعتقد أن القرآن مصدر وحيد للمعرفة الصادقة لأي شأن أو صنف من صنوف المعرفة، وأنه لا إنجاز صحيحا ما لم يبن على القرآن. ووصل الأمر بالمسلم - إثباتا ليقينه - إلى مواجهة علوم الطب العلاجية بشرب بول الجمل الذي كان يباع في معرض القاهرة الدولي للكتاب كعلاج مسلم ضد العلاج الكافر، وبنفس القياس يواجه الديمقراطية بالشورى؛ فهي بالنسبة للديمقراطية كبول الجمل بالنسبة للبنسلين. ولأن المسلم يبني كل إنجاز ممكن على مقدسه فهو يتصور أن أي إنتاج واضح للآخرين ناتج بدوره عن كتابهم المقدس؛ الإنجيل أو غيره. ولأن المنجز العلمي العالمي أصبح داخل كل بيت في العالم كله، وفيه المسلمون، واضحا جليا أمامهم، فقد اعتبروا أنفسهم مهزومين على مستوى العقيدة؛ لذلك يشنون حربا عقيدية إسلامية على الغرب الصليبي لتدميره، وساعتها تتساوى الرءوس بعد خراب ديار المتقدمين ليتخلفوا كالمسلمين؛ انتصارا للإسلام ومقدساته على الغرب ومقدساته.
والذي لا يلحظه الإسلاميون وهم يستحضرون الشورى من وراء سجف زمان مات واندثر، أن الشورى نظام قبلي الأصل، وأن النظام القبلي هو أقدم تاريخيا وأبعد إلى الوراء إلى ما قبل بناة الأهرام وقيام دولة مصر القديمة بأزمان طوال. وقد تطورت مصر بعد النظام القبلي الأول عبر قرون متطاولة حتى انتهت صلتها بالشورى وأقامت بعدها دولتها الكبرى بقانونها بمؤسساتها بنظامها الهرمي التراتبي التخصصي الدقيق، وعندما أقامت الدولة المركزية الأولى في فجر الأسرات 3200ق.م (حسب تقدير ماير) كانت قد تجاوزت نظام القبيلة بثلاثة آلاف سنة أخرى مثيلة سابقة. ويأتي اليوم أبناء مصر من المسلمين ليطلبوا العودة إلى تلك الأزمنة القبلية ليستخدموا أدواتها وقوانينها وقيمها في مواجهة الحداثة. يريدون عودتنا إلى ما قبل عصر الأسرات!
المصري فقد حضارته وتاريخه وأصبح قبليا، بطولاته ليست هندسة معمارية عظيمة، ولا هندسة ري دقيقة، ولا اختراعا ولا كشفا، إنما هي بطولات زغلول النجار ومصطفى محمود اللذين اهتما بإثبات أن القرآن قد احتوى كل ما اكتشفه العلم الإنساني وكل ما يكتشفه بعد، في خرافات تلفزيونية، أو في صفحات أكبر صحف مصر، ليس فيها من العلم غير الحكي البدائي في ليالي سمر القبيلة حول البعير، حكي ألف ليلة وليلة، حكي لم ينتج شيئا في الواقع حتى الآن، وهو غير قابل لأن ينتج شيئا سوى ضياع المسلمين في مزيد من العودة إلى الوراء.
ويصبح «العلم والإيمان» مدرسة وجمعيات كبرى بل وعقيدة عند المسلمين، وهو ما لم ينتج أكثر من حكايات هابطة لتسلية المسلمين وحدهم في صحراء جهلهم القبلي؛ فحتى وهو ينتج، ينتج إنتاجا حكائيا أنانيا لا يصلح بالمرة لغير المسلمين ولا يسلي غير المسلمين. وغير واضح لدينا أن المنتج العلمي الغربي هو لكل البشرية، بينما علمنا المختلط بإيماننا منتج تمت صياغته دون وضع الفائدة في الاعتبار؛ لذلك هو لا يفيدنا ولا يفيد غيرنا. بينما العلم بمفهومه الغربي أفادهم وأفادنا. عندما ترى الاعتقاد بالعلمية التامة للقرآن حسب برامج العلم والإيمان راسخة لدى أطباء ومهندسين وحقوقيين مصريين عن يقين، فهو ما يعني أن الشر والسوء قد حدث للوطن بغض النظر عن كل الكوارث الأخرى؛ لأنه يعني أننا أمسينا نخلط بين الخيال والحقيقة، وهو الهذيان، هو الجنون.
الإخوان المسلمون يريدون إصلاح حالنا المتدهور بإحياء الموتى لينظموا لنا حياتنا كما كانت حياة من هم في مقابر الألف الميلادي السابع، وهي شهادة على الذات شديدة المرارة؛ لأنها تعني فقد الثقة الكامل بالذات، والشعور بالتدني والنقص الحاد في تكوين شخصية الفرد والمجتمع، بعد أن تكاثر على المسلم ما يقدمه له المشايخ كل يوم من أحمال تضاف إلى الإسلام ولم تكن فيه، ويزورونه عليه بالباطل؛ فالقرآن هدى للناس وليس فيه أينشتين ولا جاليليو؛ لأنه ببساطة لم يكن في زمانه لا أينشتين ولا جاليليو، وخاصة مع ظهوره في مكانه بالجزيرة التي كانت خالية من كل معرفة سوى علم الأنساب وشعر الفخر والهجاء. أصبحوا يقدمون الشورى للمسلمين كبديل تام الموافقة للديمقراطية، فيبتدعون في الإسلام ما لم يكن فيه، وهو البدعة المكروهة المنهي عنها شرعا ونصا. لقد أضافوا للإسلام ما يجعل أبا بكر الصديق يرسب في أي امتحان للتربية الإسلامية اليوم.
المسلم يعتبر كل ما يأتي من الغرب هو شر تم تدبيره بليل للمسلمين بالذات دون الهندوس والبوذيين والسيخ وكل الملل والنحل بأعدادهم الهائلة في العالم؛ لذلك يرفض حتى تقاليد المائدة الغربية كالشوكة والسكين؛ لأن له آدابا خاصة للمائدة؛ فالأكل جلوسا على الأرض مع وضع اليد اليسرى تحت الفخذ اليسرى واستعمال اليمنى فقط! هو رجوع كامل إلى القبلية رغبة في المغايرة والتمايز، ومع تصور المسلمين أن عادات الغرب بدورها مستمدة من دينهم فإنهم يكرهون تفوق ديمقراطيتهم. وسبق وتصدى مشايخنا للمطبعة والهاتف وللمذياع وللتلفاز ولقوانين الأمم المتحدة بإلغاء الرق، ولا زلنا ضد حقوق الإنسان، عن تصور أن الاعتراف بها هو اعتراف بقوة دينهم على ديننا؛ لذلك نرفض كل جديد يأتي من هناك، إلى أن يفرض نفسه علينا ويجد فتوى تائهة تبيحه ذات يوم ما دام نافعا وبلا ضرر ولا ضرار.
منطق المسلم يقوم على ربط التفوق العلمي للديمقراطيات الغربية بدينهم الذي لا بد أن يكون متفوقا ما دام هذا إنتاجه؛ لذلك يتصدى المسلم لكل جديد يأتي من عندهم دون أن يكون مشاركا فيه ولا حتى دون أن يفهم ما هو، كوقوفهم صفا مرصوصا ضد استنساخ الخلايا الجذعية في كوريا الجنوبية، دون أن يعرفوا لا ما هو الاستنساخ، وما هي الخلايا الجذعية، ولا حتى أين هي كوريا الجنوبية! فيصلوا هم إلى استبدال الأعضاء التالفة بأعضاء سليمة جديدة، ونصل نحن إلى بول الناقة.
إن علمنا الذي يصف البول كدواء هو علم هابط متخلف يقف عند فجر البشرية، وربطه بدين المسلمين هو إهانة لهذا الدين، ولأن كل الحضارات قامت على علوم لا علاقة لها بأي دين، فالوحي لم يأت مندليف، ولا نزل جبريل على أحمد زويل؛ كذلك الديمقراطية عندما نريدها، علينا أن نأخذها دون أن نمررها على ذائقتنا الدينية أولا، مثلها بالضبط مثل جدول العناصر.
وإن من يقف من مشايخ التطرف أو مشايخ الصحوة ضد الديمقراطية ليستبدلوها بالشورى، هو من أنصار الاستبداد؛ فبما أن الشيخ ليس ملكا ولا حاكما حتى يقف ضد الديمقراطية التي قد تهدد مركزه، فهو مأجور إذن للاستبداد ضد شعبه. إن الشيوخ يقومون بدور القوادين لحكام المسلمين المستبدين؛ ليأتوهم بالشورى التي لا بتهش ولا بتنش ... بحسبانها الديمقراطية، في خدعة لئيمة وغير نظيفة لرعاياهم من مسلمين بسطاء. ولولا هؤلاء المشايخ لعرف الشعب المسلم الديمقراطية منذ زمان، ولكان الآن يركب قطار الحداثة مثله مثل بقية الشعوب المحترمة. ولولا المسكنات الإسلامية في وسائل إعلام المستبدين وتعليمهم الموجه للناس لكان حالنا غير الحال؛ لأن أصل الديمقراطية وتعريف الناس بها في بلادنا يتم سرا، لكن تعريفهم بالإرهاب والدكتاتورية الدينية والسياسية فهو العلني. الشورى هي العلني، أما الديمقراطية بأسسها الحقوقية والتي تسمى العلمانية فهي في بلادنا كفر يجازى صاحبه بجز الرقبة مع تهليل المؤمنين المصلين المكبرين.
لقد استدعوا الشورى رغم علمهم أنها غير ملزمة للأمير، وهو ما يجيز للأمير عدم استخدامها من الأصل ما دام سيمكنه رفضها، وهو ما حدث تاريخيا. وانتهى شأن الشورى؛ لأنه قد ثبت بالوقائع أنه لو تقدم عشرة للخليفة بآرائهم واختار هو رأي المشير العاشر فقط، كما فعل عمر عندما أخذ برأي عبد الرحمن بن عوف؛ فالمعنى أن التسعة لم يستطيعوا أن يلزموا الخليفة بمشورتهم، وهذا عكس الديمقراطية تماما، هذا هو عين الاستبداد وجوهره المتين.
هذا ناهيك عن كون الأمير نفسه أحد أعضاء جماعة الشورى، وله أن يأخذ في هذه الحال برأي نفسه وحده ويرفض رأي العشرة جميعا؛ فالشورى منطقا وتاريخا غير ملزمة، ومن يقول بإلزامها مثل قرضاوي الجزيرة، فإنه يقولها وهو خفيض الصوت متردد وعلى استحياء؛ لأنه يعلم أنه مزور يلبس الاستبداد ثوب الديمقراطية بتقية من طرف اللسان. ثم إن سن قوانين جديدة أو تعديل تشريعات وقوانين قديمة، كان في زمن صاحب الدعوة الإسلامية يتم عن طريق الناسخ والمنسوخ بفعل رباني دون شورى من أحد. أما الديمقراطية اليوم فتقوم عبر مجلسها التشريعي بوظيفة الناسخ والمنسوخ؛ فهي التي تعدل التشريع وتصدر الجديد وتلغي القديم؛ لذلك فإن الشورى المقصودة عند مشايخنا لم يكن لها أي علاقة بسن قوانين إسلامية؛ فالشريعة الإسلامية هي من عند الله، وليس في إمكاننا إعادة النظر في أي تشريع إسلامي؛ لأن ذلك سيكون اعتداء على حدود الله حسب نظريتهم القانونية. إذن فإن الشورى لا هي في العير ولا هي في النفير، ولم يرد عن القرآن أو السلف الصالح ما يفيد بإمكان تدخل الشورى في التشريع بإلغاء قوانين إسلامية قديمة أو تعديلها. مضافا فوق كل هذا أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم مطردة التطور مع تعديل دائب لما يرتبط بها من مفاهيم حقوقية وتغير للأرقى دوما فيما يتعلق بمفاهيم العدل والحرية والمساواة ... إلخ، بينما الدين ثابت، وليست الديمقراطية الغربية هي نهاية التاريخ كما يقول فوكوياما؛ فالعلم لا يأخذ ما طرحه فوكوياما إلا على سبيل الفانتازيا؛ لأن التطور العلمي يفرض قيمه الجديدة باستمرار؛ ومن ثم قوانينه الجديدة التي تصون القيم الجديدة، فإذا قلنا إن ديمقراطية اليوم هي الشورى القرآنية، فماذا ستكون شورانا غدا؟ وماذا عن قرآننا هنا؟ ثم علينا مقارنة تفسير الطبري لشورى النبي صحابته بأنه كان يشاورهم تطييبا لقلوبهم مع عدم إلزامية هذه الشورى والمضي فيما أمر به وإن خالف مشورة الصحابة؛ علينا مقارنة هذا بما يفعله قادة المسلمين من مشايخ مجددين، فهم يفعلون ذات الفعل تأكيدا لاتباعهم السنة النبوية، يسمعون لنا ويسمعون لغيرنا، لكن ما نقوله أو يقوله غيرنا هو عندهم تطييبا لنفوسنا وامتصاصا لغضبنا؛ لسلبنا حرياتنا وكرامتنا، وبعد السماع تطلق الوعود غير الملزمة. ذات السياسة سياسة الحكومة المباركة؛ تسمح للشعب بقول ما يريد ويفعل السادة ما يريدون. إنها بالضبط نظام الشورى ... هذه هي السنة النبوية، لكنها وإن كانت صوابا إيمانيا في زمنها بالتسليم لنبوة النبي، فإنها اليوم تصبح استبدادا يقوم على مجلس الشورى ... هكذا يقول الشرع. أما الديمقراطية فهي تتطلب الحرية والمساواة، وفي بلادنا يعرف الحكام والفقهاء الحكماء أن من يعلم طيور حظيرته الطيران ... بات بلا عشاء. •••
منذ انكفاءة مساحة الانفتاح العربي الإسلامي مع الإمام أبي حامد الغزالي، تجاوز الله عن سيئاته، وتحريمه علم الكلام على العوام عن طريق اللجام (إلجام العوام عن علم الكلام؛ كتابه الأشهر) تحرم المعاهد الدينية والحكومات الإسلامية تدريس الفلسفة الغربية في بلادها، بقدر ما تدرس وتعلم فلسفة العرب الغزاة حية في مدارسنا إلى أن يظهر لها وريث مناسب يوظفها لنفسه، ومنها حكاية الشورى.
إنهم يستبدلون الديمقراطية بالشورى، وهي ليست فقط غير ملزمة بالمرة، ولكن باختلاف تام في المعنى المؤدي في النهاية للغرض والهدف؛ لأن الشورى في الحالات الثلاث المشهورة كانت إزاء حالات طارئة وعسكرية وتحتاج إلى أهل الحرب والخبرة؛ لذلك كانت الإشارة للشورى كما سلف دوما محددة بأمر «حزبهم»؛ أي بالمسلمين؛ أي نازلة شديدة نزلت بهم. والحكايات الثلاث لا تعني أن تلك هي الديمقراطية؛ لأن ما في الحكايات المذكورة هو طلب النصيحة من الخبراء في الشأن. هنا نستمع مرة أخرى للدكتور معروف يشرح: «إن مفهوم المستشار هو الإنسان المتخصص الذي يستعان برأيه في مسألة من المسائل في الشئون العسكرية أو الفنية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو نحوها، في كل منحى من مناحي الحياة. ففي جميع الدول اليوم مستشارون، سواء على شكل هيئات أو أفراد أو مؤسسات يستعين بهم صاحب القرار عند اتخاذ قراره. ولا شك في أن آراءهم غير ملزمة له؛ لأن صاحب القرار يطلع على مجمل الآراء ويتخذ قراره؛ فهذه هي الشورى ... وأرى أن أهل الشورى هم أهل الذكر:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (الأنبياء: 7).» ا.ه.
وبغض النظر عن رأيه فيمن هم أهل الذكر فإن المعنى في الاستشارة هو أخذ النصيحة من متخصص؛ كما أخذها النبي في موقعة بدر من «الحباب بن المنذر» كمحارب محنك. وهو أمر دائم الحدوث في حياتنا منذ وجود الإنسان على الأرض؛ فالتشاور يتم داخل الأسرة في شكل تناصح، وفي مجموعات العمل في الحقول والورش والمصانع والحروب والتجارة والبيع والشراء ... حتى في مجموعات الصيد في بدائية البشرية؛ فالناس تبحث عن النصيحة وتحصل عليها من الخبراء. حتى وقت المرض عندما يبحث الناس عن علاج يخفف الآمهم، فتأتيهم النصيحة في صورة وصفات أو أدعية! ويؤكد المعنى البسيط الفطري للشورى بكونها النصيحة حديث منسوب للنبي
صلى الله عليه وسلم : «لا خاب من استخار ولا ندم من استشار.» فالاستخارة والشورى اختيار بين بدائل تحتاج نصحا وإرشادا. ويقول الشيخ يوسف قرضاوي: «إن المسلم يستعين بأمرين يساعدانه على اتخاذ القرار: أحد هذين الأمرين رباني وهو استخارة الله تعالى، وهي صلاة ركعتين يعقبهما دعاء مضمونه أن يختار الله له خير الأمرين في دينه ودنياه، والثاني إنساني وهو استشارة من يثق برأيه وخبرته ونصحه وإخلاصه ... وقد حفظ المسلمون من تراثهم: «لا خاب من استخار ولا ندم من استشار.» وقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) يستشيرون النبي، فيشير عليهم بما يراه صوابا. واستشارته فاطمة بنت قيس في أمر زواجها، وقد أبدى الرغبة فيها رجلان: معاوية وأبو جهم، فقال لها: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه»؛ أي يضرب النساء، واقترح عليها أن تتزوج أسامة بن زيد. وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يستشير بعض أصحابه ... وفي أزمة حديث الإفك يستشير علي بن أبي طالب ويسأل أسامة بن زيد» (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، مكتبة وهبة، القاهرة، 2001م، ص123).
ثم يضيف في كتاب آخر محاولا تبرير نظام الشورى، بدون آليات توضح كيفية التطبيق ومؤسسات تحميه وتحافظ عليه من سوء التفسير أو الاستخدام، قوله: «أما عدم وضع الصيغ التفصيلية فذلك لحكمة ذكرها حكماء الإسلام ... يقول العلامة رشيد رضا ... في تفسير المنار، آية (آل عمران: 159) جملة أسباب منها؛ أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان، وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها
صلى الله عليه وسلم
بعد فتح مكة، فبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وكان
صلى الله عليه وسلم
يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد، وأن الله سيفتح لأمته الممالك ويخضع لهم الأمم، وقد بشرها بذلك. فكل هذا كان مانعا من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعده في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفي العصر الذي يتلو عصره، إذ تفتح الممالك الواسعة، وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية، في الإسلام أو في سلطان الإسلام؛ «إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن»، والمنطبقة على العرب في سذاجتهم، منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم. فكان الأحكم أن يترك
صلى الله عليه وسلم
وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بالشورى. ومنها أن النبي لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينا، وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين» (الإسلام والعلمانية وجها لوجه، مكتبة وهبة، القاهرة، ص123).
إن قرضاوي بذلك يقول إن مسألة الحكم والشورى هي ليست من الدين في شيء - وهو المرجع الأعظم لكل الفرق الإسلامية اليوم - ويعتبرها مسألة خاضعة للمكان والزمان.
ويقتبس قرضاوي من محمد الغزالي داعما لرأيه؛ إذ يقول الغزالي: «أما الفكر الإسلامي فهو عمل الفكر البشري في فهمه، والحكم الإسلامي هو عمل السلطة البشرية في تنفيذه، وكلاهما لا عصمة له» (نفس المصدر السابق، ص159).
أما الديمقراطية فشأن آخر ناضج معقد متشابك، يهتم بسن القوانين والتشريعات ومتابعتها، وتتبعها مؤسسات تصون قيمها وتملك قدرة المحاسبة، بما يتنافى ليس مع ما يطرحه الإسلاميون فقط، بل مع كل الأديان؛ لأنه شأن إنساني بحت، ولأن الأديان تتعامل مع قوانين وتشريعات تأتي من السماء مفروضة على الناس فرضا، والمؤمن هو الملتزم بهذه القوانين، وهي أصلا ألوان من التعبد والقوانين الأخلاقية. وفي بلادنا يقوم رجال الدين - عبر شيء اسمه الفتوى وإعادة التفسير - بصك قوانين جديدة طوال الوقت لم تكن في صلب الإسلام الأول، ليتم لهم تسخير المسلمين والسيطرة على أرواحهم ، كأن رب الإسلام قد سها أو نسي أن يصدر مثل تلك التشريعات فقاموا يسدون النقص نيابة عنه؛ كتحريم شرب السجائر التي لم يعرفها زمن الدعوة ليقول تشريعه بشأنها، وكفرض الحجاب للمرأة ركنا من أركان الإسلام؛ هذا ناهيك عن كم هائل من الأحاديث يستخرجون منه بالقياس أضعافه من أحكام وشروط على عاتق المسلم، ولا يكتشفون أن تلك الأحاديث ضعيفة أو أنها إسرائيليات إلا عندما نستشهد بها نحن.
وكان عربي الجزيرة يعرف أن الشورى هي النصيحة وليست هي الديمقراطية؛ حيث إن الديمقراطية كانت معروفة قبل الإسلام بقرون، فقال شاعرهم:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي قوة للقوادم
وهي ذات الأبيات التي استشهد بها الشيخ قرضاوي في كتابه «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» (ص122)، للتعبير عن ذات المعنى هنا.
ويقول آخر:
الرأي كالليل مسود جوانبه
والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى
مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
العربي كان يعرف الشورى كرأي نصيح قبل الإقدام على المهمات الممكن اختيارها بين بدائل متاحة، وهو معنى لا علاقة له بالديمقراطية؛ خاصة إذا ما تذكرنا الحديث الذي ينهي مسألة الشورى حتى كرأي في الإسلام، وهو: «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.»
ولأن طاعة الإمام كانت طوال التاريخ الإسلامي هي المرجوحة على ما سواها، يحاول قرضاوي أن يكشف لنا سلبية الشورى حتى مع اقتصارها على مفهوم النصيحة، إذ يقول: «بعد غزوة أحد التي شاور النبي فيها أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأي أكثريتهم، فكانت النتيجة ما أصاب المسلمين من قرح» (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، مكتبة وهبة، القاهرة، 2001م، ص126).
في سياق بحثه حول الشورى الإسلامية يعرض الكاتب الإسلامي الدكتور بشار عواد معروف قولا للكاتب الإسلامي فهمي هويدي، وهو الملقب بالمستنير، يقول فيه هويدي: «لا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام، أو أن يستقيم لنا حال بغير الديمقراطية؛ إذ بغير الإسلام تزهق روح الأمة، وبغير الديمقراطية - التي نرى فيها مقابلا للشورى السياسية - يحبط عملها؛ بسبب ذلك نعتبر أن الجمع بين الاثنين هو من قبيل: المعلوم بالضرورة من أمور الدنيا.»
فأي خلط هذا؟! وأي خبط؟!
هويدي إن لم يحرض بلغة مكشوفة ويجيش بوضوح، فلا يجد فرصة للتحريض إلا واستثمرها ولو ضمنا؛ فهو يشعر المسلمين دوما أن هناك خطرا على الإسلام، وأن هناك من يريد به شرا؛ فهو يقول محذرا «ولا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام»، كما لو أن أحدا يطرح بديلا للإسلام. والواقع يقول إن أحدا لم يطلب من مسلم التخلي عن إسلامه؛ لأن الجمع بين العلمانية وأي دين لا يضر بأحدهما بل يفيد الدين منها فائدة عظيمة. هويدي يصوغ تعبيرات تشير إلى وهم غير حقيقي وغير مطروح، ثم يضع محظورا ثانيا للشرط التحذيري بقوله: «أو أن يستقيم لنا حال بغير الديمقراطية»، وهي إجابة متسرعة؛ لأن شرطه القطعي يعني أن عصور الإسلام السابقة، حتى عصر الخلافة - راشدة وغير راشدة - نفسه، كانت كلها غير مستقيمة؛ لأنها لم تعرف الديمقراطية. وهذا عيب استخدام الدين في السياسة؛ السقوط في الشراك اللفظية طوال الوقت. إن كلام هويدي يعني أن أمة لا إله إلا الله ظلت غير مستقيمة طوال 1426 سنة مضت من تاريخنا، ولن يصلح حالها إلا الديمقراطية التي اكتشفها الكفار. وهذا كلام ديمقراطي إذا كان يقصده حقا وصدقا. لكنه سرعان ما يتراجع إلى القبيلة ونظامها وإلى بدايات فجر البشرية ليجلس مع رفاقه على الشجر، إلى زمن النصيحة؛ لأنه يستكمل الشرح «الديمقراطية التي نرى فيها مقابلا «للشورى السياسية».»
إن الديمقراطية ليست دينا نخشى منافسته للإسلام. وإذا كانت الديمقراطية هي الشورى كما يقول فهذا يعني أن الكاتب الإسلامي المستنير لا يعرف ما هي الديمقراطية، لكنه يعلم ما هي الشورى. ولأنه أيضا يعلم أنها ليست الديمقراطية، إذا به ينحت لنا اصطلاحا جديدا لم نسمع به من قبل هو «الشورى السياسية».
فلم يرد من قبل لا في حديث ولا في قرآن ولا روايات إخبارية ولا سيرة؛ شيء اسمه الشورى السياسية؛ لم يرد عنها شيء في المكتبة الإسلامية بطولها وعرضها الذي يصل عددها إلى ما يزيد عن 10000 كتاب ومصنف، ويحكي لنا عن «الشورى السياسية» كما لو كانت شيئا معلوما يزوره علينا وعلى المسلمين باعتباره من الإسلام وأنه هو الديمقراطية، وهى ليست هذا ولا ذاك. إن المعاني والألفاظ ليست منضبطة بين يدي المستنير، فيمكن لأي لفظ أن يكون آخر، الكل سواء، كالمصاب بعمى الألوان. أصاب التعصب الديني مركز التمييز لديه، فصار دون قصد منه عاجزا عن التمييز. انظر كيف أمكنه أن يجمع بين الإسلام والديمقراطية شرط أن تكون الديمقراطية الخاصة بنا، هي الشورى السياسية التي نسمع بها لأول مرة من سيادته، قاصدا «تديين السياسة وأسلمة الديمقراطية بالشورى»، ثم إذا كانت الشورى السياسية جزءا من الإسلام كما قال فكيف يطلب الجمع بينهما، إنه يطلب الجمع بين الإسلام وأحد مكوناته، ويرى أن هذا الجمع «من قبيل المعلوم بالضرورة من أمور الدنيا». لقد تحول الفيلسوف المستنير وهو يحاول الجمع بين ما لا يجتمع إلى لغو الكلام غير المتسق، ولا المتفق مع الإسلام ولا مع الديمقراطية ولا مع المنطق ... فانتهى إلى كلام بلا معنى. وما دمنا في مسألة المعنى فلا بد أن نسأله عن معنى «تزهق روح الأمة» فهم يلقون كلاما كبيرا إلقاء؛ فأين هي هذه الأمة؟ وما إذا كان لهذه الأمة شعوب؟ أو بالأحرى ما هي؟ هل هي بدون شعوب؟ فأين هم جغرافيا؟ ومن هم سياسيا؟ وما هي حجته في الحديث بلسان هذه الأمة ليختار لها ويبكي على مستقبلها؟ هل الأستاذ هويدي يرى نفسه وفكره المفكك المتضارب ضميرا للأمة؟ أم هو سيد لم يأخذ مكان السيادة والسلطة بعد ويخطط لأمته؟ أم ورث سيادته عن سيادة سادتنا العرب الفاتحين؟
ولا تعلم سبب كل هذه المحاولات البائسة للهرب من الديمقراطية العلمانية بمفاهيمها الغربية، رغم أنها نجحت في الحفاظ على ديانات الشعوب التي دخلت عليها بلادها ولم تزلها من الوجود كما فعل الإسلام في البلاد المفتوحة أو كاد. الديمقراطية بمعناها العلماني المطبق في الغرب منتج غير إسلامي لكنه حقق للشعوب الشفاء من الأمراض الطائفية ومن العنصرية ... أم أن الإسلام هو الوحيد من بين ألف دين في العالم هو من اختارته العلمانية لتقتله من بين كل الملل والنحل؟ ونحن نعتقد أن الإسلام لا يقل قوة عن بقية الأديان التي تعايشت معا في ظل الديمقراطية، وأنه سيصمد كما صمدت بقية الأديان، ونعتبر كل من يحاول إخافتنا من الديمقراطية العلمانية هو نصاب دجال يريدها شورى لنفسه ولفريقه ليستبدوا بنا، هنا فقط تتصادم العلمانية الديمقراطية معهم؛ لأنها نعم قاتلة، قاتلة الاستبداد والعبودية وليست قاتلة الأديان.
الغريب أن هويدي وقرضاوي وأمثالهما يكتبون اليوم محاولين الاقتراب والتقرب من المتفوق الديمقراطي تشبها به، غير واعين أن مجرد فتح الموضوع واستجلاب الشورى من بين جثث التاريخ الرميمة والقول إنها هي الديمقراطية، هو اعتراف بالتدني وبالقصور وتمني أن نكون مثلهم، ولولا نجاحات الديمقراطية ما جلس هؤلاء يتفلسفون حول الشورى الملزمة وغير الملزمة ومن هم أهل الشورى وما هو عددهم؟ ولا حدثنا هويدي عن الشورى السياسية ولا قال لنا قرضاوي إن الديمقراطية هي جوهر الإسلام المتين.
هناك خوف عميق عند المسلمين من الحداثة والعلمانية، رغم أنهم بصدق الحال في أسفل تراتب الأمم وليس هناك بعدهم أسفل، وإن أخذوا بالديمقراطية العلمانية فلن تنزل بهم دركا دون ما هم فيه الآن، ولو كانت سما فلا بد أن نجربه كما هو في بلاده بشروط بلاده؛ لأن جسدنا مسمم أصلا حتى الموت ولن يضره سم جديد. اليابان والهند وإسرائيل لم تخش من الديمقراطية العلمانية على أديانها ومعبوداتها، وصمدت الديانات وتعايشت لأن الديمقراطية لا تطرح نفسها بديلا لأي دين، ولا تشكل خطورة على أي دين. انظر: هويدي خائف مرعوب على الإسلام وليس على ما يسميه الأمة، يقول: «لن تقوم لنا قائمة بغير الإسلام ...» خايف الإسلام ينتهي، بينما يجب أن يكون شديد الاطمئنان لرسوخ دينه؛ لأنه لا توجد أمم ملحدة إنما يوجد أفراد ملحدون كالمتنبي والرازي والمعري وابن الراوندي، مجرد أفراد لا يؤذون الدين بقدر ما أثروا حياتنا الثقافية والعلمية وكان نفعهم لنا عظيما. نحن لا نخاف على إسلامنا من العلمانية الكاملة بل نخشى ونخاف عليها من أمثال ابن هويدي وابن الجوزية وابن المودودي وابن قطب وابن عبد الوهاب وابن باز وابن عاكف، الذين هم وأمثالهم قد ألصقوا بالإسلام كثيرا مما لا يعرفه، حتى أصبح حملا ثقيلا على كاهل كل مسلم. الديمقراطية في الغرب لم تؤذ الإسلام الذي فر أصحابه به إليها لاجئين؛ ليقيموا هناك مدارسهم ومساجدهم وجامعاتهم في أرض العلمانية آمنين من كل سوء.
ثم يضع الأستاذ هويدي شرطا لقبول الديمقراطية التي لن يستقيم لنا حال بغيرها، وهو ما نقله عنه الدكتور معروف في قوله: «إن الديمقراطية التي نقبلها ونعتبرها مقابلا للشورى، أو ترجمة معاصرة لها، هي تلك التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا.» ثم قام معروف يعرض نقد الدكتور حيدر إبراهيم لهذا الرأي إذ يقول: «يمثل هويدي هنا قمة التوفيقية أو الانتقائية الجائرة، فقد كان بإمكانه التوقف عند الشورى فقط لطالما هي مقابل الديمقراطية ومن صميم الدين، لكنه يفصل الديمقراطية على مقاس الشورى، على الرغم من اختلاف السياقين التاريخيين للمفهومين، ويحاول أن يختزل الديمقراطية إلى مفهوم ديني بحت بلغة دينية لطمس السياسي في مفهوم الديمقراطية. فالديمقراطية لم تأت لتحديد أحكام شرعية أو فقهية، بل لتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين وتأكيد الحريات وحقوق الإنسان بحسب رؤيتها وتاريخيتها.» ا.ه.
المسألة التي نصر عليها هنا حتى مع د. حيدر، أن الديمقراطية ليست مفهوما عربيا ولا إسلاميا، حتى يكون لهويدي حق التعبير عن مقاصدها وفلسفتها، بل عليه أن يسأل عنها أهلها إذا أراد أن يفهمها، وأن يقدمها للناس كما هي منذ أبدعها الأقدمون من يونان وروم، حتى المحدثين فالمعاصرين حتى آخر مستحدثاتها الحقوقية، عليه أن يسأل أهل الغرب الحر لأنهم الأدرى، وهم المرجعية والمصدر، أو ببساطة أن يطل في المنور المجاور، على دولة إسرائيل وهي تتحدى هذا الكم العظيم الغليظ من أبناء الشورى؛ ليرى النموذج التطبيقي للديمقراطية العلمانية في دولة دينية أساسا، فنموذج التطبيق الذي لم نره عبر تاريخ الشورى إلا شرا مستطيرا ، هو في الديمقراطية معناها ومقصدها وهدفها ونتيجتها في العالم أجمع، عدا منطقة الشر أوسط الكبير، منطقة الشورى!
إن ما أحرزته الديمقراطية تطبيقا وعملا في الواقع على المستوى العالمي هو سبب ما يكتبه الآن فلاسفة التلفيق والقص واللصق المسلمون، كعمالة تقوم بالترميم لبناء تهاوى وصار ركاما منذ أزمان، أهلكته الشيخوخة وقتلته تخمة ما امتص من دماء شعوب المنطقة.
ثم بعد تمام بحث وفهم المفهومين النظري والتاريخي الفلسفي الحقوقي والمفهوم التطبيقي للديمقراطية، عليه أن يذهب ليبحث فيما بين يديه ويعلنه للناس دون أن يشعر بعار يدفعه للترميم واللصق والتجميل، إنه يشعر بالعار عندما يقارن فيكذب ويواري ويلتوي؛ لأن المسلم من بين أصحاب الأديان في العالم هو من يريد دوما أن يقارن دينه بزمانه ومكانه القديم بكل مستحدث، ولو فعل أصحاب الأديان في العالم فعلنا لشعروا جميعا بذات العار، وربما بما هو أسوأ قياسا على بعد كل دين في التاريخ إلى الوراء.
إن ما يجب أن يشغلنا ليس هو ماذا سنطلق على الفعل الديمقراطي إذا كان هذا الفعل هو ما نريده، ما دام الفعل في صالح الناس والوطن. ما يشغلنا ويجب أن يشغلهم هو المضمون والروح والمعنى والأهداف. وإن مقارنة سريعة بين هذا المضمون في الشورى وفي الديمقراطية، سيجعل الشورى القرين الأول للاستبداد عبر أربعة عشر قرنا من الزمان ظلما وانعدام مساواة أو حقوق. إن المقارنة بين مفهومنا المسلم ومفهومهم الكافر عند التطبيق والإنجاز، هي مقارنة ظالمة للإسلام بكل المقاييس، فقد كان له زمنه وظرفه وناسه ونظامه القبلي المختلف بالكلية عن زماننا.
إن المقارنة غير المتحيزة الباحثة عن مصالح الناس وحقوقهم قامت بها أوروبا في عصر النهضة والتنوير، وانتهت إلى أن إبعاد الكنيسة فيه الخير للجميع، وللدين، وللبشر، حاكمين أو محكومين.
تطبيق الشورى وتطبيق الديمقراطية هما محل المفاضلة وليس الألفاظ، ولكنا وقفنا عند الألفاظ وحدها بديلا تعويضيا عما كان يجب أن يحدث في الواقع لنلحق بقطار الحداثة، بدلا عن هذا التخلف المقيت في قاع تراتب البشرية، فقط ليضمن مشايخنا مكانهم الدائم بجوار السلطان المستبد الكريه، لقد التهم مشايخنا وسلاطيننا مستقبلنا. ولا زال السيد هويدي ولقبه الكاتب الإسلامي المستنير يفعل ذات الألاعيب على أهل ملته وناسه. رغم أننا لو أخذنا بالديمقراطية العلمانية لن نذهب إلى مكان أبعد إلى الوراء مما نحن فيه، فنحن الوراء نفسه، نحن في الآخر وليس بعدنا آخر. لن نعود إلى عصر الجاهلية نكتب مقدستنا على جلد الماعز والأحجار والعسيب والأكتاف، بينما قبله بآلاف السنين دونها الفرعون الكافر على أوراق البردي، وبقيت حتى الآن في ورق - لا لوح - محفوظ، وبلا دعم سماوي وبلا رجال دين يدعون لها. فلماذا كل هذا الرعب المسلم من الديمقراطية العلمانية على الإسلام؟
أما «الديمقراطية التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا» فتلك والله لقاصمة الظهر! إذا كان قصد الله من الحلال والحرام هو إذلال الناس، إذن فلا معنى للديمقراطية بالمطلق، وإذا كان يقصد بها مصلحة الناس فإن الديمقراطية هي من أثبت هذه الصلاحية، ولا يكون هنا معنى للحلال والحرام الديني، ما دام المهم المصلحة بالدين أو بالديمقراطية، وما دامت الشورى قد أثبتت أنها قرينة الاستبداد، فلماذا نضع الديمقراطية تحت شرط رجال الدين (لأنهم هم من يعرفون الحلال والحرام). أي ديمقراطية هذه التي يطلبها هويدي؟ إنها حتى لم يسبق أن عرفنا لها أي أساس من سنة ولا قرآن ولا حتى من تجارب إسلامية عبر التاريخ.
ولماذا لا يكون مقصد الله من الحلال والحرام ليس إذلال العبيد فقط، بل المقصود هو حسن الطاعة والعبادة والشكر على النعمة. وإذا كان المقصد هو الإذلال والتسلط فإن هذا التسلط لا يمارسه الله بنفسه إنما يمارسه بشر لم يأذن لهم الله بأن ينوبوا عنه. وإذا كان المقصود عبادة وطاعة فإن الإسلام لم يشرع عباداته منقوصة حتى يأتي هويدي ليرقعها بالديمقراطية، ويدلنا على طاعات لا يعرفها مقدسنا ولم يطلبها منا ربنا. أم أن الأكرم للدين ولنا أن تكون العبادة لله، أما الدولة فهي لنا نتصرف فيها بما نراه مناسبا لزمننا حسب مصالحنا.
هنا بيت القصيد، البحث عن الشورى بديلا للديمقراطية يقوم على اعتقاد أن الإسلام دين ودولة. وبما أن الدولة المتقدمة اليوم تقوم على النظام الديمقراطي، فلتكن الشورى هي النظام الذي تقوم عليه الدولة المسلمة. الدين الوحيد الذي يقول أصحابه إنه دولة في نفس الوقت هو دين المسلمين، بينما لو أراد الله دولة مقدسة لنفسه لأقامها قبل كل الدول التي أقامها البشر مثل الفراعنة والآشوريين والفينيقين، ولأقامها نموذجا يحتذى به في العظمة والقوة يبقى حتى نهاية الدهور، لا مجموعة دول فقيرة متخلفة متصارعة، دولة تفككت ونبيها على سرير المرض بحركات انفصالية سميت ردة، ثم تفككت على يد أصحابها في الفتنة الكبرى، إن دولة الله لا تكون دولة صراع على السلطان وفتن وراء متاع الدنيا، لا تكون دولة تخلف واستعباد وذل للعباد وفتوحات وسرقة نساء وأطفال وهتك أعراض غيرها من الدول. إن دولة الله أكرم من هذا، إن الله لم يرد للإسلام أن يكون دينا ودولة.
وفي موضوعه، يضع الدكتور معروف ملحوظة تقول: «يلاحظ أن السيد فهمي هويدي استخدم الديمقراطية مقابل الشورى، وكأن الشورى نظام حكم واضح المعالم في الإسلام نظريا وتاريخيا. كما أن الدكتور حيدر عد الشورى أمرا دينيا فنعى على السيد فهمي هويدي استعماله.» ا.ه.
هويدي يستخدم الشورى بمعنى سياسي، والدكتور حيدر يرى أنها أمر ديني لا علاقة له بالسياسة، بينما الشورى فيما نرى لا هي من الدين ولا هي من السياسة، فهي ليست طرفا في صنع الدين؛ لأن الدين مفترض أنه قادم من عند الله حسبما يعتقد المؤمن. ولم تكن الشورى طرفا في وضع القوانين التشريعية الإسلامية، كذلك لم يستشر الله أحدا عندما وضع هذه التشريعات في شكل أوامر ونواه، ولم يستشر يوما أحد أنبيائه فيما يحلل أو يحرم، حسبما نفهم من الإيمان، وما على البشر إلا التعبد له بالطاعات والتنفيذ دون إبداء الرأي، كذلك لم تظهر في شرائع الديانات السابقة حالة شورى واحدة.
كذلك ليست الشورى شأنا من شئون السياسة؛ لأنها نصيحة تتم بين المتآلفين اجتماعيا، بينما السياسة هي صراع دائب لا يتوقف حتى بين الأصدقاء، وليس فيها تناصح بل فيها تفاوض يقرب وجهات النظر، ليتنازل كل طرف عن بعض مصالحه مقابل مكاسب أو سلام تنموي، أو بغرض تحاشي الحروب. أما الشورى فشأن إداري يدور بين أهل القبيلة أو الأسرة بحثا عن نصح سديد، وللباحث عن المشورة أن يأخذ بها أو يرفضها، وله أيضا ألا يستشير؛ فهو حر، والمشورة ليست واجبة على المستشار؛ فهو حر في تقديمها من عدمه. فالشورى لا تؤخذ من المعارضين، بينما المعارضة هي الأس العظيم للديمقراطية العلمانية.
وإذا كانت الشورى غير شريك في التشريع للناس، وأنها تنبثق عن الدين الإسلامي بحكم الآيتين، فإن الديمقراطية لم تنبثق عن أي دين؛ فلا وجه مقارنة أو مقاربة؛ فالديمقراطية لا تفضل دينا على دين، ولا علاقة لها بأي دين؛ لأنها ثمرة إنسانية بحتة لم تتدخل فيها السماء لا بالوحي ولا بنصوص؛ لذلك تجد جميع الأديان كبرى أو صغرى وثنية أو توحيدية، كلها سواء في نظر الديمقراطية، والديمقراطية لا تهدد أيا منها؛ لذلك قبلتها ديانات البشرية يهودية ومسيحية وشنتوية وبوذية وكنفوشيوسية؛ لذلك تجد التنافر بين الديمقراطية وبين المسلمين وحدهم نتيجة محاولة استبدالها ببديل إسلامي، لاعتقاد العقل المسلم أن كل ما يأتي من خارجه هو عدو بالضرورة وعدائي بالضرورة، وأن كل من لم يلبس عباءة الإسلام هو عدو لنا. •••
يقول الدكتور بشار عواد معروف: «إننا نعتقد إن الإسلام وضع قاعدة كلية اسمها الشورى حين أمر بالمشاورة؛ فالمشاورة بين المسلمين مأمور بها، ولكن الإسلام لم يضع التفاصيل كما هو حاله في كثير من الأمور، لتكون ملائمة لكل زمان ومكان، وليمكن تطويرها وتطوير مؤسساتها بحسب الحاجة؛ فالمجتمع الإسلامي يستطيع اليوم أن يضع القوانين والنظم والتعليمات الخاصة بالشورى بحسب ما يراه ملائما لعصره، دفعا للاستبداد بالرأي، من غير اعتبار للتطبيقات العملية التي مارسها الخلفاء والأمراء والحكام عبر العصور، لأنها كانت ملائمة لعصورهم، وليست أمورا دينية.» ا.ه.
تاني يا دكتور معروف؟
صالح لكل زمان ومكان تاني؟
نقول: ثور، تقولوا: احلبوه؟
مهما حلبنا الشورى لن تنتج مؤسسات ولا قوانين ولا نظما حسب عصرها أو حسب عصرنا. العقارب لا تحلب لبنا، مهما حلبنا فلن نحصل سوى على السم الناقع.
الدكتور يعلم أنها مجرد مشاورة لكنه يقول إنها مأمور بها، ورغم أنها بلا تفاصيل؛ أي بلا هيئات تقوم عليها وتصونها وتضمن تنفيذ شوراها ... إلخ؛ أي إنها معيبة وناقصة، بلا طعم ولا نكهة ولا رائحة، لكنه يرى ذلك هو سر الصلاحية لكل زمان ومكان.
الدكتور يعلم أن تطبيقات الشورى العملية عبر التاريخ كانت طينا وهبابا؛ لذلك يرى أن نأخذ الشورى من غير اعتبار للتطبيقات التي مارسها الخلفاء عبر العصور.
الدكتور لا يريد من الشورى غير اسمها منزوعا من كل ما تلبس به، بديلا للديمقراطية.
وعندما قرر الدكتور السير على الدرب واختيار الشورى استخدم لغة مخاتلة؛ لأن الفكرة المخادعة تحتاج ثوبا مخاتلا، يقول: «الإسلام وضع قواعد كلية اسمها الشورى حين أمر بالمشاورة.» وهو قول لطيف ليس أكثر، وهو بحاجة إلى بعض الإيضاح، هل يعني بذلك أن العامة - وأنا منهم - لهم نصيب في هذه المشاورة؟ إن التاريخ والدين يقولان بغير هذا، فقد كانت الشورى تتم بين الرسول وصحابته فقط، ولم يكن فيها للعوام من أمثالنا شيء. والإسلام لم يضع التفاصيل لأنه لم يكن يريدها نظاما للناس كما يوهموننا؛ لأنه لو أراد لفصل وشرح وزاد. ولأنها كانت مشورة محدودة في الصحابة دون باقي المسلمين، وكانت أيضا شكلية تطييبا لقلوبهم. ثم من بعدهم استمر ذات الشأن: إذا أراد أحد الحكام نصيحة، وعادة ما كانت النصيحة تطلب لتوحيد الصف القيادي، أو كيفية الغزو، أو النجاة وقت الضيق إذا «حزبهم أمر»، أو الحفاظ على سيادتهم ومكاسبهم كزمرة أو صحبة أو قبيلة أو أسرة حاكمة أو عصابة، دون أن يكون في ذلك أي حساب للناس أو الحريات أو الحقوق، ودون أن يتشاوروا في كيفية إصلاح حال الأمة المجهولة الهوية والشكل والتكوين. إن أهل السوء بدورهم يتشاورون قبل القيام بفعل السطو المسلح، ولا شأن للشورى هنا بديمقراطية ولا بقانون ولا بدين. إن الشورى المفترض حسبما يسوقون أنها هي رأي الرعية في شئونها، وهو الأمر الوحيد الذي لم يحدث ولا مرة واحدة بطول التاريخ الإسلامي وعرضه، فهذا المعنى لم يرد على خاطر حكام المسلمين ولا يعرفونه، كانوا فقط يسعون إلى ما أسموه إعلاء كلمة الله بين عباده، وبالضرورة إعلاء قبائل العرب (الذين حملوا كلمة الله) فوق جميع البشر. وكان الحظ الأوفر لشرور العرب من نصيب الدول المحيطة بجزيرة العرب التي أسعدها الله بالخضوع لعبودية العرب والمذلة لهم.
يقول الدكتور معروف: «لقد حاول الفكر الإسلامي الحديث أن يطور مفهوم الحاكمية، بأن يجعل السيادة لله أو للشريعة، وأن يجعل السلطان للشعب أو للأمة. كما هو حال حركة الإخوان وحزب التحرير وغيرهما، وهو ما عبر عنه أحد الكتاب الإسلاميين بقوله في معرض التمييز بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية بقوله: إن الفارق الأساسي بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية، هو أن الأولى تقوم على أن الله هو مصدر السلطة، بينما الثانية - الإسلامية - فإن الله هو مصدر القانون بينما الأمة هي مصدر السلطة؛ ومن ثم فلا حصانة ولا عصمة لحاكم، وإنما القانون فوق الجميع والحاكم في المقدمة منهم.» ا.ه.
تضيع منها هنا أيضا دلالات ومعاني الكلمات التي اعتادوا على ترديدها دون أن يكون لها في الواقع أي أصل تدل عليه؛ فإن كان الإسلام دينا ودولة حقا، فلا بد أنه كان كذلك منذ زمن الخلافة الراشدة. ولو كانت الدولة من صلب الدين، ومعلوما منه بالضرورة، فلا بد أن تكون ثابتة بثبوت أركان الدين ومكوناته. ولكن هذه الدولة تعرضت منذ قيامها لهزات عنيفة حتى سقطت، وتتعرض اليوم للرفض بشكل مباشر أو غير مباشر، أو بحد أدنى تتعرض للتعديل والتبديل فيها، فيأتي المحدثون ومنهم الإخوان ليقولوا ما ردده الدكتور معروف من هنيهة، فيحدثونا عن دولتين إسلاميتين؛ الأولى دولة دينية والثانية إسلامية فقط، حكمت الأولى العرب مند زمن النبي وحتى سقوط الخلافة، والثانية هي المرشحة للحكم في المستقبل الآتي، دولة الإخوان التي هي دولة إسلامية وليست دولة دينية.
فيكون ذلك طعنا في دولة الخلافة لأنها كانت هي الدولة الدينية، وها قد أصبحت الآن محل رفض من إخواننا المسلمين بطرح ذلك البديل الجديد وهو الدولة الإسلامية.
ومن عرض د. معروف نفهم أن أصحاب هذا الطرح الجديد يقصدون في النهاية تحقيق العدالة، فإذا كان هذا ما يقول به الإخوان وحزب التحرير وغيرهما، فهل نفهم من ذلك أن الدولة الدينية التي حكم بها الخلفاء الراشدون فشلت في إقامة العدالة؟ ... ما هو مبرر التخلي عن دولة الخلافة ذات الحكم الديني واستبدالها بدولة الإخوان الإسلامية فقط؟ وما دام أصحاب هذا الطرح الجديد يربطون بين الإسلام والدولة وليس بين الدين والدولة، فعليهم إبراز مبرراتهم من القرآن والسنة لتؤيد رفضهم دولة الخلافة الدينية واستحداثهم الدولة الإسلامية.
أما إذا كان دافع هؤلاء لطرح هذا الحل - أي الدولة الإسلامية بديلا للدولة الدينية - يتأسس على قناعة أن الدولة مستقلة عن الدين، حينئذ لن نطلب منهم أدلة من القرآن والسنة، طالما أن الدولة شأن والدين شأن آخر، وهنا يجوز لغيرهم ولنا أو لمجلس النواب التعديل في الدولة والتبديل والتجديد بما لم يرد في الكتاب والسنة، وبما لم يرد في فعل الخلفاء الراشدين، على أن يعلنوا ذلك على الملأ ويقروا به.
إن الهيئات والجمعيات والجماعات الإسلامية والأزهر، وكل المشتغلين علينا بالدين تقريبا، يحاولون تقديم عروض سيرك بهلوانية جديدة حول الدولة الإسلامية، وهنا لا بد أن تتوالى الأسئلة: ما هو هيكلها؟ نظامها؟ تعريفها؟ فلسفتها المنشئة لها، دستورها ... إلخ. ويرى هؤلاء أيضا أن ما يطرح من جديدهم لا يتعارض مع الدين؛ وعليه فإن هذا الحق نفسه سيكون لأصحاب العلمانية الذين يقدمون دولة تختلف عن دولة الراشدين بدورهم، كما يعطيهم الحق في رفض كل نظم الحكم التي مارسها بقية الخلفاء، وكل ما تعرض له علم الفقه بهذا الشأن قديما أو حديثا. أم تصوروا أنهم وحدهم أصحاب هذا الحق؟
نعود نرتب الأوراق: يقولون إن الدولة الدينية تقوم على فكرة أن الله هو مصدر السلطة، وهذه كانت دولة النبي
صلى الله عليه وسلم
والراشدين الدينية؛ لذلك قرروا تجاوزها لأن الزمن تجاوزها باجتهاد جديد اجتهده عاكف وعصابته؛ هو الدولة الإسلامية التي تكون فيها الأمة هي مصدر السلطة، بينما يكون الله هو مصدر القانون! وعلى القارئ أن يلاحظ هنا قولهم «السلطة» وليس «السلطات».
وغير مفهوم هنا هل يقصدون دمج السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية في سلطة واحدة؟ يبدو الأمر كذلك صدقا وحقا؛ فالقانون مصدره الله؛ أي ما بأيدينا مما جاء عن هذا الإله في كتبه المقدسة من قرآن وسنة. ومن سيتمكن من استخراج هذا القانون من وسط هذا الرتل هم رجال الدين وكهانه وسدنته؛ أي إنهم وحدهم من سيكون لهم حق اختيار قانون دون قانون أو تفسير القانون بما يريدون، وهو عمل دءوب مارسوه عبر تاريخنا حتى أضافوا للإسلام أكثر مما أضيف لدين آخر في الأرض، ولأن الله لن يحدثنا أو يشير لنا لما يقصده من قوانين، فإن هؤلاء قد أنابوا نفسهم عنه ليصبحوا بذلك هم المصدر الحقيقي للقانون، وهم المفسر للقانون، وهم أيضا الحكام الشرعيون العدول العارفون بأصول الدين، فهم من سيقوم بمحاكمة الجرم لقياسه على القانون الإلهي، وتحديد مساحة الجرم في الفعل المجرم. كذلك هم المكلفون بتطبيق حدود الله؛ أي إنهم من يحدد طبيعة الحد عند وقوعه؛ فمثلا هل سيكون قطع يد هذا السارق فقط من بعض أصابع يده، أم كفه كلها، أم من الكوع، أم بمزقها مزقا من الكتف؟ وهي اختلافات يسيرة من بين اختلافات عظيمة في فقهنا الذي اختلف حول تنفيذ حد القطع. المهم أنهم أيضا هنا سيكونون السلطة التنفيذية. إنهم باختصار سيكونون المشرع والقاضي والمنفذ ... وكل شيء قد لا يخطر على بال.
للفهم نعود إلى تفسيرهم: أن في دولتهم الإسلامية تكون الأمة هي مصدر السلطة؛ فلا حصانة لحاكم ولا عصمة له، إنما القانون فوق الجميع والحاكم في المقدمة منهم. وهكذا يتحقق العدل. أليس ذلك كلاما جميلا حقا.
إذن نعود للدولة الدينية زمن الخلافة الراشدة، حيث كان القانون الإسلامي فوق الجميع بالطبع، ومع ذلك تم قتل الخليفة عثمان ولم تمنحه الدولة الدينية الإسلامية العاملة بالشريعة، ولا تطبيقها قوانين السماء، حصانة أو عصمة على يد الصحابة، بل وكان من ائتمر به وقتله عددا من الصحابة. أين كان القانون كحصن للدولة المسلمة فيما حدث مع علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وآل البيت؟ هل تحقق العدل؟ وهم الصحابة وأبناء الصحابة وفي مقدمتهم أحفاد سيد المرسلين؟ فهل سيتحقق اليوم في الدولة الإسلامية الجديدة التي ليست دينية ولا يحكمها صحابة (لكنها المحكومة بالقانون الإسلامي على يد من هم أدنى بما لا يقارن بزمن الصحابة) ما لم يتحقق زمن الصحابة؟
القانون في الدولة الدينية، هو ذات القانون في الدولة الإسلامية الجديدة المرجوة، فلماذا تكون هذه دينية وتلك إسلامية؟ ستكون المسألة باختصار هي أن من سيقوم بجلدنا دولة إسلامية لا دولة دينية، وإن اخترنا الإخوان للحكم فإن الحرية الديمقراطية هنا لا تعني لنا عند الإدلاء بأصواتنا سوى كونها اختيار جلاد من بين عدة جلادين.
إنه قول يضع الإخوان في موضع المنكر لمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن صاحب الحق الشرعي في السلطان، قد حدده نبي الإسلام في الحديث الذي ارتكن إليه أبو بكر: «الإمامة في قريش.» لأنه ليس من بين الإخوان من قدم وثائق تفيد بهذه القرشية، والأصوب إذن هو أن تتفق الجماعات الإسلامية كلها على اختيار وتسمية رجل من قريش خليفة للمسلمين، وحتى لا تتصارع الدول العربية على إقامة الخليفة في عواصمها المختلفة، فإن تمهيد الأرض في بلاد الحجاز يكون هو الأكثر صوابا، ويكون تنصيبه في مدينة رسول الله هو الأنسب والأسلم والأكثر أصولية، مع إلغاء النظام الملكي السعودي بالطبع، وإن لم يتيسر العثور على رجل من قريش، فليكن من آل عثمان الأتراك، وهم أكثر من الهم على القلب؛ فهم آخر خلافة مسلمة، وهم من يتباكى عليهم كل المتأسلمين في العالم، حتى أسامة بن لادن نفسه في أكثر من خطاب له؛ بدلا من كل هذا الجهد في مسميات وتصورات كلها وهم وألفاظ بلا معنى للتواصل مع الحداثة، بذات القوانين التي مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرنا؛ مما يفقدها أي دلالة أو معنى اليوم.
لم يعد الزمن بكل ما دخله من تطور وتغير منذ عهد محمد النبي
صلى الله عليه وسلم
وحتى اليوم يسمح بمطلب الدولة الدينية، خاصة بشكلها البدائي الأول، ومع تواجد القوى العالمية العظمى في المنطقة، تطلب تحقيق المقرطة وحرية الإنسان، حصارا لثقافة إنتاج الإرهاب الاستبدادية. قامت الجماعات الإسلامية العلنية تعلن عن دخولها سباق الديمقراطية، بعد إعلان موافقتها بل وإيمانها بهذه الديمقراطية، وذلك كما جاء في مبادرة الإخوان التي أعلنها مرشدهم محمد مهدي عاكف، التي هي برنامج عملهم المقدم للأمة حسبما صرح به عصام العريان تعقيبا على تلك المبادرة. والدليل على رفضهم للدولة الدينية بمعناها القديم زمن الراشدين، أنهم لا يطلبون دولة دينية؛ إنهم يطلبونها إسلامية (؟!) فهناك فرق ...! وستقابلهم هنا معضلة حقيقية؛ لأن قولهم إن الشعب هو مصدر السلطة، هو قول عظيم يئول بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله ... من وجهة نظرهم هم وليس غيرهم!
الإخوان وأمثالهم يعلمون أن الدولة الدينية زمن الراشدين قد صادرت حرية الناس في البلاد التي احتلتها وأخذتهم عبيدا، ويعلمون أن الديمقراطية اليوم تقوم على حقوق الإنسان وأولها الحرية. هم يعلمون أن الدولة الدينية الأولى ألغت ثقافات البلاد التي فتحتها مع لغتها ومسحتها مع تاريخها مسحا، ويعلمون أن هذا - اليوم - جريمة من أكبر الجرائم التي حدثت في التاريخ. هم يعلمون أن الدولة الدينية الأولى قد سبت نساء البلاد المفتوحة واستباحت الأعراض في ميدان القتال واستولت على كل ما طالته يدها فيئا وغنائم، ويعلمون أن هذا - اليوم - هو جرائم حرب عظمى حسب مواثيق جنيف؛ لذلك يقومون بحرفتهم التي يجيدونها وهي لعبة الثلاث ورقات، تلعب فيها الورقتان الظاهرتان؛ واحدة دور الدولة الإسلامية المنشودة، وواحدة دور الدولة الديمقراطية الغربية، بينما السنيورة المخفية هي الدولة الدينية بكل مآسيها عبر تاريخها الأسود من قرن الخروب.
لماذا يخرج علينا الإخوان وأشباههم يطالبون بإقامة دولة إسلامية ديمقراطية اليوم؟ لماذا لا يقبلونها ديمقراطية غربية علمانية كما هي، أسهل وأصوب وأكثر نجاحا بعد تجريب طويل؟
نظرة خاطفة على التاريخ، سنرى الخلافة وقد تم تداولها بين عدة أسر عربية، تنتقل في آخر زمانها إلى الأتراك العثمانيين.
وكما هو حال كل الإمبراطوريات التي لا تتطور ولا تواكب الزمن، فإنها تشيخ ثم تذبل فتموت، هكذا حكاية التاريخ المتكررة. ورغم حكاية التاريخ وما يجب أن نستخلصه منها من عبر وعظات، فإن بعض المسلمين يطالبون اليوم بعودة تلك الخلافة الميتة، ليس بإحيائها إنما بوراثتها، إنه ميراث ضائع فلماذا لا يكونون أصحابه؟ إن مطلبهم هو ميراث الخلافة بكل نظمها التي هي الاستبداد عينه وذاته.
إن من يطلب الديمقراطية حقا يطلبها لأنها تحقق، أول ما تحقق، حريات المواطنين بكل أشكالها، وليس لخلطها بما يسمى «وضعنا الخاص» بين الأمم، ليخرج بما يسميه دولة إسلامية ديمقراطية للاستيلاء على إرث وكنز عظيم يتصورونه تصورا، ويرون أنه كنز لا صاحب له؛ لذلك قاموا يطالبون بإحياء الخلافة وإعادتها لورثتها، واستعادة الكنز بإعادة هذه الشعوب موالي وعبيدا وأهل ذمة وأنباطا وعلوجا، يدفعون الخراج والجزية وهم صاغرون إلى أصحابها الشرعيين بفكرة تناسب المتغيرات، بإعلان أن دولتهم المرتقبة ستكون دولة إسلامية لكن السلطان فيها للشعب أو للأمة.
الخدعة في أنهم يلقون الكلام هكذا كما لو كان كل شيء مرتبا لدولتهم كما هي في أدبياتهم. الخدعة أن كل هذه الأدبيات تعود إلى زمن النبوة والراشدين في كل خطوة وفي كل كلمة؛ إلى زمن الدولة الدينية التي تخلوا عنها (كده وكده)؛ لذلك لا يحددون لنا ببيان علني واضح شكل دولتهم المنشودة، ولا من سيحكمها، هل سيكون ملكا كمعاوية؟ أم خليفة كعمر؟ أم رئيس جمهورية كالبشير أو أحمدي نجاد؟ ثم لم يحددوا لنا الأرض التي ستقوم عليها هذه الدولة، هل ستقوم عاصمتها محل الدولة الأولى في المدينة المنورة؟ أم سيكون هناك عديد من الدول التي تأخذ بالنظام الإسلامي الديمقراطي المنشود وتقيم كل منها لنفسها خليفة؟ وهل سيكون على هذه الدول الإسلامية الجديدة واجب الجهاد ضد باقي الدول المسلمة التي لم تأخذ بهذا النظام الجديد؟ أم سيجاهدون ضد بعضهم البعض؟ ماذا سيكون وضع لبنان مثلا؟ أو العراق؟ أو مصر؟ وهل سيتحول مجلس التعاون الخليجي إلى مجلس تعاون الخلفاء الخليجين؟ وماذا لو رفضت بعض الدول المسلمة النموذج الإسلامي وقررت أخذ النموذج الديني الأول من الراشدين مباشرة دون لف أو دوران، فهل سيكون هناك صراع جديد على غرار صراع علي ومعاوية؟ وهل ستأخذ الفتاوى دور اختراع الحديث في مناصرة أصحاب تلك الدولة أو مناصرة تلك؟ ثم لماذا يظهر هؤلاء اليوم ليختاروا لنا نظام الدولة التي نريد؟ وهل تحولهم عن نظام الدولة الدينية الراشدة اعتراف من جانبهم بظلم تلك الدولة وتجبرها على خلق الله، وأنها سلبت الشعوب المفتوحة أقواتها وهتكت أعرضها؟ هل يعني هذا اعترافا؟ إذا كان ذلك كذلك فليكن اعترافا معلنا واضحا مصحوبا باعتذار يليق بما حدث من مجازر في ذلك التاريخ المفزع، وأن يردده المشايخ، خاصة مشايخ السعودية، آناء الليل وأطراف النهار، ولا يكفرون عما فعل أسلافهم فينا. •••
يفترض أن الدولة الدينية الإسلامية الأولى، التي ظهرت برفقة دين جديد، أن تكون هي نفسها نموذجا جديدا يرافق الدين الجديد، فيكون الدين الجديد قد أنتج دولة جديدة تختلف عما حولها من جاهلية وقبلية وهمجية؛ أي لا بد للدين الجديد الأرقى أن يكون قد أتى بالدولة الأرقى، وعند المسلم يجب أن تكون هذه الدولة هي الأرقى منذ فجر الإنسانية وحتى نهاية الأزمان وفناء الدهور.
لكن هذه الدولة النموذج ليس عندها ولا عند أصحابها إجابة شافية على أسئلة؛ هي من البديهيات مثل: كيف كان شكل هذه الدولة؟ كيف كان حال شعبها؟ وما هو المستوى الثقافي لهذا الشعب؟ وكيف كان حال الفكر الديني عند هذا الشعب؟ وماذا كانت فروعه وعلومه ومقدار هذه العلوم؟ ثم ماذا قدمت للإنسانية من جديد على مستوى الدولة ونظامها والعلاقة بين الحاكم والمحكوم؟ ماذا أضافت لديمقراطية أثينا مثلا، أو لقوانين روما مثلا آخر؟
لقد كانت الفتوحات الإسلامية من وجهة نظر العراقيين والشوام والمصريين وغيرهم، عمليات غزو عربي استيطاني وإحلالي لبلادهم، وذلك أثناء دولة الخلافة الراشدة، فكيف كانت الدولة زمن هذه الخلافة؟ وما بعد الراشدة أمويين أو عباسيين؟
إن الدول في ذلك الزمان كانت تدور وتعمل بآلياتها في البلاد المفتوحة على ذات النظم والقواعد والفلسفات والمؤسسات والهيئات التي وجدها العرب الفاتحون قائمة فيها ، فقط تغير المستعمر، ذهب الروم والفرس، وجاء العرب.
نظم الجباية ظلت كما هي، كل ما في الأمر أن الجباية تضاعفت. خرج الجابي الرومي ودخل الجابي العربي ليباشر نفس الأفعال تحت مسميات عربية. لم تتغير الدول المفتوحة سوى في اسم المستعمر، فبدلا من الروم جاءت الخلافة الأموية، وبقى كل شيء على حاله؛ العبد عبد، ولم يعتق من العبيد أحد، وظلت ضرائب الجماجم، ولم يكن فيها شيء اسمه شورى، ولم تشترك الشعوب في مراقبة حكامها، بل كان يتم جلد المواطن إن عجز عن دفع المفروض عليه، وظل الموالي موالي، والعلوج علوجا والعبيد عبيدا؛ دولة رومانية في ثوب عربي تدهورت معه أحوال الشعوب عما كانت عليه زمن الروم. إن دولة الخلفاء الراشدين الأولى والتي كانت دولة دينية إسلامية، كان معظم سكانها من غير المسلمين؛ لأن الشعوب المحتلة لم تبدل أديانها إلى الإسلام بين يوم وليلة، فقد استمرت عمليات الأسلمة الإجبارية أجيالا طوالا، وبقى من بينهم ملايين لم يتم إسلامهم حتى الآن متواجدين في مختلف الأقطار. لقد كانت دولة الخلافة الراشدة تحكم بلادا أغلبية سكانها من غير المسلمين، فهل يعطيها ذلك صفة الدولة الإسلامية أم لا؟
الدولة الراشدة لم تكن لديها علوم فقه، ولم يكن القرآن قد جمع بعد، ولم يكن منظورا أن يتم تدوين الحديث في ذلك الزمن ولم يكن معلوما أنه سيدون في الحقب التالية، ولم تكن هناك بعد أفكار الإخوان ولا ابن تيمية ولا ابن هويدي ولا ابن قرضاوي ولا ابن عاكف ولا ابن البنا ولا ابن قطب. ورغم غياب كل هذا الفكر الذى يسود حياتنا الآن، فقد كانت الدولة الراشدة دينية ومسلمة أيضا وغير منقوصة الإيمان، رغم عدم اطلاعها أو معرفتها لأي مما يقوله فلاسفتنا المتأسلمون اليوم، ولم ينقص من إيمانها أنها حكمت في الشام ومصر وشمال أفريقيا بكيان وفكر وأسلوب روماني، وحكمت في العراق وفارس بكيان وفكر وأسلوب فارسي؛ لأن الإسلام لم يقدم نموذجا لأي دولة، لأن الدولة لم تكن ضمن أهدافه، وإلا لكان قد تم تطبيقه وتفعيله بدلا من النموذجين الروماني والفارسي.
ولأننا ليس لدينا أي نموذج للدولة في الإسلام قديما أو جديدا، فإن العالم وحتى اليوم لم ينقل عنا ذلك النموذج، رغم المفترض أن يكون أنجح النماذج وأرقاها. بل إننا نحن ما زلنا حتى اليوم نحاول بناء هذا النموذج دون أن ننجح في إقامته، ولو نظريا بفلسفة واضحة محكمة، رغم مرور عشرات القرون.
بين يدي الآن كتاب صادر سنة 2001م للداعية المعروف يوسف قرضاوي، يبدو أنه سيحتاج إلى مناقشة مطولة ليس هنا مكانها، يعنيني هنا عنوان هذا الكتاب «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»، تصوروا! الجماعة حتى الآن لم يضعوا بعد أسس المجتمع المسلم، لا بل هم في مرحلة وضع الملامح الأولية له. بعد كل هذه القرون المتطاولة لم تتشكل بعد ملامح المجتمع المسلم. ماذا كان يفعل هؤلاء السادة طوال هذه القرون الأسود من الهباب؟!
وطالما أنه لا يوجد لدينا نموذج دولة خاص بنا لا نظريا ولا تطبيقيا، فإن الحكمة تستدعي أن نفعل ما فعل الراشدون عندما أخذوا بالنظام الرومي والفارسي، وهي أنظمة الدول الأرقى في زمانهم، فنأخذ نحن بالنظام الغربي العلماني والذي تمت تجربته وأثبت نجاحات مبهرة وصل بهم إلى المريخ وهندسة الوراثة والاتصالات، ونحن ما زلنا عند مرحلة الفخر والهجاء والعلاج ببول الجمل والحجامة والحبة السوداء.
هنا يضيف الدكتور بشار معروف مزيدا من التوضيح لفكرة دولة إسلامية فيقول: «فإذا أخذنا بالفكرة الأخيرة (يقصد دولة إسلامية، السلطة فيها للأمة) وجدنا الأدلة التي تقوي فكرة كون الأمة هي مصدر السلطة.
فلا شك في أن المقصود بالسلطة هنا هي السلطة التنفيذية. ولم يتمكن الباحثون الإسلاميون من دراسة مفهوم السلطة التشريعية ذات المصدر الإلهي دراسة علمية معمقة، فسلم أكثرهم بأن الله هو المشرع، سواء كان ذلك عن طريق القرآن أم السنة، وأن الفقهاء مجرد مفسرين وهو أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فنحن نعتقد أن الإسلام وضع قواعد كلية ومبادئ عامة ومقاصد لهذه الشريعة، تضمنها القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية، وهي ما يمكن أن يصطلح عليه بالبينات، وأنه قلما تم تناول القضايا التفصيلية إلا في حالات خاصة في الحدود والإرث ونحوهما، وتركت الأمور الأخرى يجتهد فيها الفقهاء، ويضعون القوانين والتعليمات المحققة لمقاصد هذه الشريعة، بما يتلاءم ومصالح الناس.» ا.ه.
هنا لا تفهم هل هم جادون حقا في بحث موضوع الدولة والإسلام، أم هم هازلون؟ أم هم يريدون هدفا محددا من كل هذا الطحن والعجن؟ إنهم يريدون دولة إسلامية ديمقراطية لكنها غير دينية، فهل تحت المسمى الجديد «دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية» ستتحقق المساواة بين المواطنين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات؟ وهل لا يعلمون أن مطلبهم هذا يخالف السنة المحمدية المؤكدة؟ ويخالف أن التشريع لله وحده وليس للبشر؟ ولا تفهم أيضا الجد من الهزل في ضوء ما يطرحون دون أي اعتبار لمن سيخضع لتجربتهم الجديدة، وبلا دعوة ممن ستجرى عليهم التجربة، وبدون أخذ رأيهم، وبدون أي اعتبار للمجتمع الدولي ورأيه في العودة إلى الوراء بالمنطقة أكثر مما هي عليه، مع ما ستحمله الدولة الإسلامية من عداء لهذا المجتمع الدولي.
إنهم يريدون دولة غامضة الطابع مجهولة الأهداف (العلنية على الأقل)، فاقدة للدعم الديني لأنه الرخصة لإثبات اهتمام الخليفة والدولة بشرع الله فيما عدا تلك الحالات التي تعد على أصابع اليدين كان ما يحكم بين الناس في أرجاء الخلافة هو العرف والتقاليد، عرف الشام للشامي وعرف الأهواز للأهوازي وعرف النوبة للنوبي، أما الشرع الإسلامي وشريعته فقد انصب اهتمامهما بالتفصيل الممل في شئون جمع الأموال والخيرات والنساء والقصور والعبيد والجواري، ووضعت بهذا الشأن تشاريع تفصيلية في كتب الأموال والأحكام والسياسة الشرعية وما لحقها، لصالح العرب أصحاب الدولة ومالكيها؛ لذلك كانوا يطلقون عليها أسماءهم لتأكيد حق الملكية، فهي أموية، أو عباسية، أو طولونية، أو إخشيدية، أو سعودية بالأرض المقدسة نفسها.
نتابع الإنصات للدكتور معروف إذ يقول: «مما يؤسف عليه أن بعض الإسلاميين ظنوا - غلطا - أن الشريعة هي ما كتبه الفقهاء في الأحكام، وما أثاره المنظرون الإسلاميون في العصور الإسلامية في أساليب الحكم والإدارة (مثل أبي يوسف الماوردي وأبي يعلى الفراء وابن تيمية وابن خلدون، وغيرهم). ومع أن الفقه بمجمله فكر وليس شريعة واجبة الاتباع؛ فالفقهاء علماء مجتهدون حاولوا فهم الشريعة وتفسيرها، استنادا إلى فهمهم واجتهادهم في زمن معين؛ لذلك فهم مختلفون فيما بينهم قليلا أو كثيرا، وهو بمجمله رحمة؛ لأنه يوسع دائرة الفهم والتفسير، ويقدم حلولا متنوعة للمسألة الواحدة؛ ومن ثم فإن تقليص الدور الذي يمارسه أهل العلم في تقنين القوانين والتعليمات المستمدة من روح الشريعة (القواعد والمقاصد) ليس في صالح النظام الإسلامي؛ لأن الذي ذكرت يقدم مرونة في فهم المقصود بالسلطة التشريعية عند المحدثين، وهو يدحض الرأي القائل بأن الفقهاء المجتهدين مجرد مفسرين.» ا.ه.
إذن الفقه كله فكر وليس شريعة! آمنا بالله ... فالصواب لا يقبل الاختلاف، خاصة مع تأكيد الدكتور أن «تلك النظريات هي أفكار وليست شريعة واجبة الاتباع»، وله بدل الموافقة بنعم واحدة «نعمين»، ثم التفكير فيما قال: «الفقه صناعة فكر المنظرين الإسلاميين كأساليب للحكم والإدارة، وليس شريعة واجبة الاتباع»، فإعمالا لهذا المبدأ، يكون ما يعرضه علينا الدكتور معروف هنا في دراسته التي هي بين أيدينا الآن، هو بدوره فكر وليس شريعة واجبة الاتباع. ويكون رأيه في إطلاق يد المشايخ من باب التنوع في التشريع والأحكام، هو من باب التضليل؛ لأنه بغض النظر عن كونهم تقريبا طبعة واحدة، فإن التنوع الحقيقي يكون في إطلاق حق المختلف مع هذا الفكر لنقده نقدا علميا واضحا، ليعيد الفقيه إلى مكانه الطبيعي (مفسرا) قد نأخذ بتفسيره أو لا نأخذ.
إن القول إن الفكر يصنعه العقل، وإن الفكر يمكن أن يكون شرعا، فلماذا الوقوف إذن عند فكر الفقهاء وحدهم مع تعددهم، ولأن اختلافهم رحمة؟ خاصة أنه إذا كان شرعهم ابن فكرهم فهو في النهاية سيكون شرعا وضعيا، وضعه صاحب هذا العقل أو صاحب هذا الفكر، فلماذا يظل الفكر حكرا على طائفة الفقهاء؟ •••
إن من يقولون إن الشرع رباني ويطلبونه كما هو على حاله، بوضوح ودون التفاف، هم أكثر رحمة؛ لأنهم أكثر صدقا مع أنفسهم وأفضل اتساقا؛ فالشرع عندهم ليس ناتج تفكير العقل الإنساني وحواره مع نفسه أو مع الآخر؛ فالرب عندما يضع شرعه لا يحاور الآخر ولا يحاور حتى نفسه؛ لأن المحاورة هدفها الاختيار بين بدائل، والرب الكامل حسبما يعتقد المسلمون لا يصح أن يختار بين بدائل، وإلا فعلينا أن نتساءل: من وضع له البدائل وسمح له بالاختيار وأعطاه حرية التفكير لينتقي ويقرر، وكله مما يتنافى مع عقيدة التوحيد؛ لذلك كان الشرع معبرا عن إرادة الخالق وليس فكره، فمن يفكر هو الضعيف الذي يبحث عن المخرج والأفضل بين الحلول المتاحة.
هؤلاء أكثر اتساقا لأنهم واضحون، وعلينا أن نتعامل مع ما يطرحون بوضوح مقابل، فنرفض أن تقرر السماء للبشر قوانينهم، وأن نعلن أن ذلك زمن قد انتهى، ونؤمن في نفس الوقت أنها كانت قرارات سماوية صادقة تناسب زمنها، وأننا اليوم من يقرر ويشرع لنفسه، هكذا بشديد الوضوح. أما من يلعبون بنا وبالدين وبالغرب القوي الحر لطرح فكرة دولة إسلامية شرعية يفكر لنا فيها الفقهاء، ويشرعون لنا حتى يتسق شرعنا مع ديننا ومع حقوق الإنسان الديمقراطية، فهو تلفيق وتزوير على الكل، وعلى الأمة المجهولة والموجودة كلتيهما.
يقول الدكتور إنه من الغلط أن نظن أن الشريعة هي ما كتبه الفقهاء وما يكتبه فقهاء زماننا مثل سيادته، ويصر على العودة عند التشريع للفقهاء، لاعتقاده كمسلم أن الكتاب والسنة هما المرجعية، خاصة وبالذات في التشريع، وأن الكتاب والسنة لم يتركا شيئا إلا فصلاه، حتى خروج المسلم إلى الخلاء ونظافته الشخصية لقيت من الشريعة اهتماما عظيما بالتفصيل الممل أحيانا.
ومع ذلك لا يجد فلاسفة الدولة الإسلامية المأمولة بين أيديهم في القرآن ولا في السنة ما يسعفهم في شأن نظام الحكم وآلياته وهيئاته ومؤسساته، رغم أنها أهم من شئون الخلاء وأفضل. فإذا كان نظام الحكم شأنا إسلاميا فلماذا غفل الإسلام عنه كل هذه الغفلة، وإذا كان الله حسب إيمان المسلم كان يعرف مفاهيم أيامنا وما سيستحدث فيها فلماذا لم ينزل سورة الدستور أو آية الديمقراطية. وهل لم يكن الله عالما في زمن الدعوة أن هذه الشئون ستحدث في زماننا؟ لا شك لدى المؤمن أنه كان يعلم، وأنه لو كان يريد للدين أن يتدخل في مثل هذه الشئون لقالها صراحة وبوضوح، لقد تنبأ القرآن بانتصار الروم من بعد غلبهم حتى يفرح المؤمنون، وقد انتصر الروم لتتحقق النبوءة، فلماذا لم يتنبأ بحال أمته اليوم؟ ولماذا لم يضع لهم الدساتير والآليات في كتابه المقدس.
إن ما قرره مفكرو الأمة المسلمون وجعلوه شرعا منذ فجر الإسلام وحتى اليوم، إنما يشير إلى شخصيات ديكتاتورية مستبدة، ظلوا يشرعون من جانب واحد طوال الوقت. ومنذ أيام حسن البنا وسيد قطب، آمن المسلمون بشيء لم يكن يوما في دين المسلمين، وهو أن الإسلام دين ودولة. ومع حضور القوى العالمية في المنطقة، وبداية إعادة تشكيل ثقافة منطقة الشر أوسط الكبير، بدأ سادتنا الفقهاء يعترفون بأن ما قيل من قبل بشأن الحكم كان مجرد فقه، مجرد فكر، وليس شرعا مفروضا؛ لعلمهم أنه كان أسوأ شرع للحكم يمكن تطبيقه على بشر؛ لذلك هو لا يلزمنا اليوم، لكن يصرون على شرط وضع التشريع بيد الفقهاء كأساس ضروري، ليشرعوا كما شرعوا من قبل من بنات أفكارهم وأوهموا الناس أن هذا هو الإسلام، وهو ما كان عين الاستبداد ذاته.
إن ما نفهمه من إسلامنا، ومما قال الدكتور الآن - وهو ما يجب أن يفهمه بدوره - أن الله قد ترك مسألة الحكم ونظام الدولة وعلاقة الحاكم بالمحكومين عن عمد منه وقصد، لا عن تقصير وسهو في أمور هي من المهمات العظيمات، كما أنه لم يتركها لحفنة منهم هم الإخوان أو غيرهم من كهنة الإسلام، ولم يحددهم بالخصوص بالذات للقيام على هذا الشأن دون غيرهم. لقد ترك الإنسان يستهدي بعقله وظروف زمنه في مساحة حرة لم يتدخل فيها الشرع، ليؤكد له إنسانيته، وأن هذا هو سر في تكريم بني آدم؛ هو أنه خلقه حرا لتأكيد إنسانيته، وهو بالفعل تكريم صادق. لكن أهل الدين والمشتغلين به صادروا هذه المنطقة الحرة التي تركها لنا الله دون أن يقول فيها قولا، لصالحهم، ليحولوا الناس عن العبادة لله إلى العبادة لشيء لم يعرفه الإسلام في بكارته الأولى.
الدكتور معروف حبذ اختلاف العلماء؛ فهو بمجمله رحمة يوسع دائرة الفهم والتفسير ومساحة اختيار المسلمين بين بدائل كلها شرعي، بعد أن أكد أن الفقهاء هم العلماء المجتهدون الذين حاولوا فهم الشريعة وتفسيرها، استنادا إلى فهمهم واجتهادهم في زمن معين، ولم يخطر له أن يناقش أسباب هذا الاختلاف الموضوعية ولم يتطرق إليها بالمرة، إنما ذهب مباشرة إلى النتائج التي رآها بمجملها رحمة، ولا تعلم أين هذه الرحمة في تاريخنا العتيد الغليظ حتى نقتدي بها. يعني هل انتهت مشكلة القرآن مخلوق أم قديم؟ وهل يمكن لأحدنا اليوم أن يقول قول المعتزلة ويعلن ذلك ويكتبه ويدافع عنه دون أن يجزوا رقبته أو يحبسوه بتهمة ازدراء الأديان؟ هل انتهت مشكلة صفات الله وذاته ويمكن لأحدنا أن ينكر عنه الصفات تنزيها له وأن يعلن ذلك ويدافع عنه، دون أن تصدر بشأنه آلاف الفتاوى التكفيرية، ويتطوع لقتله عجلاتي أو نجار مسلح أو سباك بفتوى مشيخية.
لو كان ما يقوله الدكتور صادقا وسديدا لكان شيعة العراق والخليج قلة معززة مكرمة. إن اختلاف الفقهاء الذي يقصده الدكتور هو في شئون بسيطة وهينة وتافهة وضيقة تتعلق بالسنن في العبادات في الأغلب؛ لأن قضايا التفكير الفلسفي في شأن الدين عبر علم الكلام لم تعد موجودة ويبدو أنها لن توجد؛ لأن اختلاف وجهات النظر لم يكن رحمة بالمسلمين؛ لأن كليهما انطلق من ذات النص وأصبح هو المؤمن وغيره ليس كذلك؛ مما أباح دمه، فحدثت الفتن الكبرى من عثمان إلى الجمل إلى كربلاء إلى وقعة الحرة الكريهة ... إلخ. الفتن حدثت لأن كل فرقة رأت أنها الصواب في شأن الحكم؛ ولأنه لم يكن لديهم قانون في الحكم أو تشريع، فقد جاز لكل فريق التأويل والاجتهاد على هواه. وما الفتنة الكبرى إلا نتيجة تضارب وجهات النظر؛ لأنها كانت تضاربا في المصالح، كانت صراعا على السلطة والحكم، وتم استخدام الدين دائما كطرف في هذا الصراع، رغم أن هذا الدين لم يقل يوما إن لديه أي رغبة ولو بالتلميح في الحديث عن نظام الحكم أو شكل الدولة.
لو كانت الشورى كما يقول فلاسفتنا اليوم هي الديمقراطية ما نشأت هذه المشاكل ولا تلك الفتن المتتالية، بل لأمكن حلها بيسر وهدوء لوجود مؤسسات الديمقراطية الفعالة، ومؤسسات الدولة وسيادة القانون الذي يعرفه الجميع ويحترمه الجميع، وإلى جواره المؤسسات التي تضمن تنفيذه وتردع الخارجين عليه، كل ذلك لم يكن موجودا. كان الموجود شيئا اسمه الشورى القبلية التي لا علاقة لها بالديمقراطية. كان الفعل القبلي هو المسيطر قبل الإسلام وبعد الإسلام، ولا شيء عن الدولة ولا من الدولة كان معلوما، ولا حتى اسمها.
يتابع الدكتور بشار عواد معروف ليقول: «إن توسيع دائرة الاجتهاد، وضع الأسس الكفيلة بأن يكون هذا الاجتهاد ممثلا لعلماء الأمة، الذين تتوافر لديهم أدوات الاجتهاد بعد استشارة أهل الذكر، هو المفهوم الأمثل لما يسمى في عصرنا بالسلطة التشريعية، مع اختلافنا في المصطلحات؛ لأن المشرع في الأصل هو الله سبحانه وتعالى، ونحن نقر بأن الشريعة إلهية بقواعدها ومقاصدها، وأن تفاصيلها تبنى على تلك القواعد، وتحقق تلك المقاصد، فيما لم يأت به نص صريح. فسلطة الإنسان إنما تقوم على هذه الشريعة الإلهية، وتفصل بها وتقنن لأصولها وتفرع لكلياتها. وكذلك فإن لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة التشريعية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي - أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع.» ا.ه.
إذن؛ فالدكتور يطلب الآتي لضمان قيام دولته المرتقبة ونجاحها: (1)
يجب توفير علماء من الأمة تتوافر فيهم شروط الاجتهاد وأدواته. (2)
يقوم هؤلاء بالاجتهاد، لكن بعد استشارة أهل الذكر (؟!)، ولا تعلم لماذا لا يكون علماء الأمة هم أهل الذكر؟ أم هو توزيع سلطات؟ (3)
البند 1 و2 هما الفهم الأمثل للسلطة التشريعية في زماننا. (4)
بذلك نكون قد وضعنا جهاز السلطة التشريعية بأنفسنا وبأيدينا بعد أن نكون قد حددنا من هم أهل الذكر؟ ولكن من هم أهل الذكر؟ هل هم من قصدهم القرآن أهل الكتاب كما أجمعت التفاسير والأحاديث، وهو ما لا يصلح هنا مرجعا بمفرده؟ أم أهل الذكر هم علماء الإسلام (مشايخه) كما يقول البعض نشازا ويصرون على نشازهم؟ فمن إذن سيقوم بالاجتهاد إذا كانوا هم أهل ذاتهم؟ أم يمكن لحل المشكلة، تقسيمهم إلى علماء درجة أولى، وعلماء درجة ثانية مثلا؟ هذا كلام يتحدث عن أشياء غير موجودة؛ لذلك هو كلام غير مفهوم. (5)
بعد وضع وصنع جهازنا التشريعي بدقة علينا ألا ننسى أن المشرع في الأصل هو الله سبحانه (؟!)، وهذا مجرد اختلاف في المصطلحات؟ لماذا؟ يجيبنا: لأننا ونحن نشرع فإننا نرجع لأهل الذكر، وبذلك نكون قد أقررنا بأن الشريعة إلهية بقواعدها ومقاصدها. ولا تفهم إذا كان يقر بذلك فلماذا كل هذا الجهد وتلك المشقة لوضع جهاز تشريع إسلامي من نوع فريد، ترجع فيه السلطة التشريعية لأهل الذكر، وكلاهما يرجع للشريعة الإسلامية لأنها «إلهية بقواعدها ومقاصدها». لماذا لا تطبق كما هي حتى لا نقع في رأي محظور حرام؟ (6)
ما ستقوم به السلطة التشريعية هو وضع تفاصيل تبنى على قواعد الشريعة وتحقق تلك المقاصد. ولم يشرح لنا ما هي القواعد التي تقوم عليها الشريعة والتي ستحقق السلطة التشريعية مقاصدها ولا ما هي هذه المقاصد. (7)
إن كل الزيطة السالف إيرادها سنستخدمها فقط فيما لم يأت به نص صريح من كتاب أو سنة! وليس أبعد من ذلك! (8)
يباح الاجتهاد التشريعي فيما لم ينزل به شرع سماوي شريطة أن تظل التشريعات محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي الإسلامي؛ أي إن المساحة التي تركها الله لعباده حرة مطلقة تمت مصادرتها لصالح المجتهدين من الفقهاء.
كل هذا التل المختل قاله سيادة الدكتور في فقرة واحدة، دون أن يشعر بأي مشاكل مع نفسه ولا مع ما يكتبه ولا مع ما سطره بذات الموضوع من هنيهات. لنعود من حيث بدأنا، لنبدأ مشوارنا في الوجود مرة أخرى مع فتنة كبرى جديدة، كسنة معلومة مكررة في تاريخنا.
ما كل هذه الرغبة الجامحة المثيرة التي تكاد تكون من الغرائز اللحوحة، في تحكيم الإسلام في كل شأن؟
لنفرض جدلا أن كل ما طلبه الدكتور وهو يطور الإسلام قد تم وحدث وتحقق إرضاء للسماء والتصاقا بها ، فهل ستأخذ السماء بما قد شرعنا وفق تلك المطالب؟ ماذا سيكون موقف السماء عند الاختلاف في الفتاوى التشريعية إزاء الموقف الواحد، وهو الشأن المعلوم في مشايخنا؟ هل سترى ذلك رحمة؟ أم يجب لإقرار التشريع أن تقوم السماء بوضع عقوبات مناسبة للمستجد من فتاوى، فيدخل الله المدخن جهنم مثلا وكذلك غير المحجبة؟ لأن من سيشرع هنا هم البشر أولا ثم يقوم الإله بدور المنفذ. لقد اختلف الأزهر ودار الإفتاء وهم في نفس الزمان والمكان والظروف، فما بالك بحجم الاختلافات الهائلة بين المذاهب والفرق، وبين أبناء المذهب الواحد باختلاف ظروفهم وبيئاتهم وشكل نظامهم السياسي ومستواهم المعرفي ... هل ستتابع السماء هذه الاختلافات والتعديلات أولا بأول؟ ثم ألن يربك السماء تضارب تشريعات فقهائنا؟ وتراها ستقف إلى جانب أي فتوى؟ وأي عقوبات ستستخدمها دعما للفتوى؟
بينما كان التليفزيون حلال في مصر بفتوى المفتي والأزاهرة، كان محرما في السعودية بفتوى أخرى، فهل سيحاسب الله المخالف السعودي، في حين أنه لن يحاسب المصري؟ أم تراه سيأخذ بفتوى من الاثنين دون أن نعلم نحن بهذا الاختيار؟ فلم يعد هناك وحي يقول أو يخبرنا بقرارات السماء.
إذا كان اختلاف الفقهاء رحمة، فبأي الإفتاءات سوف تلتزم السماء عند حساب خلق الله؛ لأن السماء لن تفعل فعلنا، فتحكم بفقهين مختلفين، وتكيل بمكيالين. واحتراما للسماء التي لم تحدثنا في مقدسها عن الدولة وقوانينها، وحتى لا نربكها معنا، يجب أن تظل السياسة شأنا، والدين شأنا آخر.
انظر أخانا الدكتور وهو يقول: «إن لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة التشريعية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي؛ أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع.» صياغة العبارة تمت في قالب وشكل قاعدة تشريعية، على نمط المواد الدستورية المنظمة للدولة. ومثل هذه القاعدة التي يضعها الدكتور تشكل خطورة مصيرية، قاعدة تحول البشر إلى عبيد، وتسلبهم حرية وهبها الله لهم. إن إلقاء الكلام دون تبصر يجعلنا نتساءل: من أي حديث أو أي آية أو أي رأي للخلفاء الراشدين أتى الدكتور بقاعدته تلك؟ فإما أن تكون صادق الإيمان وتسلم أن الله لم يترك شيئا إلا وأبلغنا به من خلال نبيه الأمين، ولم يترك نقصا في دينه، وإما أن يكون للقاعدة التي تطرحها أصل في دين المسلمين، أو أن تكون حتى ترجمة أو تأويلا لآية لم يذكرها لنا، لأنها غير موجودة.
أم تراهم يرون المسلمين أقل كرامة، وأدنى فهما من بقية البشر بين العالمين، ليتولى أمرهم اليوم رجال الدين؟! ليحدثونا في السياسة بالحلال والحرام الذي لا مجال له في ميدان السياسة، فميدانها مصالح البلاد والعباد بما هو صواب أو خطأ، والفرق بينهما سحيق. إن الخطأ والصواب لا يعاقب الإله عليه؛ فإن أخطأ الطالب في حل مسألة في الامتحان فإن الله لن يدخله النار، وإذا أخطأ الصاروخ سطح القمر لن يدخل علماء ناسا جهنم. الله لا شأن له بالسياسة والصواب والخطأ، هذا شغل الإنسان.
وبعد، فما ناقشناه هنا هو من الخطاب الإسلامي المعاصر المتحصن بالحرية وبالشريعة الإسلامية وبالديمقراطية وبالله، وبدور أعطاه لنفسه ليختار لنا ما يناسبنا حسب شرعنا، ها هو كما رأيتم ... وكما قال أحد فلاسفتهم الجدد، الذين يكتبون لنخبتهم!
ولله الأمر من قبل ومن بعد ...!
صفحه نامشخص