درجات سیت
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
ژانرها
بدأ دوري في هذه القصة - بالصدفة كما هو الحال في الكثير من القصص - في بلدة صغيرة شمال مدينة نيويورك اسمها إيثاكا. أعتقد أن مكانا مسمى تيمنا بالموطن الأسطوري لأوديسيوس يعد مكانا جيدا لبدء أي قصة، لكن في تلك الأثناء كان أوديسيوس الوحيد الذي أعرفه هو صرصور ليل صغير أجري عليه تجربة مع أخويه بروميثيوس وهرقل عندما كنت طالبا بالدراسات العليا بجامعة كورنيل مع مرشدي، ستيفن ستروجاتس. كان ستيف عالم رياضيات، لكن في مرحلة مبكرة من مسيرته المهنية صار مهتما بتطبيقات الرياضيات على مشكلات علمي الأحياء والفيزياء، بل على علم الاجتماع أيضا، أكثر من اهتمامه بتطبيقها في الحسابات الرياضية نفسها، حتى أثناء دراسته في جامعة برنستون في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لم يمنع نفسه من إقحام الرياضيات في دراساته الأخرى. ولأن ستيف كان مطالبا بدراسة علم الاجتماع، فقد أقنع معلمه أنه يجب السماح له بإقامة مشروع في الرياضيات بدلا من كتابة بحث للنجاح في الفصل الدراسي، ووافق المعلم، لكنه ظل حائرا قليلا، فما نوع الرياضيات التي يمكن استخدامها في مادة علم الاجتماع التمهيدي؟ اختار ستيف دراسة العلاقات الرومانسية، وصاغ مجموعة بسيطة من المعادلات التي تصف التفاعل بين عاشقين، هما روميو وجولييت، وحل هذه المعادلات. وعلى الرغم من غرابة الأمر، بعد خمسة عشر عاما في أحد المؤتمرات في ميلان، بادرني بالتحية عالم إيطالي كانت الحماسة تملؤه بشأن عمل ستيف، وكان يحاول تطبيقه على حبكات درامية لأفلام رومانسية إيطالية.
واصل ستيف مسيرته ليفوز بمنحة دراسية في جامعة مارشال، وخضع لامتحان تريبوس المهيب في الرياضيات بجامعة كامبريدج، الذي خلده جي إتش هاردي العظيم في مذكرته «اعتذار عالم رياضيات». لم يرق له الأمر كثيرا، وسرعان ما وجد نفسه يتوق إلى موطنه، وإلى مشكلة بحثية يغرق فيها حتى أذنيه، ولحسن الحظ، التقى بعالم الأحياء الرياضي آرثر وينفري الذي كانت له الريادة في دراسة «المذبذبات» البيولوجية، وهي كيانات ذات إيقاع منظوم كالخلايا العصبية التي تومض في المخ، والخلايا الناظمة القلبية التي تنبض في القلب، وحشرات سراج الليل التي تومض بين الأشجار. ساعد وينفري (الذي كان بالصدفة طالبا بجامعة كورنيل) ستيف على استهلال حياته المهنية من خلال التعاون معه في مشروع لتحليل بنية الموجات الحلزونية في القلب البشري. والموجات الحلزونية هي موجات الكهرباء التي تبدأ في الخلايا الناظمة القلبية وتنتشر بعد ذلك بجميع أنحاء عضلة القلب لتستحث نبضه وتنظمه، ومن المهم فهمها، لأنها في بعض الأحيان تتوقف أو تفقد ترابطها، وهو الحدث الذي قد يكون قاتلا، ويعرف باسم اضطراب النظم. لم يفعل أحد أكثر مما فعله آرثر وينفري لفهم ديناميكيات القلب، وعلى الرغم من ابتعاد ستيف سريعا عن ذلك المشروع تحديدا، فقد ظل مفتونا بالمذبذبات والدورات، خاصة في النظم البيولوجية.
أجرى ستروجاتس في رسالة الدكتوراه بجامعة هارفارد تحليلا مفصلا (ومضنيا!) للبيانات المتعلقة بدورة النوم والاستيقاظ لدى البشر، محاولا فك شفرة الإيقاعات اليومية التي تؤدي إلى الشعور بالإعياء الناجم عن الفرق الزمني عند السفر عبر المناطق الزمنية، إلى جانب أمور أخرى. لم يحالفه النجاح قط، ودفعته التجربة إلى التفكير في دوائر بيولوجية أبسط وأكثر اتصالا بالرياضيات، وهنا بدأ العمل مع رينيه ميرولو، وهو عالم رياضيات بجامعة بوسطن. كتب ستروجاتس وميرولو، اللذان ألهمتهما أبحاث الفيزيائي الياباني يوشيكو كوراموتو (الذي صار آرثر وينفري نفسه هو ملهمه الأساسي)، عددا من الأبحاث المؤثرة عن الخصائص الرياضية لفئة بسيطة للغاية من المذبذبات تعرف باسم يناسبها تماما، هو «مذبذبات كوراموتو». تتمثل المعضلة الأساسية التي كانا يهتمان بها، وغيرهما كثيرون، في المزامنة: ما الظروف التي تبدأ في ظلها المذبذبات في الحركة على نحو متزامن؟ يتعلق هذا السؤال بالأساس - شأن كثير من أسئلة هذه القصة - بظهور سلوك عام من التفاعلات بين الكثير من الأفراد. تعد مزامنة المذبذبات صورة شديدة البساطة والوضوح لظهور السلوك الجمعي من سلوك الأفراد، ومن ثم فهي جزء من موضوع غامض بوجه عام فهم جيدا إلى حد ما.
تخيل مجموعة من العدائين يطوفون حول مضمار دائري (الشكل
1-1 ). بصرف النظر عن الظروف؛ أي سواء أكانوا مجموعة من العدائين يركضون حول مضمار محلي ظهيرة أحد أيام الآحاد، أم لاعبين رياضيين يتنافسون في نهائيات الألعاب الأوليمبية، فمن المرجح أن يختلف أفراد هذه المجموعة في مقدرتهم الطبيعية. معنى ذلك أنهم إذا كانوا يركضون كل بمفرده، فسوف يقطع بعضهم الدورة حول المضمار أسرع بكثير من المتوسط، في حين يقطعها آخرون أبطأ من المتوسط. ومن ثم، يمكنك أن تتوقع أن الفروق الطبيعية بينهم ستجعلهم ينتشرون بانتظام حول المضمار، مع تجاوز السريعين للغاية من يتسمون بالبطء الشديد بين الحين والآخر. لكننا نعلم من واقع الخبرة أن الحال ليست كذلك دائما، فيكون الأمر كذلك عندما لا ينتبه العداءون بعضهم لبعض، ومن ثم من المحتمل أن يظل العداءون، الذين يركضون حول مضمار محلي ظهيرة أحد أيام الآحاد، منتشرين حول المضمار إلى حد بعيد، كما هو الحال في الشكل الأيسر. لكن في إطار الألعاب الأوليمبية، حين يكون لدى كل عداء حافز كبير للبقاء على مسافة قصيرة من العداء الأول (ولدى العداء الأول حافز مماثل ألا تنهك قواه مبكرا)، ينتبه العداءون كثيرا بعضهم لبعض، وتكون النتيجة تكتلهم في مجموعة (كما هو موضح في الشكل الأيمن).
شكل 1-1: يمكن النظر إلى المذبذبات المتصلة على أنها عداءون يركضون حول مضمار دائري. عندما تكون المذبذبات مرتبطة بقوة فسوف تتزامن (على اليمين)، وعندما لا تكون كذلك تكون في حالة عدم تزامن (على اليسار).
بلغة المذبذبات، يمثل التكتل «وضعا متزامنا»، ويعتمد تزامن النظام أو عدم تزامنه على توزيع «الترددات الفعلية» (زمن الدورات الفردية) و«قوة الارتباط» (قدر الانتباه الذي يوليه كل فرد للآخر). إذا كانت جميع المذبذبات تتمتع بالقدرة ذاتها، وبدأت معا، فسوف تظل متزامنة بصرف النظر عن ارتباطها. وإذا كان توزيع قدراتها كبيرا، كما هو الحال في نهائي سباق العدو السريع لمسافة عشرة آلاف متر، فمهما تكن رغبتها في البقاء معا، فسيتفكك التكتل وتختفي المزامنة. على الرغم من بساطة هذا النموذج، فهو تمثيل جيد للعديد من النظم المثيرة للاهتمام في الأحياء، بدءا من الخلايا الناظمة القلبية وصولا إلى وميض حشرات سراج الليل وصرير صراصير الليل. درس ستروجاتس أيضا رياضيات النظم الفيزيائية، مثل مجموعات موصلات جوزفسون فائقة التوصيل، وهي مفاتيح فائقة السرعة قد تشكل في أحد الأيام الأساس لجيل جديد من أجهزة الكمبيوتر.
عند وصول ستيف إلى كورنيل عام 1994، كان قد حقق مكانة رائدة في مجال ديناميكيات المذبذبات المتصلة، وألف كتابه الذي يعرض فيه مقدمة واضحة للديناميكيات اللاخطية والفوضى، وحقق حلمه كمراهق بأن يشغل منصبا في إحدى جامعات الأبحاث الرائدة. كان قد حصل على جوائز في مجالي التدريس والأبحاث، ودرس في بعض أفضل الجامعات في العالم وعمل فيها، مثل برنستون وكامبريدج وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وببلوغه منتصف الثلاثينيات من العمر، كان يتمتع بسيرة ذاتية شديدة التميز، ومع ذلك كان يشعر بالملل؛ فلقد ظل يقوم بالعمل نفسه تقريبا على مدار عشر سنوات، وإن كان ذلك أسعده. شعر ستيف أنه وصل إلى أقصى درجات الإتقان الممكنة في ذلك الجانب من الدراسات الأكاديمية، وكان مستعدا لبدء الاستكشاف من جديد؛ لكن أين؟
كان أول تفاعل لي مع ستيف عندما كان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكنت طالبا بالسنة الأولى من الدراسات العليا في جامعة كورنيل. وشأني شأن الكثير من طلاب الدراسات العليا، انتهت تماما رؤاي الحالمة عن الحياة في إحدى جامعات الأبحاث، وحررني الواقع الصعب، والممل في كثير من الأحيان، من الأوهام تماما، قررت أن أي مكان سيكون أفضل من كورنيل. كان ستروجاتس قد ألقى مؤخرا خطابا في قسمي - وهو الخطاب الأول الذي شعرت أنني قد فهمته فعلا - فاتصلت به لأرى هل هو بحاجة لتعيين مساعد أبحاث جديد. أجابني بأنه في حقيقة الأمر سينتقل إلى جامعة كورنيل، وإلى قسمي تحديدا (وتبين أن خطابه كان جزءا من مقابلة العمل الخاصة به)؛ فبقيت في الجامعة.
كان الإجراء المتبع مع طلاب الدراسات العليا في قسمي هو أن يخضعوا في نهاية العام الأول لامتحان قبول يعرف باسم «امتحان كيو»، وضع هذا الامتحان لاختبار معرفتهم العملية بشأن كل شيء من المفترض أن يكونوا قد تعلموه أثناء دراستهم الجامعية وعامهم الأول في الدراسات العليا، وهو امتحان شفهي، يدخل فيه كل طالب غرفة مليئة بالأساتذة الذين يمطرونه بأسئلة يكون عليه حلها على السبورة، وفي حال نجاح الطالب يسمح له بمواصلة الدراسة للحصول على شهادة الدكتوراه. لكن ماذا إن رسب؟ حسنا، ليس من المفترض أن يرسب أحد. من الطبيعي إذن أن يكون هذا الامتحان تجربة مخيفة إلى حد ما (مع أن أغلب الرعب يكمن في الترقب). وبالمصادفة، لم أكن راجعت السؤال الوحيد الذي سألني إياه ستروجاتس على الإطلاق، وبعد التردد بضع دقائق على السبورة صار عدم استعدادي للسؤال واضحا تماما، فجنبوني المزيد من الإذلال رحمة بي، وانتقلنا إلى السؤال التالي، ولحسن الحظ، سار باقي الامتحان على ما يرام، وبالفعل نجحت (نجحنا جميعا). وبعد أسبوع أو اثنين، بعد ندوة أخرى يصعب فهمها في القسم، اقترب ستيف مني، وأدهشني باقتراحه أن نتحدث بشأن العمل معا.
صفحه نامشخص