51

لكن هذا التعاقد الذي تم بين الأفراد على الحكومة التي أقاموها على أمورهم باختيارهم، هو تعاقد تم في بداية نشأة المجتمع، هو «تعاقد ابتدائي» كما يقول لنا أصحاب هذه النظرية، وعلى ذلك فهو أقدم عهدا من أن يظل عالقا بذاكرات أبناء العصر الحاضر؛ ويرى هيوم في هذا الصدد أنه إذا كان المقصود بالتعاقد الاجتماعي ما قد تم بين أعضاء الجماعة الهمجية عند أول التقائهم في مجتمع، فذلك أمر مقبول غير منكور؛ أما وقد طال العهد جدا بمثل ذلك التعاقد الابتدائي، حتى لقد عفى عليه ما قد وقع من تغيرات وحوادث تعد بالألوف، فألوف الحكومات قد تتابعت، وألوف الأمراء قد تناولوا الحكم، فإنه محال أن يكون ذلك العقد الابتدائي ما يزال محتفظا بشيء من قوته؛ ولو أننا أصررنا على أن تدوم للعقد الابتدائي قوته منذ أول نشأة المجتمع حتى يومنا هذا، لكان معنى هذا فرض إرادة الآباء الأولين الأقدمين على أبنائهم وأبناء أبنائهم إلى يوم الدين؛ ذلك فضلا عن أن التاريخ والخبرة كليهما يشهدان ببطلان هذا القول بطلانا تقوم عليه الشواهد في كل عصر وفي كل بلد على طول التاريخ وفي أرجاء العالم أجمع.

إن كافة الحكومات القائمة بيننا اليوم - هكذا يستطرد هيوم في قوله - وكافة الحكومات التي يسجل التاريخ أخبارها من العصور الماضية، توشك أن تكون قائمة كلها إما على أساس الاغتصاب أو على أساس الغزو أو على الأساسين معا، دون أن يكون هنالك أقل علامة تدل على موافقة الرعية المحكومة بإرادتها وبمحض اختيارها على الحكومة القوامة على أمورها؛ فإذا ما وضع رجل ماكر جريء على رأس جيش أو حزب، فكثيرا ما يسهل عليه - بالعنف حينا وبالتضليل حينا - أن يؤسس سلطانه على شعب يفوق في عدده عدد أتباعه مائة مرة، فتراه لا يبيح لأعدائه أن يجتمع بعضهم ببعض حتى لا يدركوا في يقين مدى عددهم أو قوتهم؛ ولا يجيز لهم أن يحشدوا جهودهم ضده؛ وحتى أنصاره الذين ساعدوه على تأسيس سلطانه اغتصابا، قد يتمنون بعد ذلك سقوطه، لكن المباعدة بينهم تحول دون أن يعلم بعضهم نيات بعضهم الآخر، وبذلك يظل السلطان آمنا مطمئنا؛ بمثل هذه الوسائل قويت حكومات كثيرة، وذلك هو «العقد الابتدائي» الذي يفاخر به أنصار النظرية السياسية التي تجعل للأفراد حق اختيار الحاكم وعزله!

إن وجه الأرض لفي تغير دائم لا ينقطع، فممالك صغيرة تكبر حتى تصبح إمبراطوريات عظيمة، وإمبراطوريات عظيمة تنحل إلى ممالك صغيرة، ومستعمرات تقوم هنا وهناك، وقبائل تهاجر، فهل ترى في هذه الحوادث كلها علامة واحدة لشيء غير القوة والعنف؟ أين تجد في هذا كله ما يزعمونه لنا من تعاقد بين الناس يتم بإرادتهم الحرة على الحكومة التي تقوم عليهم وتسيطر على شئونهم؟

لا بل إنه كثيرا ما يحدث للأمم أن تتلقى حكامها عن طرق لا تشرفها، وذلك حين يتولى أمور الأمة حاكم جاءها نتيجة لزواج أو تحقيقا لوصية، ففي مثل هذه الحالات لا تكون الأمة المحكومة في الواقع سوى مهر يدفع لعروس، أو تركة يرثها وارث، ولا يكون ذلك إلا على هوى حكامها دون أن يكون لأبناء الأمة نفسها إرادة ولا شبه إرادة.

ثم افرض أحسن الفروض الممكنة، افرض أن قيام الحاكم قد تم باختيار أبناء الأمة المحكومة، فكيف وقع هذا الاختيار فعلا؟ أليست حقيقة الأمر هنا أن فئة قليلة العدد من أعلام الناس وأعيانهم قد قرروا واختاروا نيابة عن المجموعة كلها؟ أو ربما كانت حقيقة الأمر هي أن جموعا من الشعب قد التهبت غضبا وثورة بفعل زعيم مضلل لا يعرفه حق المعرفة إلا قليلون من المحيطين به، وبذلك لا يكون ارتقاؤه إلا نتيجة وقاحته وجرأته، أو نتيجة نزوة مؤقتة عند أصحابه ... أفتكون لأمثال هذه الانتخابات المضطربة - ومع ذلك فهي نادرة الحدوث - من قوة الأثر بحيث نعدها الأساس الشرعي الوحيد لكل حكومة وكل ولاء؟ ألا ما أبعد المسافة بين الواقع كما يقع وبين الأفكار النظرية التي يحلم بها فلاسفة السياسة!

ويمضي هيوم في قوله على هذا النحو، ثم يقرر أنه لا يريد أن يحذف موافقة الرعية فلا يجعلها أساسا عادلا بين غيرها من الأسس التي يمكن للحكومة أن تقوم عليها؛ بل كل ما يدعيه هو أن مثل هذه الموافقة الشعبية على الحكومة القائمة قلما يحدث فعلا ولو إلى درجة محدودة، ويستحيل أن يحدث بأكمل معانيه وإلى أبعد حدوده، وإذن فلا مندوحة لنا عن الاعتراف بأسس أخرى غير هذا الأساس، تقوم عليه الحكومة.

إنه لو كان الناس جميعا مهيئون بطبعهم أن يعامل بعضهم بعضا بالعدل والإنصاف فلا يجحف أحد منهم بأحد ولا يسطو أحد على ملك أحد، لظلوا إلى الأبد متمتعين بحرية مطلقة لا يخضعون لحاكم ولا ينخرطون في سلك جماعة سياسية؛ لكن هذه درجة من الكمال لم تتهيأ لها طبيعة البشر؛ وكذلك لو كان الناس يتمتعون بقدرة عقلية تمكنهم من إدراك مصالحهم، لامتنع قيام حكومة فيهم إلا ما أرادوا لأنفسهم بمحض اختيارهم، لكن هذه أيضا درجة من الكمال تقصر دونها طبيعة البشر؟ وهكذا ترى العقل والتاريخ والخبرة كلها دالة على أن اختيار الناس لم يكن هو الأساس في قيام حكوماتهم؛ ولو استعرضت مراحل التاريخ في أمة من الأمم لتتبين متى كان اختيار الناس في أقل درجاته وأضيق حدوده، وجدت أنه يكون كذلك عند قيام الحكومات الجديدة إثر الثورات والحروب وما إليها؛ فبدل أن يكون اختيار الناس واضحا عند قيام حكومة جديدة في فاتحة عهد جديد، كما يدعي أنصار العقد الاجتماعي، ترى هذا الاختيار في أدنى درجاته عند تلك اللحظات التاريخية ذاتها، حتى إذا ما استقرت الأمور للعهد الجديد وللحكومة الجديدة، فعندئذ قد يقوم في الناس دستور ينظم استشارة الناس فيما يريدون لأنفسهم؛ وأما إبان الثورات والغزوات والانقلابات فالكلمة تكون للقوة العسكرية أو للدهاء السياسي، بحيث لا يكون للناس في أمرهم خيار.

إنه إذا ما قامت حكومة جديدة بوسيلة من الوسائل كائنة ما كانت، فالأرجح ألا يرضى الناس عنها ؛ فتراهم يطيعونها عن خوف وضرورة أكثر مما يطيعونها عن عقيدة في الولاء أو عن شعور بالإلزام الخلقي؛ وهنا ترى الحاكم الجديد على حذر يتخذ الوسائل التي تمنع قيام الغاضبين في ثورة على حكومته، ولكن الزمن يمضي فيزيل شيئا فشيئا كل ما قد كان قائما في وجهه من عقبات، ويعود الأمة على اعتبار الحاكم الجديد وأسرته حكاما شرعيين، مع أنهم هم أنفسهم الذين كانوا أول الأمر غزاة أو مغتصبين؛ وهكذا ترى أن ليس في الأمر اختيار ولا تعاقد ولا عهد ولا وعد، بين حاكم ومحكوم، بل يبدأ الأمر بفعل القوة وينتهي بالإذعان بحكم الضرورة والعادة، وحين يصبح لحاكم حق شرعي في ملكه، فلا يكون ذلك أبدا نتيجة اختيار الناس له أو تعاقدهم معه، بل يكون نتيجة لطول عهد ذلك الحاكم بملكه مما يكسبه حقا شرعيا فيه.

وقد يقال إن كل فرد من أفراد الشعب هو في حكم من أبدى رأيه بالموافقة على قيام الحكومة القائمة؛ لأنه لو كان معارضا ورافضا لترك البلاد إلى غيرها، لكن هذا القول لا يعني شيئا ما لم يكن للفرد قدرة فعلية على ترك البلاد إذا أراد، أما إذا كان بحكم الظروف عاجزا عن ذلك، فلا محل إذن للقول بأنه يستطيع مغادرة البلاد إذا لم يكن راضيا عن الحكومة القائمة؛ وهل يستطيع أحد أن يزعم جادا بأن الفلاح الفقير أو الصانع حر الاختيار في ترك بلاده إذا شاء، مع أنه لا يعرف لغة غير لغته ولا لونا من العيش إلا اللون الذي ألفه ونشأ عليه، ومع أنه كذلك يعيش على رزق يوم بعد يوم؟ إن من يدعي ذلك هو بمثابة من يقول لرجل حمل إلى سفينة حين كان غارقا في نعاسه، ثم أقلعت به السفينة إلى عرض البحر، وقيل له بعد ذلك إنه إذا لم يكن راضيا بحكم الربان، فله - إذا شاء - أن يترك السفينة، مع أنه لا يستطيع تركها إلا إذا وثب في البحر وهلك لساعته.

وماذا لو أراد فرد من الناس أن يغادر البلاد فرفض الحاكم؟ وهل يخطئ الحاكم إذا ما وجد الناس نازحة عن بلاده زرافات أن يحول دون ذلك حتى لا يحل الخراب بالبلاد؟ كلا، إن ذلك يكون منه سدادا وحكمة، ولكنه مع ذلك قيد على حرية الأفراد.

صفحه نامشخص