أمامي يا حبيبتي حياة أريدها أن تكون عظيمة وجميلة، حياة تؤاخي ذكرى الإنسان الآتي وتستدعي اعتباره ومحبته ، حياة قد ابتدأت عندما لقيتك وأنا واثق بخلودها؛ لأني مؤمن بكونك قادرة على إظهار القوة التي أودعني الله إياها، متجسمة بأقوال وأعمال كبيرة، مثلما تستنبت الشمس أزهار الحقل ذات العرف الطيب، وكذا تظل محبتي لي وللأجيال، وتبقى منزهة عن الأنانية لتعميمها، ومتعالية عن الابتذال لتخصيصها بك».
وقام الفتى ومشى بتمهل في تلك الغرفة، ثم نظر من النافذة ورأى القمر قد طلع من وراء الأفق وملأ الفضاء أشعة لطيفة، فرجع وكتب في تلك الرسالة: «سامحيني يا حبيبتي فقد ناجيتك بضمير المخاطب، وأنت نصفي الجميل الذي فقدته عندما خرجنا من يد الله في أن واحد، سامحيني يا حبيبتي».
الحيوان الأبكم
«وفي نظرات الحيوان الأبكم كلام تفهمه نفس الحكيم» (شاعر هندي)
في عشية يوم تغلبت فيه تخيلاتي على عاقلتي مررت بأطراف أحياء المدينة، ووقفت أمام منزل مهجور تداعت أركانه وحطمت دعائمه ولم يبق منه سوى أثر يخبر عن هجر طويل، ويدل على زوال محزن، فرأيت كلبا يتوسد الرماد وقد ملأت القروح جسمه الضعيف، واستحكمت العلل بهيكله المهزول، فصار يرمق الشمس الجانحة نحو الغروب بعين وسمت عليها أشباح الذل، وبدت فيها مظاهر القنوط واليأس، فكأنه درى أن الشمس قد أخذت تسترجع حرارة أنفاسها عن تلك البقعة المهجورة، البعيدة عن الأولاد مضطهدي الحيوان الضعيف، فصار يرمقها بعين آسفة مودعة، فاقتربت منه على مهل، وادا لو عرفت النطق بلسانه فأعزيه في شدائده، وأبدي له شفقة في بؤسه، ولما دنوت منه خافني وتحرك ببقايا حياة قاربت الانحلال، مستنجدا بقوائم شلتها العلة وراقبها الفناء، وإذ لم يقو على النهوض نظر إلي نظرة فيها مرارة استرحام وحلاوة استعطاف، نظرة فيها انعطاف وملامة، نظرة قامت مقام النطق فكانت أفصح من لسان الإنسان، وأبلغ من دموع المرأة.
ولما تلاقت عيناي بعينيه الحزينتين تحركت عواطفي وتمايلت تأثيراتي، فجسمت تلك النظرات وابتدعت لها أجسادا من كلام متعارف بين البشر، نظرات مفادها: «كفى ما بي يا هذا، وكفى ما عانيت من اضطهاد الناس، وما قاسيت من ألم الأمراض، امض واتركني وسكينتي أستمد من حرارة الشمس دقائق الحياة، فقد هربت من مظالم ابن آدم وقسوته، والتجأت إلى رماد أكثر نعومة من قلبه، واختبأت بين خرائب أقل وحشة من نفسه، اذهب عني فما أنت إلا من سكان أرض ما برحت ناقصة الأحكام، خالية من العدل، أنا حيوان حقير لكنني خدمت ابن آدم وكنت في منزله مخلصا ووفيا، وفي رفقته متربصا وجاسوسا، كنت شريكا في أحزانه، ومغبوطا في أفراحه، متذكرا أيام بعده، مترحبا عنده مجيئه، وكنت أكتفي بفتات مائدته، وأسعد بعظم حرده بأضراسه، ولكن لما شخت وهرمت وأنشبت الأمراض في جسمي أظافرها، نبذني، وأبعدني عن داره، وصيرني ملعبة لصبيان الأزقة القساة، وهدفا لنبال العلل، ومحطا لرحال الأقدار، أنا يا ابن آدم حيوان ضعيف، ولكني وجدت نسبة كائنة بيني وبين الكثيرين من إخوانك البشر، الذين إذا ما ضعفت قواهم قل رزقهم وساء حالهم، أنا مثل جنود يحاربون عن الوطن في شبيبتهم، ويستثمرون الأرض في كهولتهم، حتى إذا ما جاء شتاء الحياة وقل نفعهم، أبعدوهم ونسوهم. أنا مثل امرأة تجملت صبية لتفريج قلب الشبيبة، وسهرت زوجة في الليالي لتربية الأطفال، وتعبت امرأة لإيجاد رجال المستقبل، ولكن لما شاخت وعجزت أصبحت نسيا منسيا، وأمرا مكروها، آه ما أظلمك يا ابن آدم وما أقساك!».
كانت نظرات ذلك الحيوان تتكلم، وقلبي يفهم، ونفسي تتراوح بين شفقتي عليه وتصوراتي بأبناء جلدتي، ولما أغمض عينيه لم أشأ إزعاجه فذهبت.
السلم
سكنت العاصفة بعد أن لوت الأغصان وأحنت الزروع، وبانت النجوم كأنها بقايا البرق المتكسرة على أديم السماء، وسكنت تلك الحقول كأن حرب العناصر لم تكن.
في تلك الساعة دخلت الصبية مرقدها، وجثت على سريرها وبكت بكاء مرا، ثم تصاعدت زفراتها وتجسمت أنفاسها الحارة بهذه الكلمات: «رده إلي يا رب، فقد جفت دموعي وذابت حشاشتي، أرجعه أيها الروح القاضي بحكمة تسمو عن نهى الإنسان، فقد جفاني التجلد وتحكم بي الأسى، خلصه من بين مخالب الحرب المحددة، أنقذه من الموت القاسي، وارحمه فتى ضعيفا جنت عليه قوة القوي فسلبني إياه، تغلبي أيتها المحبة على عدوتك الحرب ، أو خلصي حبيبي فهو من أبنائك، ابتعد عنه أيها الموت ودعه يرني أو تعال وخذني إليه».
صفحه نامشخص