89

درجات سیت

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

ژانرها

بفضل باحثين مثل نيشيجوشي وبوديه، أصبح لدينا سجل معقول للأحداث التي أدت إلى أزمة آيسين، والتي تلتها، ومن ثم عرفنا بصورة ما كيف حلت هذه الأزمة، وما الذي اتسمت به شركات مجموعة تويوتا كي تتمكن من حلها، لكن مثلما لم تتمكن سلسلة الأعطال وحدها التي أصابت شبكة نقل الطاقة من توضيح السبب وراء سرعة تأثر النظام بمثل هذه السلسلة في المقام الأول، أو عدم كشف السرد التاريخي لإحدى الصيحات الثقافية عن سبب تفضيل مجموعة كاملة من الأفراد لشيء عن آخر فجأة، لا يمكن لهذا السجل أيضا أن يخبرنا بما مكن النظام من النجاة من مثل هذه الصدمة الهائلة.

وكما هو الحال في مثال شبكة الطاقة، كان لعطل مكون واحد في نظام ضخم أصداء عامة أدت إلى عطل كارثي واسع الانتشار، لكن حالة آيسين تختلف في أن النظام استعاد عافيته فيما بعد بالسرعة نفسها تقريبا التي انهار بها، وبقدر ضئيل من التحكم المركزي. يبدو ذلك كما لو أن شبكة الطاقة، بعد تعرضها للعطل المتسلسل ذاته الذي أدى إلى تهاويها في أغسطس 1996، قد وقفت على قدميها من جديد في غضون ساعات قليلة، في حين ظل المراقبون في حالة ذهول بشأن ما يحدث. ليست الأنظمة «ذاتية المعالجة» سوى أمل بعيد في عيني أي مهندس، لكن في عالم المؤسسات يبدو أنها موجودة بالفعل. ما الذي يمكننا تعلمه إذن من أزمة آيسين ويمكن أن يساعدنا على فهم تصميم النظم القادرة على التعافي حتى من الأعطال التي ربما تكون مدمرة؟ على نحو أشمل، ما الذي يمكن لمجموعة تويوتا أن تعلمنا إياه بشأن بنية المؤسسات الصناعية الحديثة؟ وبعبارة أخرى، كيف يرتبط أداء الشركات - أي قدرتها على تخصيص الموارد والابتكار والتكيف وحل المشكلات، سواء الاعتيادية أو الجوهرية - ببنيتها التنظيمية؟ (2) الأسواق والهياكل الهرمية

تعد المؤسسات الصناعية، في الواقع، موضوعا قديما للغاية؛ إذ نمت هذه المؤسسات من رحم الحراك الاقتصادي والاجتماعي الشديد الناتج عن الثورة الصناعية. وفي الواقع، كان موضوع المؤسسات الصناعية هو ما افتتح به آدم سميث كتابه المتميز «ثروة الأمم». يناقش سميث بالتحديد «تقسيم العمل»، وهو المبدأ الذي استدل عليه في الأصل من ملاحظاته للعمال في المنشآت الصناعية، الذين اتسم أداؤهم دائما بالتحسن عند تقسيم المهمة الجماعية المنوطة بهم إلى مهام فرعية متخصصة، وكان النموذج الذي استخدمه لشرح هذا المبدأ، من بين كل المنتجات الأخرى، هو إنتاج المسامير؛ فمع أن صناعة المسمار تبدو أمرا تافها، فهي تنطوي على ما يزيد عن عشرين خطوة مستقلة، مثل سحب الأسلاك وشحذ الأطراف وطرق الرءوس وقطع السلك ... إلخ. عند وضع سميث لكتابه في أواخر القرن الثامن عشر، لم يكن بإمكان الحرفي الماهر نفسه، عند العمل وحده، سوى صنع حفنة فقط من المسامير يوميا، لكن سميث لاحظ أنه عند تقسيم العمل على فريق مكون من عشرة أفراد، كل منهم يؤدي خطوة أو خطوتين، ويستخدم أدوات متخصصة، كان بالإمكان إنتاج آلاف أضعاف هذه الكمية.

تعد فكرة أنه يمكن لفرق من العاملين أداء خطوات متخصصة لمهمة معقدة وإنتاج أضعاف ما ينتجه العدد نفسه من العاملين عند أداء كل منهم المهمة بالكامل، نتيجة أساسية للتعلم البشري في واقع الأمر. تنص قاعدة عامة، تعرف باسم «التعلم بالممارسة»، على أنه كلما تكرر فعلنا لشيء ما أجدناه، وإذا قل عدد المهام المنوطة بنا، ومن ثم صار بإمكاننا أداء كل منها أكثر من مرة، فستكون النتيجة أنه عند أدائنا خطوة واحدة فحسب من عملية الإنتاج، سنؤديها على نحو أكثر إتقانا مما إذا تحتم علينا أداء جميع الخطوات الأخرى أيضا، وتسمى الفائدة التي يجنيها كل عامل من تعلم أداء مهمة واحدة بكفاءة «عوائد التخصص». ومن خلال توزيع مكونات عملية معقدة على العديد من الأفراد المختلفين، الذين يعملون بالتوازي، تسخر عملية تقسيم العمل عوائد التخصص مرارا وتكرارا.

ومن ثم، من منظور تقسيم العمل، كلما زادت وظيفة المرء تخصصا، كان ذلك أفضل. على سبيل المثال، عند صناعة سيارة، ستتوافق المهام الفرعية الواضحة مع المكونات الرئيسية للمركبة؛ البدن والمحرك وناقل الحركة والهيكل الداخلي، لكن كل مكون من هذه المكونات يمثل مهمة معقدة في حد ذاته، ومن ثم يتطلب مزيدا من درجات التخصص. على سبيل المثال، يمكن تقسيم المحرك إلى جسم المحرك ومصدر الوقود ونظام التبريد ونظام الكهرباء، وهي العناصر التي قد يتطلب كل منها مزيدا من التقسيم، وهكذا، حتى «تتجزأ» المهمة المعقدة الكاملة إلى مجموعة من الخطوات الأساسية، ونظرا لأن كلا من هذه الخطوات ينتج عنها عوائد التخصص، فالمكاسب الكلية في الكفاءة ستكون هائلة.

كانت عوائد التخصص التي رصدها سميث عميقة للغاية؛ فقال إن تقسيم العمل هو إحدى السمات الفارقة الأساسية للمجتمعات المتحضرة؛ ففي المجتمعات التي تفتقر للعمل المتخصص، يتحتم على كل أسرة توفير جميع حاجاتها، بما في ذلك المأكل والملبس والمسكن وكافة المصنوعات المستخدمة في الحياة اليومية. في مثل هذا العالم يكون البقاء الشغل الشاغل للبشر، ويكون كل جيل مرغما على البدء من النقطة نفسها بالضبط التي بدأ عندها السابقون. ولا يكون من الممكن ظهور المدارس أو الحكومات أو الجيوش المتخصصة أو التصنيع أو الإنشاء أو النقل أو الصناعات الخدمية. لكن ومع جوهرية تقسيم العمل للمؤسسات الصناعية من وجهة نظر سميث، فإنه لم يحدد فعليا قط الآلية التي يجب تجميع المهام الفرعية بها لتصبح كيانا كاملا معقدا. في كتاب «ثروة الأمم» تجنب سميث هذا الموضوع، قائلا فقط إن الحد الذي يمكن أن يصل إليه التخصص يعتمد على «حدود السوق»، وقد عنى بهذه العبارة أنه كلما زاد عدد المستهلكين المحتملين، زادت كمية الموارد التي يمكن للشركة تحمل تكاليفها للاستثمار في بناء منشآت الإنتاج، وتصميم الماكينات المتخصصة وتشييدها، وتوظيف العاملين، ومن ثم تستفيد من اقتصاديات الحجم الكبير، لكن هذا الوصف لا يحدد لماذا يجب أن تكون الكيانات الرسمية التي تدعى «الشركات» هي المسئولة عن الإنتاج، لا المقاولين المستقلين أو العاملين المؤقتين أو المستشارين مثلا.

أيضا لا يقتضي تقسيم العمل ضمنا بالضرورة أن الشركات، عند وجودها بالفعل، يجب أن تشبه هياكل السلطة الهرمية التي تشكل الصورة التي في مخيلتنا عن التصنيع في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفكرة أن المهام يمكن إنجازها على نحو أكثر كفاءة من خلال تقسيمها، بشكل هرمي، إلى مكونات فرعية أكثر تخصصا، لا تقتضي ضمنا «وحدها» حتمية تنظيم الشركات بالطريقة نفسها. مع ذلك، ونظرا لأن الكثير من الشركات بعد الثورة الصناعية كانت منظمة بالفعل بهذه الطريقة، فقد أجمعت النظريات الاقتصادية على مدار أغلب القرن الماضي على أن الصورة المثالية للمؤسسة الصناعية، ومن ثم البنية الداخلية لأي شركة تجارية، هي التسلسل الهرمي.

اختصارا لقصة طويلة (للغاية)، أجمعت أكثر النظريات الاقتصادية المتعلقة بالمؤسسات الصناعية والمتفق عليها عموما على تقسيم العالم إلى هياكل هرمية وأسواق. تنص هذه النظريات على أن الشركات تظهر للوجود؛ لأن الأسواق على أرض الواقع تعاني مجموعة من العيوب التي يطلق عليها عالم الاقتصاد الحاصل على جائزة نوبل، رونالد كواس، «تكاليف المعاملات». فإذا تمكن كل شخص من اكتشاف عقود قائمة على الأسواق وإبرامها وتنفيذها مع الآخرين كافة (أي إذا تمكنا جميعا من أن نكون مقاولين مستقلين مثلا)، فإن المرونة الهائلة التي تتمتع بها قوى السوق ستلغي فعليا الحاجة إلى الشركات تماما، لكن في العالم الواقعي، وحسبما شهدنا في عدد من السياقات، يعد اكتشاف المعلومات أمرا مكلفا ومعالجتها أمرا صعبا، بالإضافة إلى ذلك، يكون الاتفاق بين أي طرفين - وإن بدا فكرة جيدة في وقت ما - عرضة للشك بشأن الظروف المستقبلية والاحتمالات غير المتوقعة، وإذا أبرم عقد بين طرفين ثم بدا في وقت ما لأحد هذين الطرفين فجأة أنه فكرة سيئة، فقد يقرر هذا الطرف نقض الاتفاق، مما يتسبب على الأرجح في خسارة للطرف الآخر. وتنفيذ العقود أمر صعب ومكلف في عالم يمكن فيه للغموض والظروف غير المتوقعة أن تطغى على أكثر النوايا وضوحا.

لذا كانت الفكرة الرئيسية التي دعا إليها كواس هي أن الشركات تظهر للوجود من أجل إزالة كافة التكاليف المرتبطة بمعاملات السوق، وذلك من خلال استبدال عقد توظيف واحد بها. بعبارة أخرى، داخل الشركات، تتوقف الأسواق عن العمل، ويتم التنسيق بين مهارات موظفيها ومواردهم ووقتهم من خلال هيكل سلطة صارم. ومع أن كواس نفسه لم يحدد مطلقا ما يجب أن يبدو عليه هذا النوع من هياكل السلطة، فقد أجمعت النظريات الاقتصادية اللاحقة على أنها يجب أن تكون هياكل هرمية. في الوقت نفسه تستمر الأسواق في العمل بين الشركات، حيث يكون الحد بين الشركة والسوق هو الموازنة بين «تكلفة تنسيق» تنفيذ وظيفة محددة داخل الشركة وتكلفة عملية إبرام عقد خارجي، وإذا صارت العلاقة بين شركتين متخصصة يوما ما لدرجة سمحت لإحداهما بالتلاعب بالأخرى، فمن المفترض أن تحل المشكلة عن طريق الاندماج أو الاستحواذ، ومن ثم تنمو الشركات عن طريق عملية «الدمج الرأسي»؛ إذ يذوب أحد الهياكل الهرمية فعليا في هيكل آخر، مما يؤدي إلى تكون هيكل هرمي أكبر «متكامل رأسيا». وعلى العكس من ذلك، عندما تقرر شركة ما أن إحدى المهام الداخلية بها مكلفة للغاية، فإما أن تفصل هذا الفرع من التسلسل الهرمي لتنشئ فرعا متخصصا، أو تزيله تماما عن طريق العهد بالمهمة لشركة أخرى، وفي جميع الأحوال تظل الشركات في صورة هياكل هرمية (لا يتغير سوى حجمها وعددها)، وتستمر الأسواق في العمل بين الشركات.

إنها نظرية أنيقة حقا، وتحمل من المعقولية ما جعلها تسود الفكر الاقتصادي بشأن الشركات لما يزيد عن نصف قرن، لكن في عام 1984 دق كتاب ثوري وضعه اثنان من أساتذة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - أحدهما عالم اقتصاد والآخر عالم سياسي - نواقيس الخطر الأولى لما أصبح صراعا متزايد التعقيد حول الطبيعة الفعلية للمؤسسة الصناعية ومستقبل النمو الاقتصادي. حمل ذلك الكتاب عنوان «التقسيم الصناعي الثاني»، وكان العالم السياسي الذي شارك في تأليفه يدعى تشارلز فريدريك سابيل، وهو نفسه تشاك سابيل الذي بادرني بالحديث في معهد سانتا في بعد خمسة عشر عاما. (3) التقسيمات الصناعية

صفحه نامشخص