اختبأ الإنسان في منازله، والحيوان في مرابضه، وسكنت حركة كل ذي نسمة حية، ولم يبق غير برد قارس، وزمهرير هائج، وليل أسود مخيف، وموت قوي مريع.
وكان في منزل منفرد بين تلك القرى امرأة جالسة أمام موقد تنسج الصوف رداء، وبقربها وحيدها ينظر تارة إلى أشعة النار وطورا إلى وجه أمه الهادئ، في تلك الساعة عصفت الأرياح بشدة وهزت أركان ذلك البيت، فذعر الصبي وأقترب من أمه محتميا بحنونها من غضب العناصر، فضمته إلى صدرها وقبعته، ثم أجلسته على ركبتيها وقالت: «لا تجزع يا ابني، فالطبيعة تريد أن تعظ الإنسان مظهرة عظمتها تجاه صغره، وقوتها بجانب ضعفه، لا تخف يا ولدي فمن وراء الثلوج المتساقطة والغيوم المتلبدة والأرياح العاصفة روح قدوس كلي عالم بما تحتاجه الحقول والآكام، من وراء كل شيء كوة ناظرة إلى حقارة الإنسان بعين الشفقة والرحمة، لا تجزع يا فلذة كبدي فالطبيعة التي ابتسمت في الربيع وضحكت في الصيف وتأوهت في الخريف تريد أن تبكيني الآن، ومن دموعها الباردة تستقي الحياة الرابضة تحت أطباق الثرى.
نم يا ولدي ففي الغد تستيقظ وترى السماء صافية الأديم، والحقول لابسة رداء الثلج الناصع مثلما ترتدي النفس ثوب الطهر بعد مصارعة الموت. نم يا وحيدي فوالدك ناظر الآن إلينا من مسارح الأبدية، وحبذا عاصفة وثلوج تقربنا من ذكر النفوس الخالدة. نم يا حبيبي فمن هذه العناصر المتحاربة بعنف سوف نجني الأزهار الجميلة عندما يجيء نيسان، كذا يا ابني لا يستثمر المحبة إلا بعد بعاد أليم، وصبر مر وقنوط متلف. نم يا صغيري فسوف تأتي الأحلام العذبة إلى نفسك غير خائفة من هيبة الليل وبطش البرد».
ونظر الصبي إلى أمه وقد كحل النعاس عينيه وقال: «لقد أثقل أجفاني الكرى يا أماه وأخاف أن أنام قبل تلاوة الصلاة، فعانقته الأم الحنونة ونظرت من وراء الدموع إلى وجهه الملائكي ثم قالت: «قل معي يا ولدي: أشفق يا رب على الفقراء وارحمهم من قساوة البرد القارس واستر جسومهم العارية بأيديك، انظر إلى اليتامى النائمين في الأكواخ وأنفاس الثلج تكلم أجسامهم، اسمع يا رب نداء الأرامل القائمات في الشوارع بين مخالب الموت وأظفار البرد، امدد يدك يا رب إلى قلب الغني وافتح بصيرته ليرى فاقة الضعفاء المظلومين. ارفق يا رب بالجائعين الواقفين أمام الأبواب في هذا الليل الظلوم، واهد الغرباء إلى المآوي الدافئة وارحم غربتهم، انظر يا رب إلى العصافير الصغيرة، واحفظ بيمينك الأشجار الخائفة من قساوة الرياح، ليكن هذا يا رب».
ولما عانق الكرى نفس الصبي مددته والدته على فراشه وقبلت جبهته بشفتين مرتجفتين، ثم رجعت وجلست أمام الموقد تنسج له الصوف رداء.
الدهر والأمة
على سفح لبنان بقرب جدول ينسل بين الصخور كأسلاك فضية، جلست راعية يحيط بها قطيع غنم مهزول يرتعي الأعشاب اليابسة بين الأشواك الغضة، صبية تنظر نحو الشفق البعيد كأنها تقرأ مآتي الآتي على صفحات الجو، وقد نمق الدمع عينيها مثلما ينمق الندى أزهار النرجس، وفتح الأسى شفتيها كأنه يريد سلب قلبها تنهدا.
ولما جاء المساء وأخذت تلك الروابي تلتف برداء الظل، وقف أمام الصبية فجأة شيخ يتدلى شعره الأبيض على صدره وكتفيه، حاملا بيمينه منجلا سنينا وقال بصوت يحاكي هدير الأمواج: «سلام على سوريا».
فوقفت الفتاة مذعورة، وأجابته بصوت يقطعه الوجل ويصله الحزن قائلة: «ماذا تبتغي الآن مني أيها الدهر!».
ثم أومأت نحو أغنامها وزادت: «هذا بقايا قطيع كان يملأ الأودية.
صفحه نامشخص