دعوة الرسل عليهم السلام
دعوة الرسل عليهم السلام
ناشر
مؤسسة الرسالة
شماره نسخه
الأولى ١٤٢٣هـ
سال انتشار
٢٠٠٢م
ژانرها
مقدمات
المقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد،،،
فإن أشرف الأعمال وأجلها هو الدعوة إلى الله تعالى، ففيها عظمة الموضوع، وسمو الوسيلة، ونبل العمل، ورقي الغاية، وذلك أمر أكده الله تعالى بقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ١.
وقد خص الله ﷾ رسله الكرام ابتداء بهذا الشرف، وكلفهم به وبعثهم بوحي منه يبلغونه للناس، قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ ٢.
وقال سبحانه لكل منهم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ ٣.
وعلى مدار التاريخ من لدن آدم ﵇ إلى محمد ﷺ قام الرسل بواجبهم هذا، وحملوا أمانة الدعوة بكل صدق وإخلاص، وتركوا سيرة مثالية تعد أسوة لكل من يرجو الله واليوم الآخر، وكان محمد ﷺ خاتم الرسل والأنبياء، ختم بدعوته سائر دعوات الله، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وترك للبشر كل ما ينفعهم، وكل ما يحتاجون إليه، بالنسبة للدعوة وغيرها.
عرف بوجوب القيام بالدعوة إلى الله تعالى، وألزم الأمة المسلمة به، حيث أخبرهم بقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ٤.
_________
١ سورة فصلت آية: ٣٣.
٢ سورة النساء من آية: ١٦٥.
٣ سورة المائدة آية: ٦٧.
٤ سورة آل عمران آية: ١٠٤.
1 / 5
وبقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ١.
وكما عرفهم بحكم تبليغ الدعوة، فصل لهم طريقة الدعوة، وأسلوبها، ومنهج إيصالها إلى عقول الناس وقلوبهم، وكيفية توجيه الخطاب ... ووضح لهم ذلك بطرق شتى، فمرة يوجههم نحو المنهج مباشرة، ويقرأ لهم قوله تعالى:
- ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ٢، وبهذا يقوم منهج الدعوة على الإيجاز، والدقة، والرمز، وهو المراد بالحكمة، كما يقوم على التفصيل، والتحليل، والإثارة، وهو المقصود بالموعظة الحسنة، كما يراعي المنهج شخصية المدعوّ، فإن كان مجادلا، فليكن جداله بالتي هي أحسن.
- ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ ٣.
- ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ ٤.
ومرة أخرى يوجههم نحو الأسلوب، بعرض قصص الأنبياء بما تشتمل عليه من حقائق عديدة، تتصل بموضوع الدعوة، وأسلوبها، ومنهجيتها الاتصالية، ومدى تقدير المسئولية عند من يتحمل أمانة الدعوة والتبليغ، وكيفية مواجهة المواقف الصعبة التي تحدث مع القيام بالبلاغ والدعوة. يبين القرآن الكريم هذا وهو يوضح الغاية من
_________
١ سورة التوبة آية: ١٢٢.
٢ سورة النحل آية: ١٢٥.
٣ سورة الأعلى آية: ٩.
٤ سورة الغاشية آية: ٢١، ٢٢.
1 / 6
القصص القرآني، يقول الله تعالى:
- ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ١.
ويقول سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ٢.
وبقوله سبحانه: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ٣.
ومرة ثالثة يوجههم بتوضيح خواطر النفس، واتجاهات الهوى، وسبحات العقل والروح، وهو يحدثهم عن طبقات الناس من الملأ، والضعفاء، والمترفين، واليهود، والنصارى، والصابئة، والمجوس، والذين أشركوا، ومعهم، وقبلهم المؤمنون المخلصون.
... وهكذا يلتقي الدعاة مع منهج الدعوة الحكيم.
إن قصص القرآن الكريم يُجلِّي حركة الدعوة، ويوضح تاريخها على الزمن كله، بصدق تام لا ريب فيه، ولا خيال، ويركز هذا القصص على الجوانب المفيدة النافعة، ذات التأثير في الخلق، والسلوك، والاعتقاد، ويقدم الدعوة، موضوعا، ومنهجا، وهي تتحرك مع الناس، في صورة عملية حية؛ لتأكيد ملاءمتها للفطرة، وتوافق التحرك بها في إطار المنهج الرباني.
_________
١ سورة هود آية: ١٢٠.
٢ سورة يوسف آية: ١١١.
٣ سورة الأعراف آية: ١٧٦.
1 / 7
إن واقع المسلمين المعاصر في أمسّ الحاجة إلى المدارسة الجادة لقصص الرسل، من أجل الوقوف على منهجهم في الدعوة، ومعرفة حقائق الناس، وخفاياهم، واكتشاف الوسائل المثلى للجدل، والخطاب، والإقناع، والإرشاد، ولم ينتقل رسول الله إلى ربه إلا بعد أن وضح المنهج، وعرفت الوسائل والأساليب ... وصارت مبادئها، وأساسياتها، مصورة في وقائع عملية، وأحداث تطبيقية، تشهد بحيويتها، وتأثيرها في الناس.
وانطلاقا من الشعور بواجب الدعوة، ومحاولة لبذل جهد على قدر طاقتي، أكتب في تاريخ الدعوة، يحدوني الأمل في توفيق الله تعالى لأتغلب على الصعاب العديدة.
إن الكتابة في هذا الموضوع جديدة، والجديد دائما يحتاج للجهد والعمل، ويتعرض للنقد والمعارضة، وبخاصة إذا قلت مراجعه، وندرت العقول التي تناولته بالتحليل والتوضيح ... وأين لي بوقت أستعين به في أداء المقصود على وجه سديد ... ولكنه الأمل في الله، إن الأمل في الله كبير وهو صاحب الفضل: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ ١.
ولقد ألف في قصص الأنبياء، وقصص القرآن عددٌ من العلماء أسهموا في إبراز هذا التراث العظيم، ووجّهوا أنظار المسلمين إلى ما فيها من عبر وفوائد.
وأعانني الله تعالى فقرأتُ أغلب هذه المؤلفات، ورأيت ضرورة إبراز الجانب الدعوي في قصص الأنبياء؛ لإيماني بأن القرآن الكريم نزل للدعوة، وكل ما فيه من قصص، وأحكام، وتشريع هو توجيه للدعاة، بدءا برسول الله ﷺ الذي أرسله الله للناس ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾، واستمرارا مع كل الدعاة المخلصين إلى يوم القيامة.
ولهذا استخرت الله تعالى في الكتابة عن الجانب الدعوي، من خلال تاريخ الأنبياء ﵈؛ لأن الدعوة من خلال تاريخ الأنبياء وقصصهم تعد في الحقيقة
1 / 8
إظهارا عمليا لحركة الدعوة وسلوك الدعاة، وموقف المدعوين، وشبه المعارضين، وكشفا حقيقيا لتصرفات أعداء الدعوة إلى الله تعالى.
ومن هنا كان توضيح تاريخ الرسل، من خلال القرآن الكريم، إحياء للماضي وتقوية للحاضر، ودستورا دائما للدعوة، يحدد المسار ويبين المنهج، ويشير إلى النتائج النهائية للمؤمنين، وللكافرين، على حد سواء.
ومن أجل تحقيق الفائدة من هذه الدراسة، اتبعت منهجا واحدا مع تاريخ سائر الرسل، وبخاصة من فصل القرآن الكريم في دعوتهم، يعتمد الأسس التالية:
أولا: التعريف ببيئة قوم الرسول؛ لمعرفة حضارتهم، والنعم التي تفضل الله بها عليهم، وأشهر الأصنام والأوثان التي عُبدت من دون الله تعالى.
ثانيا: التعريف بقوم الرسول، والوقوف على أهم طبائعهم النفسية، والفكرية، ومدى تمسكهم بالضلال في العقيدة، والانحراف في الخُلُق والسلوك.
ثالثا: التعريف بالرسول ﵇ ونشأته، وأخلاقه، وملامح الصناعة الربانية فيه، ومناط الأُسْوة، والقدوة للدعاة، والمؤمنين.
رابعا: التفصيل في بيان حركة الرسول بالدعوة في قومه، وتشمل الحركة المنهج والوسيلة، والأسلوب، كما تبين فطنة الرسول ودقته وهو يدعو إلى الله تعالى.
خامسا: إبراز أهم ركائز الدعوة مع كل رسول؛ لتكون دعائم أساسية للدعاة في مجال التأسي والاعتبار.
وبعد الانتهاء من دراسة تاريخ دعوة الرسل، قمت بدراسة مطولة حول أسس الدعوات الإلهية، ومدى تكريمها للإنسان، وتحديدها للغاية التي خلق من أجلها مع بيان شخصية مبلِّغ الدعوة، ومنهجية البلاغ من خلال دراسة هذه الأسس،
1 / 9
والأمل أن تقدم الدراسة التفصيلية لتاريخ الرسل، والتحليلية للمبادئ والأسس الطريقة المثلى للدعاة في العصر الحديث، وليعلم الجميع أنه لا جديد عن الدعوة من كافة نواحيها يختلف عما جاء في القرآن الكريم.
إني أرجو من خلال كتابة تاريخ الدعوة ربط أحداث الماضي، بوقائع الزمن الحاضر، وإنارة طريق المستقبل؛ ليعيش الدعاة متخذين قدوتهم الرواد الأوائل الذين هداهم الله، وليكونوا لمن بعدهم المثل والأسوة، حتى تعود الأمة الإسلامية لعهدها الأول، وتصير بحق خير أمة في العالمين.
والله من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
ا. د/ أحمد أحمد غلوش
مدينة نصر في أول محرم سنة ١٤٢٢هـ
الموافق ١٥/ ٣/ ٢٠٠٢م
_________
١ سورة الحديد آية: ٢٩.
1 / 10
تاريخ الدعوة واقع ومنهج:
علم التاريخ من العلوم الهامة ذات الفائدة القصوى للإنسان؛ لأنه يتخذ الماضي موضوعا لدراسته، ويعيش مع الوقائع والأحداث وفق منهج وصفي، يعتمد الحياد والموضوعية، ويجمع الأحداث والوقائع من مصادرها الصحيحة، ويحللها بأمانة، وينسقها على أسس عقلية متكاملة؛ لتنطق بكافة جوانب الحدث، وتصوره أمام الناس، وبذلك يعرف التاريخ بواقعه، ويظهر الماضي بأشخاصه، وأعماله، وحيويته، ويتمكن الباحث من استخلاص الدروس والعبر، ويتحقق له الهدف المنشود.
ويحتاج علم التاريخ بصورة عامة إلى عقلية عالمة، تبحث عن الحقائق، وتلتزم بالحق، بعيدا عن التحيز والتأثير، وتنأى بذاتها عن توجيه الأحداث لخدمة أهدافها الذاتية، وخصائصها الثقافية، أو الدينية، أو الجنسية ... وهكذا.
وعلم التاريخ وفق هذا المنهج يساعد في إعطاء صورة صحيحة لتاريخ البشر، ويساهم في وضع منهج للحاضر، والتخطيط للمستقبل، ويؤدي إلى حياة طيبة للعمران البشري.
وعلم "تاريخ الدعوة" فرع من علم التاريخ العام، يهتم برصد جانب معين من الأحداث والوقائع الماضية، وهو الجانب المتصل بالدين، وحركته، وحيويته في حياة الناس؛ ولذلك نراه يعايش دعوات الله تعالى على طول الزمن، فيحدد موضوعاتها التي بلغتها للناس، ويعرف وسائلها في البلاغ والدعوة، ويوضح ما دار حولها من نقاش ونزاع، ويبين موقف المدعوين منها سواء آمنوا بها، أو لم يؤمنوا.
وعلم تاريخ الدعوة يعايش مدعويه جميعا، عامتهم، وخاصتهم، فهم جمهور الدعوة، وهم الأمة التي جاءت الدعوة لهم.
1 / 11
ومما يتصل بأحداث الدعوة، ووقائعها النفقات المبذولة في إنشاء المؤسسات الدينية كالمسجد، والمدرسة، والمستشفى، والأموال التي تصرف زكاة، أو صدقة، في أحد المصارف الشرعية المعروفة.
إن أي نشاط ديني للفرق، والمذاهب، والجماعات المتنوعة، هو جزء من اهتمام تاريخ الدعوة، مهما كان أثرها وجدواها في تنمية المجتمع وتقدمه، أو تخلفه وتقهقره.
ولعل التعريف بالرسل والدعاة على مدار التاريخ محل اهتمام رئيسي لعلم تاريخ الدعوة، فهم حَمَلَة الدعوة، ومبرزوها، ومبلغوها، والمدافعون عنها، وهديهم في التبليغ أساس لمن بعدهم.
إن علم تاريخ الدعوة يبحث موضوعه في إطار منهج علم التاريخ العام، وبذلك يقدم فوائد جليلة للدعوة إلى الله تعالى في العصر الحديث؛ لأنه يقدم أحداث الماضي رصيدا للحاضر، وتوجيها للمستقبل، ويكفي الدعاة أن يعرفوا الحاضر صورة مكشوفة، ويحيطوا بالإنسان المدعو ظاهرا وباطنا؛ لأنهم بدراسة التاريخ يفهمون نفوس الناس، وأخلاقهم، وخواطرهم، واتجاهاتهم، ومواقفهم التي سيتخذونها إزاء الدعوة التي ستوجه إليهم.
والدعاة حين يعلمون ذلك عن الناس يمكنهم اختيار ما يطلبونه من الناس، وطريقة الطلب، ووسيلة الخطاب، ومنهج الدعوة والبلاغ.
يقول سيد قطب: "إن تاريخ الدعوة يصور طبيعة الكفر، وطبيعة الإيمان في نفوس البشر، ويعرض نموذجا مكررا للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجا مكررا للقلوب المستعدة للكفر أيضا"١.
_________
١ في ظلال القرآن ج١٣، ص٢٠٢.
1 / 12
ويقول: "واجه الموكب الكريم من الرسل البشرية بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية دعوة الرسل مواجهة واحدة، وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل، إنها حقيقة تستوقف النظر ويجب الاستفادة بها"١.
ومن عناية الله تعالى بالدعوة إلى دينه، أن أنزل قصص الرسل والأنبياء وحيا على رسوله محمد ﷺ متميزة بخصائص القرآن الكريم الثابتة، وهي الصدق، والدقة، وقصد الهداية والخير، في استقامة خالية من العوج، والاضطراب.
وبعد تمام الإسلام، وانقطاع الوحي، وانتقال الرسول ﷺ إلى الرفيق الأعلى أخذ العلماء، والدعاة المسلمون، يواصلون رصد حركة انتشار الإسلام، ويسجلون عملية تبليغ الدعوة إلى الناس، في أرجاء العالم المختلفة، على قدر طاقتهم البشرية.
وعلى هذا يمكننا -ونحن مطمئنون- أن نقسم دراسة تاريخ الدعوة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، لكل منها خصائصه ومزاياه، وهي:
القسم الأول: ويتضمن تاريخ الدعوة مع رسل الله قبل محمد -عليهم جميعا صلوات الله وسلامه- ومصدر هذا القسم هو القرآن الكريم بصورة رئيسية، فللقرآن الهيمنة على غيره، وكل ما عداه من مصادر أهل الكتاب، أو من الاكتشافات الأثرية، أو من الكتابات القديمة يجب أن تكون متفقة معه، غير متعارضة مع أصوله، وأساسياته، ويتميز هذا القسم بعدد من المزايا:
أ- أخباره كلها صادقة، تلازم الحق والصواب، قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ ٢.
_________
١ في ظلال القرآن ج١٣ ص١٤١، ١٤٢ بتصرف.
٢ سورة الكهف آية: ١٣.
1 / 13
وقال تعالى: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ﴾ ١.
وقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ ٢.
والنبأ وهو الخبر المتعلق بأمر هام، موغل في القدم، مثير للوجدان، والعواطف، والحق هو الصدق الموافق لما وقع٣، المطابق للحدث بلا ريب ولا شبهة.
ب- ارتباط تاريخ الدعوة خلال هذا القسم بالوحي المنزل على رسول الله ﷺ حيث لا دخل لبشر في تصوير أحداثه، أو الإخبار بوقائعه من عند نفسه؛ لأنه غيب أمام البشر، ولولا القرآن الكريم لغاب تاريخ هذا القسم مع أهميته، قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ ٤.
وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ٥.
وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ٦.
إن قصص القرآن الكريم إخبار عن غيب الماضي، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، أوحى الله به إلى رسوله محمد ﷺ ليكون منهجا يتبع، وطريقا يسلكه الدعاة إلى الله.
وفي الآيات إشارة إلى أن إدراك مضمون هذا القصص لا يكون إلا بوحي الله تعالى.
_________
١ سورة القصص آية: ٣.
٢ سورة المائدة آية: ٢٧.
٣ تفسير النسفي ج٢، ص٢٨٠.
٤ سورة يوسف آية: ٣.
٥ سورة آل عمران آية: ٤٤.
٦ سورة ص الآيات: ٦٧-٦٩.
1 / 14
ج- واقعية الأحداث في هذا القسم، فليس منها ما لا يتصوره عقل، أو يتناقض مع الفطرة، وطبيعة الإنسان في تصوير هذا القسم دقيقة، واقعية، انظر إلى الإنسان تأتيه الدعوة، فيتنازع الشر والخير، وينتصر هذا أو ذاك ... أليس ذلك واقعا نقرؤه في سائر القصص؟!
لقد قدم هذا القسم التصوير الصادق الواقعي عن إخوة يوسف، وعن ولدي آدم، وعن المؤمنين، وعن الكافرين.... وهكذا.
ولو جئنا بقصة قرآنية، وعزلناها عن ذوات أصحابها، وأبعدناها عن زمانها؛ لخيل إلينا أنها قصة من الحاضر؛ لأن الإنسان هو الإنسان، فكأن واقعية الماضي تصوير لما وقع فعلا، وفهم الحاضر يفيد ترابط وقائع الماضي مع حوادث الحاضر، مع تصورات المستقبل، وذلك أكبر برهان على الواقعية لقصص القرآن الكريم، المتضمن للقسم الأول من تاريخ الدعوة.
د- سموّ أهداف أحداث هذا القسم، حيث دعوته إلى الفضائل، والبعد عن الرذائل، فهو يدعو إلى التوحيد، وطاعة الله، والتخلق بالخلق الكريم، وحين يعرض لموقف فيه فحش، فإنه يعرضه بصورة مختصرة في شكل مقيت يكرهها من يقرؤها، قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ ١.
ومن الآية نرى أنها تعرض الجنس في لحظة ضعف، لا لحظة بطولة، ولحظة تحتاج إلى أن يفيق الإنسان منها ليلتزم الواجب، والطهر والمحافظة على حق الله، وحق الناس.
هـ- الاكتفاء بالقدر المفيد من الأحداث والوقائع؛ ولهذا نجد أن القصص القرآني لا يروي كل الجزئيات عن الماضي، ولا يورد ما يورده مرتبا مسلسلا، وإنما
_________
١ سورة يوسف آية: ٢٣.
1 / 15
يتخير من الحدث ما يفيد، ويذكر من الوقائع ما فيه نفع الإنسان، فأحيانا يورد اسم المكان، أو يحدد الزمان، أو يوضح عدد الناس، إن كان ذلك يفيد، وأحيانا يترك ذلك كله، ويذكر سواه في حدود الفائدة المطلوبة، والنفع المقصود.
ومن هنا فعلينا أن نأخذ الفائدة مما ذكره الله تعالى، ونسكت عما سكت عنه؛ لأنه لا حاجة إليه، وقد تتحدث مصادر أهل الكتاب، أو مصادر غيرهم عن تفصيلات القصة التي سكت القرآن الكريم عنها، وحينئذ تكون تكملة لما يحتاجه الباحث في تاريخ الدعوة، وأخذُها من هذه المصادر عملٌ يؤيده الإسلام ويدعو إليه ما دامت تكمل مسار الحدث، وتتوافق معه، يقول النبي ﷺ: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" ١.
وشخصيات الرسل، ووظيفتهم البلاغية، تمثل معلما رئيسيا في تاريخ الدعوة؛ لأن الرسول -أي رسول- صناعة ربانية، وصفاته بشرية، مثالية، واقعية؛ ولذلك فهم قدوة للدعاة، وأسوة لهم، على الزمن كله.
وحينما يقدم تاريخ الدعوة صفات الرسل، ومزاياهم الخلقية التي تعاملوا بها مع الناس، ومنهجهم في الدعوة، ووعيهم بحقائق الحياة والأحياء، وصدقهم المخلص مع الله، ومع الرسالة، ومع الناس، حينما يفعل ذلك يقدم خدمات جليلة للدعوة في العصر الحديث، وفي كل العصور ...
القسم الثاني: ويتضمن تاريخ الدعوة في عصر الرسول محمد ﷺ وهو أهم الأقسام، وأزهاها، بل هو أساس لكل جوانب الدعوة الإسلامية في جميع الأمكنة، وسائر الأزمنة إلى يوم القيامة، ومصادر هذا القسم عديدة على رأسها القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومرويات الصحابة والتابعين، وكتب التاريخ.
_________
١ صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب التفسير ج٦، ص٣٢٩.
1 / 16
ويتميز هذا القسم بالعديد من المزايا، أهمها:
أ- يشتمل على مزايا القسم السابق، فهو وحي منزل لا ريب فيه، يلائم الفطرة، وينحو نحو الكمال، والسمو، والرفعة، بل إنه يعد تاريخا تطبيقيا للدعوات السابقة، أخذ منها موضوعها وأهم قضاياها، وخبر من خلالها أسرار الحياة والأحياء، حتى إن الرسول ﷺ كان يورد أحداث الماضي ليستفيد أتباعه منها، ومن ذلك ما يقوله النبي ﷺ: "إن الرجل فيمن قبلكم كان ينشر لحمه عن عظمه بالمناشير، لا يصرفه ذلك عن دين الله تعالى" ١.
ب- يستفيد هذا القسم من خصائص الإسلام، فبسبب كون الإسلام دينا عالميا، وخاتما لسائر الأديان، نجد الدعوة مصبوغة بصبغة العالمية، حيث تلتزم الأصول الدينية الثابتة، وتقدمها لطوائف الناس على تنوعهم، واختلافاتهم بأساليب متعددة تناسب الجميع، وحتى يستمر تناسبها مع الناس نجد القرآن الكريم يخاطب العالم على اختلاف مذاهبه، وأجناسه، وطبقاته ... فبرغم أن القرآن الكريم نزل في مدة محددة، وخاطب أهل مكة والمدينة إلا أن الله ﷾ بقدرته وحكمته جعل هاتين المدينتين بوتقة جمعت كافة عناصر البشر، وجميع الطبقات، وسائر المذاهب والأديان، حتى إذا ما نزل الوحي يخاطب هؤلاء الناس، ويناقش عقائدهم، ويدعوهم، كل بما يناسبه، كان كمن يخاطب البشرية كلها في كل الأمكنة، وفي كل الأزمنة إلى يوم القيامة.
لقد وجد في مكة والمدينة يومذاك اليهود، والنصارى، والمجوس، والدهريون، والذين أشركوا، وعبدة الكواكب، والأصنام، والملاحدة ...
كما وجد فيهم الأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد، والحكماء والحنفاء والعامة.
وهكذا تميزت الدعوة بالعموم الشامل، والخلود المستمر إلى يوم القيامة ...
_________
١ البداية والنهاية ج٢، ص٥٩.
1 / 17
ج- تضمن هذا القسم كل شيء عن الإسلام والدعوة إليه، حيث يوجد ذلك بتفصيل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، المحفوظينِ بحفظ الله تعالى.
قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ١، وقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ٢، وقد جاء القرآن الكريم مصدقا للكتب السابقة ومهيمنا عليها، فأيد صادقها، وأتم ناقصها، وصحح ما حُرِّف منها، وكمل بما تحتاجه البشرية تبعا لتقدمها وتطورها، ووضع القواعد المساعدة لاحتواء كل جديد، وإعطائه الحكم الشرعي الصحيح، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ ٣.
وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ ٤.
ويعتبر هذا القسم هو الأساس للدعوة، فهو يحتوي أحداث القسم الأول ويستفيد منها، ويقدم الدستور الواضح والتشريع الدائم للعصور التالية بصورة محكمة، مفصلة.
د- محمد ﷺ رسول الدعوة، وإمام الدعاة، وقدوة المؤمنين، صورة بيضاء، واضحة، ناصعة، يسهل الوقوف على أي جانب من جوانب شخصيته العامة والخاصة مهما دق، حيث فصلت سيرته ﷺ تفصيلا واسعا، واهتم بها كتّاب السير والشمائل حتى سجلوا كل شيء ووثقوه ...
_________
١ سورة الأنعام آية: ٣٨.
٢ سورة الحجر آية: ٩.
٣ سورة المائدة آية: ٤٨.
٤ سورة هود آية: ١.
1 / 18
ولقد صور القرآن الكريم حياته ﷺ العملية، وسلوكه مع الناس، وتعبده لربه في السر والعلن، وخلقه، وعمله، فمن أراد أن يرى القرآن مصورا فلينظر إلى سيرة رسول الله ﷺ، ومن أراد أن يقرأ محمدا ﷺ مكتوبا فليقرأ القرآن الكريم؛ وذلك لشدة المطابقة بين العمل والتنزيل.
ولهذا تعد السيرة النبوية تسجيلا عمليا للدعوة الإسلامية، أصولها، ومناهجها، ووسائلها، وتاريخها خلال هذه الفترة المهمة.
هـ- أصحاب محمد ﷺ خير أجناد الأرض، وهم خير أمة أخرجت للناس، آمنوا بالإسلام إيمانا كاملا، وخلعوا من قلوبهم حب الدنيا، وملئوها بحب الله ورسوله؛ ولذلك حملوا أمانة الدعوة إلى الإسلام، وبلغوها للعالمين، بعد أن طبقوها على أنفسهم وحياتهم، وقدموا من صور الحب للإسلام، والتفاني في سبيله، ما يعد نشازا في نظر كثير من الناس.
هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا جمهور الدعوة في عصرها الأول ... وكانوا عمليا حقل تجارب دقيقا لبيان مدى تجاوب الدعوة الربانية مع الفطرة البشرية، ومعرفة قيمة المنهج المتبع، والأسلوب المألوف ... وقد ثبتت سعادة الناس بالدعوة، وخيرية الدعوة للناس أجمعين.
ومن قدر الله تعالى أن الرواة كانوا يتابعون كل شيء في حياة الصحابة اليومية؛ ولذلك نقلوا عن الجميع، وفي كل شئون الحياة، ونشاط الدنيا، فبقيت التجربة بأحداثها، ووقائعها، ونتائجها حية في حركتها، ووضوحها لتؤكد لكل ذي عقل أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه لن تصلح الأمة الإسلامية في أي عصر إلا بما صلح بها أولها.
القسم الثالث: ويتضمن تاريخ الدعوة بعد وفاة رسول الله محمد ﷺ وسوف يبقى مستمرا إلى يوم القيامة.
1 / 19
وتدوين أحداث هذا القسم يقصد به ابتداء بيان تدين الناس، ومعرفة مدى قربهم أو بعدهم عن الله تعالى، وتوضيح حركة الدعوة وانتشار الإسلام، وما يتصل بذلك من أمور.
ويتكون القسم الثالث من مراحل عديدة، حيث تتميز كل مرحلة بمزايا معينة، وتشغل فترة زمنية محددة تبدأ بعصر الخلفاء الراشدين، وتعيش مع الدول التي ظهرت في العالم الإسلامي بعد عصر الخلفاء إلى يومنا هذا.
وعصر الخلفاء يعد امتدادا عمليا للقسم الثاني؛ لقرب أصحابه من رسول الله ﷺ ومعرفتهم بالإسلام الذي تركه الرسول أمانة في أعناقهم، يعيشونه إيمانا وعملا، ويحملونه إلى من وراءهم، ومن بعدهم من الناس.
والاستفادة بأحداث هذا القسم مقصودة كذلك؛ لأن التاريخ كله مراحل متصلة يخدم بعضها بعضا، ويتأثر بعضها ببعض.
ومن مميزات دراسة هذا القسم ما يلي:
أ- في عصور هذا القسم دونت العلوم، وظهرت المذاهب الفقهية، وأصبح الإسلام مدونا في الكتب، مطبقا في الواقع. إن الوقوف على هذه الحقائق يمكن المسلمين في العصر الحاضر من تنقية الإسلام من أي دخيل في الفكر، أو في الأحداث، ويقفون على حقائقه كما نزلت من عند الله تعالى.
ب- لم تبق البشرية على بداوتها الأولى، بل شملها التطور الواسع، ودخلت الفلسفات العقلية في سائر المذاهب والفرق، ووجد لكل أمر -مهما كان باطلا- دعاته وزبانيته، الأمر الذي يضاعف العبء على المسلمين ليتمكنوا من مواجهة عنف الباطل بقوة للحق تعادله، في كافة الجوانب، فكرية، أو عملية، أو سلوكية.
1 / 20
ج- تأكد أهل البغي في الأرض، وما أكثرهم، من خطورة الإسلام على وضعيتهم، وفسادهم؛ ولذلك أخذوا في إعداد العدة لهدمه، والقضاء عليه، ولكن الله غالب على أمره.
يؤكد هذا حملات هولاكو، والتتار، والصليبيين، وحركات الاستشراق، والتبشير، والاستعمار، وعمليات اتخاذ عملاء من بين المسلمين، وتوجيههم نحو القضاء على الإسلام كلية، أو اكتفاء بعزله عن الحياة، ووضع أتباعه في وضع ذليل ومكانة مهينة، وما زالت أحداث هذه المرحلة تتحرك، وتأتي كل يوم بجديد.
إن أحداث هذا القسم لم تحظ بما حظيت به أحداث المرحلتين السابقتين من عناية، ودقة، حيث انقطع نزول الوحي، وأخذ يؤرخ للأحداث عديد من الناس على اختلاف ميولهم، ومذاهبهم واتجاهاتهم.
وأيضا أخذ التدوين طابع الأغراض الشخصية، والثقافة الذاتية، حتى يمكن القول: إن الذي كتب هو لقطات من أحد جوانب التاريخ العام، وإن كان يمكن الاستفادة به في تاريخ الدعوة.
فبعض المؤرخين يكتب عن الولاة، والقادة، ويسجل توليتهم، والبيعة لهم، وأهم حروبهم، وأشهر أعمالهم، ووفاتهم، والعهد لمن بعدهم.
نعم، يحتاج تاريخ الدعوة لمعرفة أخبار الولاة والأمراء، إلا أنه أيضا يحتاج لمعرفة أحداث جوانب أخرى عديدة، كأعمال الحسبة، ونظام الدعوة، وألوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبار العلماء، وقصص العامة والخاصة، وسير حركة الدعوة في نفوس الناس، ورصد المواقف العملية إزاء دين الله تعالى، وإظهار البدع والخرافات السائدة مع بيان أسبابها، وطرق التصدي لها، إلى غير ذلك من المعلومات التي توضح حركة التدين، وتبرز المنهج الأمثل للتوجيه والإرشاد.
ومن المؤرخين من أخذ يتتبع أخبار الجواري، وأحداث القصور، وما يدور حولها من مبالغات تتصل باللهو والغناء ... منهم من يتتبع ذلك حتى يخيل
1 / 21
لقارئه أن حياة الأمة الإسلامية كانت هي هذه الحياة، مع أن الوقائع العملية للمسلمين كانت غير ذلك.
إن حياة المسلمين امتلأت بالعبادة، والجهاد، والدعوة، وقد انتشر الإسلام في العالم كله بواسطتهم، مما يؤكد أن اللهو كان بعض الهنات التي وقع فيها بعض ضعاف الإيمان، وذلك لا يغير الصورة العامة للمجتمع الإسلامي.
ومن المؤرخين من يبرز الجانب القتالي في حياة الأمة الإسلامية، بدون ربطه بروح الجهاد، ومشروعيته في الإسلام، الأمر الذي يوحي -للعامة- أن الإسلام انتشر بالسيف ... مع أن الأمر ليس كذلك.
إن القوة المادية مع الكفر ضلال كبير، تجعل أصحابها يتصورون مقدرتهم على التحكم في كل الماديات، والمعنويات، بل ويظنون قدرتهم على تكوين العقول، وتوجيه كافة شئون الحياة، هكذا شأن الطغيان في كل زمان ومكان!!
إن قوم هود واجهوا هودا بضلالهم هذا، واستمر هو في دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة أساس الإيمان، ولم يتأثر بمعارضتهم، ولم يضعف أمام وعيدهم ﵇.
وللمرء أن يتساءل عن السر في تركيز هود ﵇ على التوحيد والتدليل عليه، ولم يبرز بقية أركان العقيدة كما ركز على التوحيد، وأدلته.
والأمر سهل؛ لأن الدعوة الإلهية تركز على الإيمان بالله، وتقدمه على غيره؛ ولذلك ركز هود ﵇ على دعوة التوحيد لشيوع الشرك والأصنام في الناس.
وأيضا، فإن القوم لو آمنوا بالله وحده، وخصوه بالعبادة دون سواه، فإن بقية الأركان تأتي تبعا، وبصورة تلقائية.
ومع ذلك، فإن هودا ﵇ ذكرهم بالرسالة في قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾، وذكرهم بالآخرة بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وعلى هذا، فالدعوة إلى التوحيد شاملة لكل أركان العقيدة ...
الركيزة الثانية: المترفون هم أعداء الدعوة:
أدى الترف بـ "عاد" إلى الكبر، والاستعلاء، وتصوروا أنفسهم فوق الناس أجمعين، وأبوا أن يكون هود ﵇ رسولا إليهم.
ووصل بهم الضلال إلى السخرية بهود ودعوته، واتهموا عقله وخلقه، وتمسكوا بما هم عليه من كفر، وأخذوا يجادلون في آلهتهم بلا دليل من العقل أو الشرع، معتمدين على قوتهم، وجاههم، وغناهم، وعلى ما لهم بين الناس من تقدير.
إن الذين واجهوا هودا بالرفض، والجدل، هم الملأ، والمراد بهم علية القوم الذين امتلأت خزائنهم بالأموال، وملئوا المجالس حديثا، وريادة، وتوجيها، وملئوا عقول العامة بالضلال والفساد.
إن تشريع الجهاد كان لرد الظلم، وإزالة الطاغوت، ومنع استبداد الجاهلين، وإخافة أعداء الله في الأرض، وذلك من أجل أن يعيش الناس -كل الناس- أحرارا، في تعبدهم، وتفكيرهم، وأعمالهم، وفي مختلف أنشطتهم.
وكل مطلع على تشريع الجهاد، وتطبيقاته الإسلامية، يرى سمو الإسلام، وحرصه على الإنسان، وصيانته لكافة حقوقه بواسطة هذا الجهاد.
إن أبناء البلاد المفتوحة لم يجبروا على اعتناق الإسلام، والجزية لا تمثل لهم إكراها، فهي مبلغ زهيد يؤخذ من مقاتليهم مقابل إعفائهم من الزكاة، والصدقات، والكفارات، التي يؤديها المسلمون، وأيضا في مقابل إعفائهم من كثير من الأعمال الشاقة كالحماية، والحراسة، والدفاع.
وإن أداء الجزية يصون لدافعيها كافة الحقوق كالمسلمين تماما.
إن أبناء البلاد المفتوحة لما رأوا الفاتحين يسيرون على مبادئ الحق والعدل، والإنصاف، وشاهدوا نظام الإسلام يعمل عمله في نشر الأمن، والرفاهية، والمحبة؛ لبوا دعوة الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجا، وحملوا بأنفسهم راية الجهاد
1 / 22
ورحلوا بها إلى الممالك النائية، كالأندلس، وجنوب أوروبا، ووسط إفريقيا، وغربها، وبلاد فارس، وشبه الجزيرة الهندية ... وغيرها.
إن الحقائق تشير إلى أن الإسلام انتشر بمزاياه، وخصائصه، ولم تكن وسيلته إلا الإقناع بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، التي لا بد منها قبل البدء بالقتال.
وهكذا اتخذ المؤرخون مناهج شتى، وعذرهم أن تدوين التاريخ لم يكن محدد المعالم، أو متخصص الاتجاهات، وإنما ترك لاجتهاد صاحبه ليدون ما يرى ويرغب.
وقد اقتضت طبيعة التطور العلمي ظهور علوم التاريخ المتخصصة، بجوار علم التاريخ العام، وكان منها علم تاريخ الدعوة الذي ظهر مع بروز المؤسسات العلمية والعملية للدعوة.
واحتاج هذا التطور إلى إعادة النظر في الأحداث المروية، وبخاصة ما لها صلة بالدعوة لتصديق ما صح منها، ورد ما عداه.
ويجب مع هذا العمل أن يأخذ عالم الدعوة الحذر، حين يقرأ أحداث هذه المرحلة، ويسلك في حذره منهجا علميا يساعده على الحق، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح.
وسبب الحذر وجود دخلاء شوهوا كثيرا من أخبار المسلمين؛ ليفقدوا المسلمين الثقة في ماضيهم، ورجالاتهم.
ومن أمثلة هذا التشويه نقل الخلاف بين علي ومعاوية ﵄ من غير تدقيق في صحة الأخبار، والسكوت عن المؤامرات الخفية التي لعبت دورها في إذكاء نار الفتنة وتوسعة دائرة الخلاف، وإغضاء النظر عن إظهار علة ما ذهب إليه كل واحد من الصحابيين الجليلين.
1 / 23
ومن أمثلة ذلك تصويرهم الحجاج بن يوسف الثقفي سفاحا يحب الدم، وينشر الإرهاب، مع أنه كان يعمل في إطار ما في عنقه من بيعة، لقد اجتهد في هذا الإطار وربما أخطأ، ودراسة كافة الأحداث وملابسات الوقائع ربما تنصفه.
ومن أمثلة هذا التشويه ما رواه المؤرخون عن نكبة البرامكة التي أوقعها الخليفة العباسي هارون الرشيد بهم عام ١٨٧هـ، ويذكرون لها أسبابا لا يخجلون من سذاجتها وتفاهتها، ومع ذلك نراها تنتشر على ألسنة أكثر المؤرخين.
يقولون: إن هارون الرشيد أدمن شرب الخمر مع أخته العباسة، ووزيره الأول جعفر بن يحيى البرمكي، وحتى يجعل اللقاء بين أخته وبين جعفر شرعيا عقد بينهما عقدا صوريا، واشترط على جعفر أن لا يطأها، لكن جعفر نقض شرط هارون، فدخل بالعباسة، وولدت له ولدا، سماه محمدا، أسكنه مكة، ورباه بها، فلما علم الرشيد بذلك غضب غضبا شديدا، ونكب البرامكة نظير ما فعله جعفر١.
وهذه القصة تحمل في طياتها ما يكذبها:
- فكيف يبحث هارون عن مشروعية الجلوس، مع إجازته شرب الخمر، وكلاهما حرام؟
- وكيف يعقل أن يتصور هارون الرشيد عقدا للزواج يفيد الجلوس دون سواه؟ ولم العقد؟!
- وهل يصعب على الخليفة أن يضع أخته تحت رقابة من الجند والخدم، يحفظ له منها ما يريد؟
- وكيف يغيب عن الرشيد أمر المولود، ورحيله، وتربيته في مكة، وهي جزء من الدولة؟
_________
١ البداية والنهاية، ج١٠، ص١٨٩-١٩١ بتصرف.
1 / 24