اسمعي قصتي الموجعة يا أختي وابكي من أجلي؛ لأن البكاء كالصلاة، ودموع الشفقة كالإحسان لا تذهب سدى لأنها متصاعدة من أعماق نفس حية شاعرة، شاء والدي وجمع بالقران بيني وبين رجل شريف غني شأن كل والد غني شريف يروم تعزيز المال بالمال مخافة الفقر، وضم الشرف إلى الشرف هربا من ذل الأيام، فكنت مع عواطفي وأحلامي ضحية على مذبح ذهب أحتقره، وشرف موروث أكرهه، وفريسة ترتعد بين أظافر المادة التي إذا لم تكن خادمة مطيعة للروح كانت أقسى من الموت وأمر من الهاوية، أنا أعتبر بعلي؛ لأنه كريم الخلق شريف القلب، يجهد النفس في سبيل سعادتي ويبذل المال لرضاي، لكنني وجدت تأثير هذه الأشياء كلها لا يساوي دقيقة محبة حقيقية مقدسة، تلك المحبة التي تستصغر كل شيء وتبقى عظيمة، لا تسخري بي يا رفيقتي فأنا الآن أعلم الناس بحاجات قلب المرأة، هذا القلب الخفوق، هذا الطائر السابح في فضاء المحبة، هذا الإناء الطافح من خمرة الدهور المعدة لمراشف الأرواح، هذا الكتاب المطبوعة فيه فصول السعادة والشقاء، واللذة والألم، والمسرة والأحزان، فلا يقرأه إلا الرفيق الحقيقي، نصف المرأة المخلوق لها منذ الأزل وإلى الأبد، نعم صرت أدرى النساء بأغراض النفس وأميال القلب عندما وجدت أن خيول بعلي المطهمة ومركباته البديعة وخزائنه الطافحة وشرفه الرفيع لا تساوي نظرة واحدة من عيون ذلك الفتى الفقير الذي جاء هذه الحياة من أجلي وجئت من أجله، ذلك الصابر على مضض البلوى وذل التفريق، ذلك المظلوم عفوا بإرادة والدي، والمسجون بلا إثم في ظلمة العمر، إياك يا صديقتي محاولة تعزيتي؛ لأن لي في مصائبي معزيا هو إدراكي قوة حبي، ومعرفتي شرف شوقي وحنيني، فأنا أنظر الآن من وراء الدموع فأرى المنية تقترب مني يوما فيوما لتقودني إلى حيث أنتظر رفيق نفسي وألتقي به وأعانقه عناقا طويلا مقدسا. ولا تلوميني فأنا قائمة بواجبات الزوجة الأمينة، خاضعة لأحكام الشرائع البشرية بتجلد وهدوء، أكرم بعلي بعاقلتي، وأعتبره بقلبي، وأجله بنفسي، ولا يمكنني أن أهبه كليتي لأن الله أعطاها إلى حبيبي قبل معرفتي حبيبي.
شاءت السماء لحكمة خفية أن أصرف العمر مع رجل خلقت لغيره، فأنا أنفق هذا العمر حسب مشيئة السماء بسكينة، ولكن إذا ما انفتحت أبواب الأبدية التحمت بنصف نفسي الجميل ونظرت إلى الماضي - وذاك الماضي هو هذا الآن - نظرة الربيع إلى الشتاء، وتأملت في حياتي هذه مثلما يتأمل في العقبات من بلغ قمة الجبل».
هنا وقفت تلك الصبية عن الكتابة، وحجبت وجها بيديها، وبكت بكاء مرا كأن نفسها الكبيرة أبت أن تسلم أقدس أسرارها إلى الورق، فأعطتها إلى دموع سخينة تجف بسرعة وتمتزج بأثير الطيف وموطن أنفاس المحبين وأرواح الأزهار، وبعد هنيهة أخذت القلم وكتبت: «هل تذكرين يا صديقتي ذلك الفتى؟ هل تذكرين تلك الأشعة المنبعثة من عينيه، وتلك الأحزان المرسومة على جبينه؟ هل تذكرين ابتسامه المشابه دموع الثكلى؟ هل تذكرين صوته المحاكي صدى الوادي البعيد؟ هل تذكرينه إذ كان يتأمل في الأشياء بنظرات طويلة هادئة، ثم يتكلم عنها بغرابة، ثم يحني رأسه ويتنهد كأنه يخاف أن يشف حديثه عن خفايا قلبه الكبير؟ وهل تذكرين أحلامه وعقائده؟ هل تذكرين كل هذا الأشياء في فتى يحسبه البشر من البشر، ويحتقره والدي لأنه أسمي من المطامع الترابية وأشرف من أن يرث الشرف عن الجدود؟ إي يا أختي أنت تعلمين أنني شهيدة صغائر هذا العالم وضحية الغباوة وترحمين أختا ساهرة في سكينة الليل المخيف لتكشف لك ستائر صدرها عن أسرار قلبها، أنت ترحمين لأن الحب قد زار قلبك».
جاء الصباح فقامت تلك الصبية واستسملت للكرى، علها تجد فيه أحلاما ألطف من أحلام اليقظة.
القوة العمياء
جاء الربيع وتكلمت الطبيعة بألسنة السواقي ففرحت القلب، وابتسمت بشفاه الأزهار فأسعدت النفس، ثم غضبت ودكت المدينة الجميلة فأنست الإنسان عذوبة كليماتها ورقة ابتساماتها، قوة عمياء مخيفة نقضت بساعة ما أقامته الأجيال، موت ظلوم بأظافره المحدودة على الأعناق فسحقها بقساوة، نار آكلة التهمت الأرزاق والأعمار، ليل قاتم أخفى جمال الحياة تحت لحف الرماد، عناصر هائلة هبت من مرابضها وقاتلت الإنسان الضعيف وخربت مساكنه وذرت بسرعة ما جمعه بالتأني، زلزال عنيف حبلت به الأرض فتمخضت متوجعة ولم تلد غير الخراب والشقاء.
جرى كل ذلك والنفس الحزينة ناظرة من بعيد تتأمل وتتألم، تتأمل بمقدرة الإنسان المحدودة تجاه القوى غير العاقلة وتتألم مع المصابين الهاربين من النار والدمار، تتأمل بأعداء ابن آدم الكامنة له تحت أطباق الثرى وبين دقائق الأثير، وتتألم مع الوالدات النائحات والأطفال الجائعين، تتأمل بقساوة المادة واستصغارها الحياة العزيزة، وتتألم مع الذين رقدوا بالأمس مستأمنين في منازلهم فأصبحوا اليوم واقفين عن بعد يرثون المدينة الجميلة بغصات مؤلمة وعبرات مرة، تتأمل بكيفية انقلاب الأمل يأسا، والفرح حزنا، والراحة عذابا، وتتألم مع قلوب ترتعد بين مخالب اليأس والحزن والعذاب.
كذا وقفت النفس بين التأمل والتألم تنقاد تارة إلى الشك بعدالة النواميس الرابطة القوات بعضها دون الآخر، وتعود طورا فتهمس في آذان السكينة قائلة: إن وراء الكائنات حكمة سرمدية تبتدع من كوارث ونوازل نراها محاسن نتائج لا نراها، فالنار والزلازل والعواصف من جسم الأرض بمكان البغض والحقد والشر في القلب البشري تثور وتضج ثم تخمد، ومن ثورتها وضجيجها وخمودها تبتدع الآلهة معرفة جميلة يبتاعها الإنسان بدمعه ودمه وأرزاقه.
أوقفتني الذكرى ونكبة هذه الأمة تملأ الأسماع أنة وعويلا، وصورت أمام عيني كل ما مر على مرسح الأيام الغابرة من العبر والخطوب، فرأيت الإنسان في كل أدواره يقيم على صدر الأرض البروج والقصور والهياكل، والأرض ترجعها إلى قلبها، رأيت الأشداء يشيدون المباني القوية، والنحاتين يختلقون من الصخور صورا وأشباحا، والرسامين يزينون الجدران والمداخل بالنقوش والنسيج، ثم رأيت هذه اليابسة تفغر فاها وتبتلع بخشونة ما ألفته الأيادي المتفننة والعقول الراجحة، ماحية بقساوتها ظواهر الصور والأشباح، مدمرة بسخطها خطوط الرسوم والنقوش، دافئة بعنفها فخامة الدعائم والجدران، ممثلة دور حسناء مستغنية عن الحلي التي يصيغها ابن آدم، مستكفية بحلل المروج الخضراء المزركشة بذهب الرمال وجواهر الحصى.
على أنني وجدت بين هذه النكبات المخيفة والرزايا الهائلة، ألوهية الإنسان واقفة كالجبار تسخر بحماقة الأرض وغضب العناصر، ومثل عمود نور منتصبة بين خرائب بابل ونينوى وتدمر وبمباي وسان فرنسيسكو، ترتل أنشودة الخلود قائلة: لتأخذ الأرض ما لها فلا نهاية لي.
صفحه نامشخص