74

درجات سیت

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

ژانرها

يمكنك أن ترى إلى أين يتجه هذا الأمر؛ ففي النهاية، تتعرض الأرض «المشاع» لإفراط في الرعي إلى الحد الذي تصبح فيه غير قادرة بعد ذلك على تحمل رعاية أي حيوانات على الإطلاق، وتنهار سبل عيش الجميع. لو كان أهل القرية قد نهجوا نهجا معتدلا، ما كانت لتحدث مشكلة على الإطلاق، ولتمكنت الأرض من الحفاظ على مواردها، وظل لدى الناس ما يكفي للعيش عليه بشكل دائم، لكن إن افترضنا أن قرية ما في مكان ما تمكنت من تحقيق هذا التوازن المثالي بالصدفة، فسيفتقر إلى الاستقرار بطبيعته. عندما يكون الجميع سعداء بفعل الصواب، يكون لدى كل قروي تدفعه المصلحة الذاتية (وجميعهم كذلك) دائما حافز لإضافة حيوان آخر إلى قطيعه، وما من أحد سيمنعه أو يتذمر، لن يكلفه الأمر شيئا، بل سيزداد ثراء ويصبح أكثر قدرة على إطعام أسرته. ستظل الأرض «المشاع» كما هي، ولن يلاحظ أحد رأسا زائدا من الغنم في المرعى، فلم لا؟

لم لا بالفعل؟ وهذه هي المأساة، بمفهوم شكسبير للهلاك المحتوم. لا يفعل أحد أي شيء جنوني، ومما لا شك فيه أنه بالنظر إلى ما يعرفه أي شخص عن العالم، سيكون من الحماقة (أو على الأقل عدم العقلانية) فعل أي شيء مختلف، وبصرف النظر عن الكارثة المحدقة، يستمر الأفراد في السير بخطى حثيثة نحو الهلاك، تدفعهم مصلحتهم الشخصية بلا هوادة إلى مصيرهم الجماعي المشئوم. تقدم نظرية هاردن - كما هو واضح من اسمها - نظرة قاسية للعالم، لكنها نظرة يصعب تجاهلها أيضا؛ إذ إنها تذكر بالعديد من المآسي الحقيقية في العالم؛ كالحروب طويلة الأمد التي لا مبرر لها، والرسوم الجمركية الأبدية البغيضة، وتآكل البيئات التي لا بديل لها. ومع أننا نرغب في تجنب هذه الأمور إن تمكنا، فالحقيقة المحزنة هي أنها نتاج ما تصنعه أيدينا بإرادتنا. تعبر مأساة المشاع، كمعضلة تناول العشاء، عن المعضلة الحتمية التي يعيشها الأفراد الذين تدفعهم مصالحهم الشخصية من الداخل والقادرين على التحكم في قراراتهم، لكن يتعين عليهم أن يتعايشوا أيضا مع نتائج قرارات الآخرين. (4) سلاسل المعلومات

لكن ليس من الحتمي أن تنتهي كل معضلة نهاية حزينة؛ فمثلما يمكن أن تحقق الصيحات الثقافية الحديثة نجاحا في مجتمع من الأفراد غير المكترثين عادة، يمكن أن تتغير المؤسسات والأعراف الاجتماعية أيضا بين عشية وضحاها في بعض الأحيان، ومع أن إعادة تدوير المواد المنزلية، بدءا من الزجاجات البلاستيكية ووصولا للجرائد، تبدو أمرا مألوفا حاليا، فإنها ظاهرة حديثة نسبيا؛ فعلى مدار أقل من جيل واحد، غير العالم الصناعي الغربي أنماط سلوكه اليومية استجابة لتهديد بيئي بعيد كان يعتقد في السابق أنه لا يهم سوى مجموعة صغيرة من غريبي الأطوار المهووسين بالطبيعة. كيف تحولت عملية إعادة التدوير من شيء هامشي للمجتمع إلى شيء راسخ في توقعاتنا عن أنفسنا، شيء لم نعد نتشكك في جدواه مع أنه لا يزال يصيبنا بعدم الراحة؟

ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن التغيير في العادات غير مكلف نسبيا، ومن ثم فإن إعادة تدوير بضع علب معدنية بين الحين والآخر لا يسبب قدرا كبيرا من الإزعاج، لكن التغير الاجتماعي المفاجئ يمكن أن يحدث، حتى إن كانت المخاطر الفردية التي ينطوي عليها أعلى بكثير، مثل تظاهر مواطني لايبزيج على مدار ثلاثة عشر أسبوعا مثيرا في عام 1989، عندما نزلوا إلى الشوارع كل اثنين من كل أسبوع - بالآلاف في البداية، ثم بعشرات الآلاف، ثم بمئات الآلاف - للاحتجاج على ما يتعرضون له من ظلم في ظل الحكم الشيوعي لما كان يعرف آنذاك بألمانيا الشرقية. ومع أن الناس لا تذكر الكثير عن مسيرات لايبزيج الآن، فيمكن وصفها بنقطة تحول حقيقية في التاريخ؛ فلم تنجح فحسب في إسقاط الحزب الاشتراكي في ألمانيا الشرقية، لكنها أدت كذلك إلى سقوط سور برلين بعد ثلاثة أسابيع فقط، وإعادة توحيد ألمانيا في النهاية. أثبت متظاهرو لايبزيج، إلى جانب الكثير من الثوار الذين يظهرون كل يوم، أن السلوك التعاوني الإيثاري يمكن أن يظهر عفويا بين الأشخاص العاديين، حتى لو كانت التكاليف المحتملة - السجن أو الإيذاء الجسدي أو ربما الموت - تفوق التوقعات. في الواقع، بنهاية عام 1989، اشتهرت لايبزيج في جميع أرجاء ألمانيا الشرقية باسم «مدينة الأبطال».

كيف يمكن إذن لأعتى النظم المفروضة عنوة، التي تشكل أقسى المعضلات، أن تنهار فجأة؟ وحتى لو كان أكثر الأوضاع الراهنة ثباتا يمكن أن ينهار على نحو غير متوقع على الإطلاق، فكيف تمكن من الاستمرار بجميع الأوقات الأخرى في وجه الصدمات وصور الإزعاج والاضطرابات المستمرة التي قد تكون حاسمة مثل تلك التي أدت إلى انهياره؟ لقد أبهرني، شأني شأن الكثير من الباحثين قبلي، أصل مفهوم التعاون والظروف السابقة عليه كمشكلة في حد ذاتها، لكن ما تكشف لي ببطء هو أن كل هذه المشكلات التي كنت أقرأ عنها، بدءا من الصيحات الثقافية والفقاعات المالية وصولا إلى الظهور المفاجئ للتعاون، كانت صورا مختلفة للمشكلة ذاتها.

تعرف هذه المشكلة في لغة الاقتصاد الجافة باسم «سلسلة المعلومات»، في هذه السلسلة، يتوقف الأفراد في مجموعة ما عن التصرف بشكل فردي، ويبدءون في التصرف على نحو يشبه المجموعة المتماسكة. في بعض الأحيان، تحدث سلاسل المعلومات سريعا؛ مثلا نشأت فكرة مسيرات لايبزيج وتفجرت في غضون أسابيع؛ وفي أحيان أخرى تحدث ببطء؛ على سبيل المثال، يمكن أن تتطلب الأعراف الاجتماعية الجديدة، كالمساواة العرقية وحق التصويت للنساء وتقبل المثلية الجنسية أجيالا لتصبح عالمية، لكن ما تشترك فيه كل سلاسل المعلومات هو أنه ما إن تبدأ إحداها حتى تصبح دائمة للأبد؛ بمعنى أنها تجذب أتباعا جددا غالبا بفضل اجتذابها لغيرهم من قبل، ومن ثم يمكن للصدمة الأولى أن تنتشر في نظام ضخم، حتى لو كانت الصدمة نفسها صغيرة.

نظرا لأن سلاسل المعلومات كثيرا ما تكون مذهلة أو ذات طبيعة متميزة، فعادة ما تؤدي إلى أحداث تستحق أن تتصدر العناوين الرئيسية في الأخبار، مع أن ذلك قد يبدو مفهوما تماما، فإن هذه النزعة تخفي حقيقة أن السلاسل يندر حدوثها فعليا، لقد كان لدى الناس في ألمانيا الشرقية الكثير بالتأكيد من الأسباب ليسخطوا على حكامهم، لكنهم ظلوا على هذه الحال مدة ثلاثين عاما، ولم تحدث أي انتفاضة ملحوظة سوى مرة واحدة من قبل (في عام 1953). في مقابل كل يوم يدمر فيه جمهور فريق كرة قدم استادا ما أو تقضي سوق للأوراق المالية على نفسها، هناك آلاف الأيام الأخرى التي لا يحدث فيها ذلك، وفي مقابل كل فيلم شهير، كهاري بوتر أو بلير ويتش بروجكت، يظهر من حيث لا ندري ليأسر ألباب الناس، هناك آلاف الكتب والأفلام والمؤلفين والممثلين الذين يعيشون حياتهم بالكامل بعيدا عن أضواء الثقافة الشعبية الحديثة؛ لذا، إذا كنا نرغب في فهم سلاسل المعلومات، فعلينا أن نفسر ليس فقط كيف يمكن للصدمات الصغيرة أن تغير نظما بالكامل في بعض الأحيان، بل أيضا كيف لا تفعل ذلك في أغلب الوقت.

من المهم أن نعي أنه من الناحية الظاهرية، تبدو الصور المتنوعة لسلاسل المعلومات - الصيحات الثقافية والفقاعات المالية والثورات السياسية - مختلفة تماما، وللوصول إلى نقاط التشابه الأساسية، يجب استبعاد تفاصيل الظروف وشق طريقنا بين غياهب اللغات غير المتوافقة والمفردات المتعارضة، والتقنيات الغامضة عادة، لكن ثمة خيطا مشتركا بالفعل؛ فبعد أن أنعمت النظر في كل مشكلة، واحدة تلو الأخرى، لعدة أشهر، بدأ إطارها العام المبهم يتكون في عقلي كما لو كانت لوحة للفنان تشاك كلوز تتضح تدريجيا من بين النقاط كلما ابتعد المرء عن الحائط المعلقة عليه، لكنها كانت صورة محيرة، وتطلبت جمع الأفكار من الاقتصاد ونظرية الألعاب، بل من علم النفس التجريبي أيضا. (5) مؤثرات المعلومات الخارجية

في خمسينيات القرن العشرين أجرى عالم النفس الاجتماعي سولومون آش، الذي تتلمذ على يده ستانلي ميلجرام، سلسلة رائعة من التجارب؛ فبعد وضع مجموعات يتكون كل منها من ثمانية أفراد في إحدى الغرف الشبيهة بدار سينما صغيرة، عرض معاونو آش على هؤلاء الأفراد سلسلة مكونة من اثنتي عشرة شريحة تعرض قطاعات خطية عمودية ذات أطوال مختلفة تشبه كثيرا الصورة الموضحة بالشكل

7-1 ، وعند عرض كل شريحة، كان القائمون على التجربة يطرحون سؤالا بسيطا يفترض أن يجيب عنه الخاضعون للتجربة، من قبيل: «أي من الخطوط الثلاثة الموجودة على اليمين أقرب في الطول من الخط الموجود على اليسار؟» صممت الأسئلة بحيث تكون الإجابة عنها واضحة (في الشكل

صفحه نامشخص