ها قد سار موكب الحب فمشى الجمال رافعا أعلامه، وسارت الشبيبة نافخة أبواق الفرح، فلا تردعني يا لائمي، بل دعني أسير، فالطريق مفروشة بالورد والرياحين، والهواء قد عطرته مجامر المسك.
أعتقني من حكاية المال وقصص المجد؛ لأن نفسي غنية باكتفائها ومشغولة بمجد الآلهة.
أعتقني من مآتي السياسة وأخبار السلطة؛ لأن الأرض كلها وطني، وجميع البشر مواطني.
مناجاة
اين أنت الآن يا جميلتي؟ أفي تلك الجنة الصغيرة تسقين الأزهار التي تحبك محبة الأطفال ثدي أمها، أم في خدرك حيث أقمت للطهر مذبحا وقفت عليه روحي وحشاشتي، أم بين كتبك تستزيدين من حكمة البشر وأنت غنية بحكمة الآلهة؟
أين أنت يا رفيقة نفسي؟ أفي الهيكل تصلين من أجلي، أم في الحقل تناجين الطبيعة مرتع إعجابك وأحلامك، أم بين أكواخ المساكين تعزين منكسرات القلوب بحلاوة نفسك، وتملأين أياديهم بإحسانك؟
أنت في كل مكان لأنك من روح الله، وفي كل زمان لأنك أقوى من الدهر، هل تذكرين ليالي جمعتنا وشعاع نفسك يحيط بنا كالهالة، وملائكة الحب تطوف حولنا مترنمة بأعمال الروح، وتذكرين أيام جلسنا بظل الأغصان وهي مخيمة علينا كأنها تريد أن تحجبنا عن البشر مثلما تحجب الضلوع أسرار القلب المقدسة، هل تذكرين ممرات ومنحدرات مشينا عليها وأصابعك محبوكة بأصابعي احتباك ضفائرك، وقد أسندنا رأسينا برأسينا كأننا نحتمي منا بنا؟ وهل تذكرين ساعة جئتك مودعا فعانقتني ثم قبلتني قبلة مريمية، علمت منها بأن الشفاه إذا انضمت جاءت بأسرار علوية لا يعرفها اللسان، قبلة كانت توطئة لتنهيدة مزدوجة حاكت نفسا نفخه «الله» في الطين فصار إنسانا، تلك تنهيدة سبقتنا إلى عالم الأرواح معلنة مجد نفسينا، وهناك ستبقى حتى نجتمع بها إلى الأبد، ثم قبلتني وقبلتني وقبلتني، وقلت والدمع يساعدك: «إن للأجسام أغراضا مجهولة فهي تفترق لشئون عالمية وتتباعد لمآرب دنيوية، أما الأرواح فتظل في قبضة الحب مستأمنة حتى يجيء الموت ويسير بها إلى الله، اذهب يا حبيبي، لقد انتدبتك الحياة فأطعها، فهي حسناء تسقي مطيعيها من كوثر اللذة كئوسا مفعمة، أما أنا فلي من حبك عريس ملازم، ومن ذكراك عرس طويل مبارك».
أين أنت الآن يا رفيقتي؟ هل أنت ساهرة في سكينة الليل نسيما أحمله دقات قلبي وخفايا جوارحي كلما هب نحوك؟ وأنت ناظرة رسم فتاك؟ ذاك رسم لم يعد ينطبق على مرسومه، فالحزن قد ألقى خياله على جبهة كانت بالأمس متفرحة بقربك، والنواح أذبل أجفانا كانت مكحولة بجمالك، والوجد جفف ثغرا كان مرطبا بقبلاتك.
أين أنت يا حبيبتي؟ هل أنت سامعة من وراء البحار ندائي وانتحابي، وناظرة ضعفي ومذلتي، وعالمة بصبري وتجلدي؟ أوليست في الهواء أرواح تنقل أنفاس محتضر متوجع؟ أولم تكن بين النفوس أسلاك خفية تحمل شكوى محب دنف؟
أين أنت يا حياتي ولقد احتضنتني الظلمة وغلبني الأسى، ابتسمي في الهواء فأنتعش، تنفسي في الأثير فأحيى.
صفحه نامشخص