رسالة
الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك
للشيخ
سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
من كتاب
مجموع الرسائل
تحقيق
د. الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان
صفحه نامشخص
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
لم يكن متوقعًا أن تشهد الجزيرة العربية تغيرًا شاملًا يعصف رتابة الحياة ويزجها في أتون الصراعات الخارجية، بعد أن ظلت قرونًا طويلة: ممزقة الأوصال، تعيش في دوامة الضياع والتشتت، وترضى من الدنيا بأقل القليل.
ولكن الله تعالى قدر لهذا الجزء القابع في أعماق الصحراء، البعيد عن أطماع المستعمرين، الذي لا يملك من أسباب الترف والرفاهية شيئًا، أن يقفز خلال سنوات قليلة إلى مصاف الدول المتحضرة، ويحقق لنفسه مكانًا أعاد للأذهان انتصارات الجيل الأول وفتوحاته المجيدة.
وهذه النقلة الرائعة التي استلفتت الأنظار ما كان لها أن تتحقق لولا عناية الله تعالى ثم جهود الدعوة السلفية الخالدة، التي ترعرعت بين روابي نجد ووهادها: فأمرعت وأينعت بأطيب الثمار. غير أنها حينما أخذت تمد يدها الحانية لجاراتها وتمكنت من بسط نفوذها على بلاد الحرمين وتخليصه من هيمنة الوثنية، وانتزاعه من براثن الشرك، أثار ذلك الانعتاق مخاوف الدولة العثمانية. ورأت فيه تعجيلًا بنهايتها، ونسفًا لمبررات وجودها، المعتمد على ثقلها الديني، والمنبثق من سيطرتها على الأماكن المقدسة.
1 / 5
الأمر الذي يتطلب السعي الحثيث للقضاء على هذه الدعوة المتمردة قبل استفحالها وتعاظم خطرها، وحتى لا يصبح من العسير بعد ذلك إبادتها.
فاستخدمت لتحقيق هدفها ما استطاعت من ضروب الحيل والمكر والتأليب، ونجحت في قتل قائدها الفذُّ عبد العزيز بن محمد بن سعود غيلة (١) . لكن تلك الجريمة البشعة، لم تُفلح في إيقاف نجاح الدعوة أو كبح جماحها. ولهذا تيقنت الدولة العثمانية ومن ورائها الدول الاستعمارية الغادرة أنه لا مناص من البحث عن وسيلة قادرة على حسم الموقف. فلم تجد أفضل من خادمها محمد علي. حيث رأى في تنامي هذه الحركة ما يهدده، وخشي أن تؤثر على سلطانه المتهالك: يبث تلك الروح الجديدة بين رعاياه عن طريق الاتصال بهم في مواسم الحج. إلى جانب ما كان يتطلع إليه من مد دولته وتوسيع حدودها، فجندته لتحطيم الدعوة وسحقها.
ولم يتورع قط عن ارتكاب أبشع الجرائم في سبيل أطماعه وشهواته المريضة.
وليس بوسعنا الآن التعرض لمظالمه وفظائعه، التي تقشعر منها الأبدان. أو التطرق للمخازي التي اقترفها في نجد، مما يمكن أن يوصف بالوحشية والبربرية وما شئت من أوصاف.
وبمقدورنا تبين حجم ما فعله هذا المسخ المشوه بأمته - إن كان ثمة دين يربطه بهذه الأمة - من البهجة والسرور الذين استقبلت بهما
_________
(١) كان ذلك بواسطة أحد العملاء الجبناء (درويش)، الذي انقض عليه وهو ساجدٌ أثناء صلاة العصر في مسجد الطريف بالدرعية في العشر الأواخر من شهر رجب سنة ثمان عشرة بعد المائتين والألف. "عنوان المجد" (١/٢٦٤) .
1 / 6
الأمبراطورية البريطانية هذه الأحداث (١) .
والمتصفح لتاريخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وما سجله كل من (بركهارت) و(هوغارث) (٢) وهم من المعاصرين لأحداث تلك الفترة لا يعوزه الدليل الصارخ على ما قلنا.
ولقد وقف رجال الدعوة وقادتها وعلماؤها في وجه الزحف الغادر بكل ما أتوا من قوة، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الذود عن مبادئها ودفع غائلة الشر عنها.
ومع كل ما تعرضت له من ألوان المحو والطمس، وما تعرض له قادتها وعلماؤها من القمع والتنكيل.
فقد بقيت حية غضة في قلوب أبنائها، واستمرت مصدر إشعاع. ولا زلنا بحمد الله نتفيأ ظلالها الورافة، ونعيش في كنفها الرحب. إلا أن ذلك سيظل منوطًا بما يقدم لهذه الدعوة من دعم وتشجيع، وما تحاط به من رعاية واهتمام، تستمر في أداء رسالتها وتقديم الصورة الصحيحة للإسلام.
ولابد إذا ما كنا جادين في تثبيت دعائمها، ومقتنعين بأهميتها وحيويتها وسلامة منهجها. من الاستفادة من تاريخها ومسيرتها الطويلة، والتنقيب عن أسباب انتشارها، والبحث عن الملابسات التي أدت إلى انحسارها وتقهقرها أمام الغزاة في ذلك الوقت.
ولندع الآن حفيد إمام الدعوة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن
_________
(١) ينظر "كتاب العربية" لسانت جون فلبي (ص / ١٠٣) عن " كتاب محمد بن عبد الوهاب" لمسعود الندوي (ص / ١٢١) .
(٢) ينظر " كتاب محمد بن عبد الوهاب المفترى عليه" لمسعود الندوي (ص / ١٢٨) .
1 / 7
حسن (١) يشرح لنا أهم الأسباب التي ساهمت في اشتعال الفتنة، ويحلل لنا أبعاد الموقف المتأزم - من وجهة نظره الخاصة باعتباره من المعاصرين لها وممن اكتوى بنارها - يقول وهو يخاطب الإمام عبد الله ابن فيصل ﵀: تفهم أن أول ما قام به جدك محمد وعبد الله، وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة. يطلبون الحق ويعملون به ويقدمون ويغضبون له، ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم. إذا مشى العدو كسره الله قبل أن يصل؛ لأنها خلافة نبوة، ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به، كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ (٢) .. وصار أهل الأمصار يخافونهم. وأراد الله سبحانه إمارة سعود بعد أبيه يرحم الله الجميع، وأراد الله أن يغير طريقة والده الذي قبله، وبغاها ملكًا وبدأ الأمر. ينقص أمر الدين والدنيا تطغى.. وصار العاقبة القصور - التي بنيت بقناطير - والمقاصير - التي تنفذ فيها الأموال العظيمة - التي تسوى ثلاثة آلاف ما تسوى اليوم الاجديدة (٣) لما جرى من تسليط الأعداء عليهم. هذا وهم على التوحيد. لكن ما أعطوه حقه. اشتغلوا بالدنيا ونضارتها وما فتح الله عليهم، وأعرضوا عما أوجب الله عليهم القيام به في أنفسهم وعلى الناس. فجرى ما جرى.. وهذا بسبب الغفلة عما أوجب الله؛ لأن الله اختار لهم أمرًا
_________
(١) المجدد الثاني للدعوة ولد ﵀ سنة ١١٩٣ وامتد به العمر إلى أن أدركه الأجل سنة ١٢٨٥. " مشاهير علماء نجد" (/٥٨) ..
(٢) سورة النور آية ٥٥.
(٣) نوع من العملة قليل القيمة.
1 / 8
عظيمًا ومكنهم منه ومن الناس. لكن حصل تفريط في هذه النعمة العظيمة.
والدرعية اليوم من تدبر حالها وحللها: عرف أن ما جاءهم إلا ذنوبهم. فاعتبروا يا أولي الأبصار (١) .
وغني عن القول أن هذا الرصد التأريخي، لا يعني بأي حال الاستهانة بالدور الذي لعبته الخلافة العثمانية في جمع شمل المسلمين وحمايتهم من هجمات الصليبيين وأطماع المستعمرين، وما تحقق في وقتهم من انتصارات وفتوح شاسعة، وطرق الأبواب الجديدة في سبيل توسيع رقعة الإسلام.
لكن في الوقت نفسه، لا يمكن أيضًا أن ينسينا ما فعلته هذه الخلافة في أيامها الأخيرة بالأمة الإسلامية، باسم الإسلام وتحت مظلته. وما أسدت في شيخوختها من أياد سوداء، ومواقف مخزية بشعة. فتحولت من خلافة إسلامية إلى خلافة من نوع آخر، يحكمها الماسون ويسيرها التعصب والحمية الجاهلية (٢) . ولم يعد لها من اسمها أي نصيب يذكر، غير التسلط والاستغلال وهدر جميع فرص التقدم. بل أصبحت وكرًا تحاك فيه المؤامرات ضد الشعوب المسلمة المستضعفة، وسادنًا مخلصًا لكل بدعة وخرافة تلفظها العقول.
***
_________
(١) " الدرر السنية" (١١/٤٧)، وإلى هذا يشير أيضًا: ابن بشر في "عنوان المجد" (١/٢٧٧)، والحازمي في " الرسائل" (٩٩، ١٢٥، ١٣٧) .
(٢) ولا زالت بقايا هذه الدولة ترزح تحت عدوان هؤلاء، وتتجرع مرارة التخريب والإفساد.
1 / 9
موضوع الرسالة
الولاء والبراء أصلان عظيمان من أصول الإسلام، ومظهران بارزان من عقيدة أهل السنة والجماعة تتميز به عن غيرها. وذلك نابع من كونهما من أهم لوازم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) .
وبما أنه لا ولاء إلا ببراء، كان من الضروري توضيح مبدأ البراء، والكشف عن معانيه. ومن هنا اكتسبت الرسالة أهميتها، وحرص علماء نجد خاصة على تلقينها للطلاب وحفظها عن ظهر قلب (١) .
وقد استهدفت الرسالة إثراء هذه القضية، وبيانها على نحو بعيد عن الغموض أو الابهام. فاستهلها المؤلف بالحديث عن حكم إظهار الموافقة للمشركين وموالاتهم، وكان قوله صريحًا صارمًا منذ البداية
_________
(١) حدثني بذلك الشيخ المعمر عبد العزيز المرشد، وذكر لي أنه قرأها مرات كثيرة على شيخه العلامة عبد الله بن عبد اللطيف ﵀. كما أشار إلى هذه العناية الشديدة: الشيخ ابن قاسم " الدرر" (١٢/٤٨)، والشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ في مقدمة "تيسير العزيز الحميد" (ص / ١٣) ..
1 / 11
ومدعمًا بالدليل من الكتاب والسنة. ولذا تمكنت من إسقاط جميع الأعذار التي يتشبث بها من لم يقر في قلبه الإيمان، بصورة أزاحت الغشاوة عن العيون، وبددت ما كان عالقًا في الأذهان مما نسجه الخوف، وغذته الوساوس. ويلمح القارئ للرسالة اهتمام المؤلف بأمرين:
أولهما: التأكيد على خطر بعض صور الشرك في وقته، ولا سيما تعظيم القباب، ودعاء الأموات: لأن ذلك شرك صريح مخرج عن الملة، ولا مجال للجدال فيه.
وثانيهما: أن الإكراه عن الشرك والكفر، يسقط المؤاخذة. إذا ما كان إكراهًا حقيقيًا يتعذر دفعه. والقلب مطمئن بالإيمان لا يخالطه ريب أو شك.
ويبدو من سياق الرسالة وأسلوبها الحازم الصريح، أن الشيخ سليمان كتبها أثناء اجتياح الجيوش العثمانية لنجد، بعدما تسامع الناس عن مواقف بعض القرى والبوادي المتخاذلة (١) يقول ﵀ في حديثه على الدليل السادس عشر ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾: فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء ... لما أصابتهم هذه الفتنة انقلبوا عن دينهم وأظهروا موافقة المشركين (٢) .
_________
(١) ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن - وهو ممن عاصر تلك الأحداث الدامية - شيئًا من هذه المواقف وعقبها بقوله: (إن هناك من أهل نجد من أعانهم وساعد المعتدين ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه) وكان الشيخ ﵀ على يقين من ذلك حيث وعد بتحديد أعيانهم فيما لو سأله سائل عنهم. ينظر "المقامات" ورقة (٢١، ٢٤) ..
(٢) وانظر كلامه أيضًا عن الدليل السابع عشر والثاني عشر. وفي رسالة للشيخ عبد الله العنقري ﵀ بعثها إلى بعض المنتسبين إلى العلم ما يؤكد ذلك. قال: نبين لكم سبب تصنيف الدلائل. فإن الشيخ سليمان صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته وأرادوا اجتثاث الدين من أصله وساعدهم جماعة من أهل نجد من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم. "الدرر السنية" (٥/٣٠٩) ..
1 / 12
وصف النسخ
اعتمدت في تحقيق الرسالة على خمس نسخ تامة، وهي كما يلي:
الأولى: وكتب في أولها، ما نصه: بسم الله. قال الشيخ الإمام العالم الرباني سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أجزل الله لهم الثواب وأمنهم من عذاب النار وأليم العقاب ووقفنا وذرياتهم للصواب.
نقلها الشيخ عبد الله بن حمود (١) سنة ١٢٥١ (٢)، وتقع في سبع ورقات ومسطرتها ٢١ سطرًا. وقد عثرت عليها ضمن أوراق (دشوت) بمكتبة الشيخ عبد العزيز المرشد (ت ١٤١٧هـ) .
وهي نسخة مقابلة مصححة، منقولة من خط المؤلف (٣) . ولذلك
_________
(١) لم أعثر على ترجمته فيما بين يدي من المصادر.
(٢) أشار إلى ذلك في خاتمة الرسالة التي تلتها.
(٣) كما نبه عليه الناسخ في آخر الرسالة. ولا يمنع عدم جزمه بما ذكر، لأن حظ الشيخ سليمان معروف لا يشتبه بغيره. فلم يكن في زمنه من يكتب بالقلم مثله، كما قال ابن قاسم ١٢/٤٨ وغيره.
1 / 21
جعلتها أصلًا.
الثانية: وتقع في ست ورقات، ومسطرتها ٢٥ سطرًا.
وهي نسخة مقابلة ومصححة؛ كما يتضح من كثرة التعليقات. غير أنها خلت من العنوان واسم المؤلف؛ لأنها كانت فيما يبدو ضمن مجموع انفرط عقده.
وقد عثرت عليها أيضًا مع أوراق (دشوت) بمكتبة الشيخ الفاضل عبد العزيز المرشد، ورمزت لها بحرف (ع) .
الثالثة: وعثرت عليها في مجموع صغير، تضمن بعض رسائل ابن تيمية وأئمة الدعوة، محفوظ بمكتبة الرياض السعودية بدون رقم. وتقع في إحدى عشرة ورقة، ومسطرتها ١٥ سطرًا، ليس لها عنوان أو اسم ناسخ ولا تاريخ نسخ. وقد كتبت بخط جميل جدًا، إلا أن فيها بعض التحريف والنقص. ورمزت لها بحرف (ر) .
الرابعة: ودون في بدايتها، ما نصه: هذه إحدى وعشرون دليل في أن من ساكن المشركين ووالاهم فهو مشرك مثلهم ... للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ولم يشر الناسخ إلى اسمه، أو تاريخ فراغه من نسخها.
وهي تقع في سبع ورقات، ومسطرتها ٢٤ - ٢٦ سطرًا.
وسجل على ورقتها الأخيرة تملك، ونصه في ملك الفقيرة إلى ربها العزيز أمته حليمة آل عبد العزيز غفر الله لها..
ورمزت لها بحرف (م) .
1 / 22
الخامسة: نشرت مع رسائل لابن تيمية وابن القيم، في مجموع بعنوان الجامع الفريد سنة ١٣٨٧هـ دون تحقيق.
وتقع في ست ورقات، من الصفحة ٣٧١ إلى ٣٨٢. ولم يذكر شيء عن الأصل الذي اعتمد عليه في النشر، إلا أنه تبين لي بمعارضتها مع النسخ الأخرى اتفاقها في كثير من الأحيان مع نسخة (ر)، وهي نسخة ناقصة تجاوز سقطها في بعض المواضع السطرين أو يزيد. وقد أشرت إليه في الهامش، ورمزت لها بحرف (ط) (١) .
عنوان الرسالة:
اغفلت النسخ المحفوظة الإشارة إلى اسم الرسالة، فيما عدا النسخة (م) . حيث ورد فيها هكذا: إحدى وعشرون دليل في أن من ساكن المشركين ووالاهم فهو مشرك مثلهم. ويبدو أن الناسخ أخذه من المضمون، فجاء على هذا النحو.
أما في المطبوعة، فجعله الناشر: حكم موالاة أهل الإشراك.
وإذا انتقلنا إلى كتب التراجم، فإننا نجد الشيخ ابن قاسم ينص على أن اسمها: الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك (٢) .
بينما يسميها ابن بسام (٣)، وصاحب مشاهير علماء نجد (٤): الدلائل في عدم موالاة أهل الإشراك (٥) .
_________
(١) ينظر: ابن قاسم " الدرر السنية" (٥/٤٧) ويلاحظ ما بينهما من التشابه الكثير. فلعلها عن أصل واحد.
(٢) "الدرر" (١٢/٤٨) .
(٣) "علماء نجد" (١/٢٩٥) .
(٤) الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف.
(٥) عند ابن بسام: أهل الشرك.
1 / 23
ويبدو أن الأقرب هو ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (ت ١٣٩٣)؛ لما عرف عنه من ممارسة طويلة لتراث أئمة الدعوة، وخبرة واسعة مكنته من جمعه وترتيبه وإخراجه في أسفار كثيرة.
منهج التحقيق:
اتخذت النسخة المنقولة من خط المؤلف أصلًا. وعولت كثيرًا على ما ورد فيها؛ لقدمها وصحتها. أما بقية النسخ، فعارضتها بالأصل وأثبت ما بينها من فروق. ولم أضف إلى الأصل إلا ما رأيت الحاجة تدعو إليه، فألحقته في الصلب بين حاصرتين. كما قمت بعزو الآيات الكريمة، وتخريج الأحاديث، وذكرت ما قاله أهل العلم في شأن ثبوتها بقدر الإمكان. وترجمت للأعلام ممن يحتاج إلى تعريف، وفسرت ما غمض، إلى غير ذلك.
وبعد: فأرجو الله العلي القدير أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يمنحنا الفقه في الدين والسير على شرعه القويم، إنه جواد كريم وبالإجابة جدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 24
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم (١) (٢) الحمد لله رب العالمين٢١.
اعلم رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم: خوفًا منهم، ومداراة لهم ومداهنة؛ لدفع شرهم. فإنه كافر مثلهم (٣)، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين. هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك. فكيف إذا كان في دار منعة، واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم (٤) وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال (٥)، ووالاهم وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار (٦) من جنود الشرك والقباب (٧) وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله. فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ورسوله ﷺ (٨) . ولا يستثنى من ذلك إلا المكره: وهو الذي يستولي
_________
(١) (م) بزيادة: وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل
(٢) ما بينهما ساقط من (ر) و(ط) وعلق في هامش (ع) زيادة: والصلاة والسلام على محمد وعلى آله. وعليه كلمة صح.
(٣) ينظر التفريق عند أئمة الدعوة: بين المداراة والمداهنة. وأن المداراة لا بأس بها؛ عند الحاجة المعتبرة. ابن قاسم «الدرر السنية» (٥/٣٥) وانظر أيضًا: الآجري «الغرباء» (٧٩) .
(٤) (ر) ولايتهم.
(٥) (ط) في طاعتهم، ساقطة.
(٦) (ر) فصار.
(٧) (ط) (م) (ر) القباب والشرك.
(٨) ﷺ ليست في (ر) .
1 / 29
عليه المشركون (١)، فيقولون (٢) له: اكفر، أو (٣) افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك. أو (٤) يأخذونه، فيعذبونه حتى يوافقهم. فيجوز له الموافقة باللسان، مع طمأنينة القلب بالإيمان.
وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلًا أنه يكفر (٥) فكيف بمن أظهر الكفر خوفًا وطمعًا في الدنيا؟ ! وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك، بعون الله وتأييده:
الدليل الأول: قول الله تعالى (٦): (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) (٧) .
فأخبر تعالى: أن اليهود والنصارى وكذلك المشركون، لا يرضون عن النبي ﷺ حتى يتبع ملتهم، ويشهد أنهم على حق.
ثم قال: (قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا نصير) (٨) وفي الآية الأخرى: (إنك إذا لمن الظالمين) (٩) فإذا كان النبي ﷺ لو (١٠) يوافقهم على دينهم ظاهرًا من غير عقيدة القلب - لكن خوفًا من شرهم ومداهنة ـ
_________
(١) (ر) المشركين. تحريف.
(٢) (ر) ويقولون
(٣) (م) (ع) و.
(٤) (ر) و.
(٥) وسند الإجماع، قول الله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون (٦٥) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) الآية سورة التوبة الآيتان ٦٦، ٦٥.
(٦) (م) (ع) (ر) (ط) قوله.
(٧) سورة البقرة آية ١٢٠.
(٨) سورة البقرة آية ١٢٠.
(٩) سورة البقرة آية ١٤٥
(١٠) (م) لم
1 / 30
كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب (١) أنهم على حق وهدى مستقيم؟ ! فإنهم لا يرضون إلا بذلك.
الدليل الثاني: قول الله تعالى (٢): (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (٣)
فأخبر تعالى: أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم / عن دينهم إن استطاعوا. ولم يرخص في موافقتهم خوفًا على النفس والمال والحرمة، بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه (٤) ليدفع شرهم أنه مرتد. فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها. فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ ! فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه، لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم (٥) ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم (٦) أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون.
الدليل الثالث: قوله ﵎: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن
_________
(١) (م) القباب والقبور
(٢) (ط) (م) (ر) قوله تبارك و. (ع) قوله.
(٣) سورة البقرة آية ٢١٧.
(٤) (ر) بعداوته.
(٥) (ر) إليهم. ساقطة.
(٦) (ر) فغيرهم تحريف.
1 / 31
تتقوا منهم تقاة) (١) .
فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحابًا من دون المؤمنين، وإن كانوا خائفين منهم، وأخبر أن من فعل ذلك: (فليس من الله في شيء) . أي (٢): لا يكون من أولياء الله الموعودين بالنجاة في الآخرة. (٣) (إلا أن تتقوا (٤) منهم تقاة)، وهو أن يكون الإنسان مقهورًا (٥) معهم، لا يقدر على عداوتهم. فيظهر لهم المعاشرة، والقلب مطمئن بالبغضاء والعداوة (٦)، وانتظار زوال (٧) المانع. فإذا زال، رجع إلى العداوة والبغضاء. فكيف بمن اتخذهم أولياء من دون المؤمنين من غير عذر، إلا (٨) استحباب الحياة الدنيا على الآخرة، والخوف من المشركين وعدم الخوف من الله، فما جعل الله الخوف منهم عذرًا؛ بل قال تعالى: (إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (٩) .
الدليل الرابع: قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) (١٠) .
_________
(١) سورة آل عمران آية ٢٨
(٢) (ر) و.
(٣) ما بينهما ساقط من (م)
(٤) (ر) يتقوا
(٥) (م) مقهور تحريف
(٦) ما بينهما ساقط من (م) و(ر) و(ط)
(٧) (ع) لزوال.
(٨) (م) ولا (ر) (ط) ساقطة.
(٩) سورة آل عمران آية ١٧٥
(١٠) سورة آل عمران آية ١٤٩
1 / 32
فأخبر تعالى: أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار، فلابد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام؛ فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر. وأخبر: أنهم إن فعلوا ذلك، صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة. ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفًا منهم.
وهذا هو الواقع؛ فإنهم (١) لا يقتنعون ممن وافقهم إلا بشهادة (٢) أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم.
ثم قال: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) (٣) . (٤) ففي ولايته وطاعته، غنية وكفاية (٥) عن طاعة الكفار.
فيا حسرة (٦) / على العباد: الذين عرفوا التوحيد، ونشئوا (٧) فيه، ودانوا به زمانًا (٨) . كيف (٩) خرجوا عن (١٠) ولاية رب العالمين، وخير الناصرين. إلى ولاية القباب وأهلها، ورضوا بها بدلًا عن (١١) ولاية من بيده
_________
(١) (م) انهم
(٢) (م) بالشهادة.
(٣) سورة آل عمران آية ١٥٠
(٤) (م) (ر) (ط) (فاخبر تعالى أن الله مولى المؤمنين وناصرهم وهو خير الناصرين. ففي ولايته) .
(٥) (م) كفاية وغنية.
(٦) (ع) حسرتي.
(٧) (م) وشابوا.
(٨) (م) زمنا.
(٩) (م) فكيف.
(١٠) (ع) من وعلق في الهامش: عن.
(١١) (م) من.
1 / 33
ملكوت (١) كل شيء ...؟ !! بئس للظالمين بدلًا.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (٢) .
فأخبر تعالى: أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، ومن اتبع ما يسخطه (٣) ومأواه جهنم يوم القيامة. ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده (٤) ونصرها، وكون الإنسان (٥) من أهلها: (٦) من رضوان الله. وأن عبادة القباب والأموات ونصرها والكون من أهلها: مما يسخط الله. فلا يستوي عند الله من نصر توحيده ودعوته بالإخلاص، وكان مع المؤمنين. ومن نصر الشرك ودعوة الأموات وكان مع المشركين.
فإن (٧) قالوا: خفنا!!. قيل لهم (٨): كذبتم وأيضًا: فما جعل الله الخوف عذرًا في اتباع ما يسخطه، واجتناب ما يرضيه.
وكثيرًا (٩) من أهل الباطل: إنما يتركون الحق خوفًا من زوال دنياهم، وإلا فيعرفون الحق ويعتقدونه. ولم يكونوا بذلك مسلمين (١٠) .
_________
(١) ملحقه في هامش (ر) وبجوارها كلمة صح.
(٢) سورة آل عمران آية ١٦٢
(٣) (م) سخطه.
(٤) (ط) (ر) وحدها.
(٥) (م) والكون.
(٦) من هنا إلى «أهلها» ملحق في هامش الأصل، وبجواره كلمة صح.
(٧) (م) وإن.
(٨) (م): لهم. ساقط.
(٩) الأصل كثيرًا.
(١٠) (م) مسلمين بذلك.
1 / 34
الدليل السادس: قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم) (١) . (٢) . أي: في أي فريق كنتم (٣)، أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين؟. فاعتذروا عن (٤) كونهم ليسوا (٥) في فريق المسلمين: بالاستضعاف. فلم تعذرهم الملائكة، وقالوا لهم (٦):
(ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا (٧) ولا يشك عاقل: أن [أهل] (٨) البلدان (٩) الذين خرجوا عن المسلمين، صاروا مع المشركين وفي فريقهم وجماعتهم. هذا مع أن الآية نزلت: في أناس من أهل مكة. أسلموا، واحتبسوا عن الهجرة. فلما خرج المشركون (١٠) إلى (١١) بدر، أكرهوهم على الخروج معهم، فخرجوا خائفين. فقتلهم المسلمين يوم بدر؛ فلما علموا بقتلهم تأسفوا، وقالوا: قتلنا إخواننا.
فأنزل الله فيهم هذه الآية (١٢) .
_________
(١) سورة النساء آية ٩٧
(٢) (م) (ر) (ط) أتمت الآية الكريمة.
(٣) (م) أنتم.
(٤) (م) من.
(٥) (م) لم يكونوا (ع) شطب عليها.
(٦) (م) لهم. ساقطة.
(٧) سورة النساء: آية ٩٧.
(٨) ما بينهما ساقط من جميع النسخ ومعلق في هامش (ع) وبجواره كلمة صح.
(٩) (ط) البدوان.
(١٠) (ر) خرجوا المشركين. تحريف.
(١١) (م) يوم.
(١٢) أخرجه البخاري في «الصحيح» الرقمان (٧٠٨٥، ٤٥٩٦)، والنسائي في «السنن الكبرى» (كتاب التفسير) كما في «تحفة الأشراف» (٥/١٦٦)، والطبري في «التفسير» (٥/٢٣٤) والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩/١٢)، والطبراني في «الأوسط» وابن راهويه، والإسماعيلي، وابن المنذر، كما في «فتح الباري» (٨/٢٦٣)، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، كما في «الدر المنثور» (٢/٢٠٦) والبزار في «مسنده» كما في «مجمع الزوائد» للهيثمي (٧/١٠) وقال: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن شريك وهو ثقة. عن ابن عباس ﵁ بألفاظ مختلفة.
1 / 35
فكيف بأهل البلدان: الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم، وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، واتبعوا غير سبيلهم، وخطئوهم، وظهر فيهم: سبهم (١)، وشتمهم (٢)، وعيبهم، والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم - في ثباتهم على التوحيد والصبر عليه، وعلى الجهاد فيه - وعاونوهم على أهل التوحيد طوعًا لا كرهًا، واختيارًا لا اضطرارًا (٣) . فهؤلاء / أولى بالكفر والنار من الذين تركوا الهجرة شحًا بالوطن، وخوفًا من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين.
فإن قال قائل: هلًا كان الإكراه (٤) عذرًا (٥) - للذين قتلوا يوم بدر - على الخروج (٦)؟. قيل: لا يكون عذرًا (٧) لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين. إذا (٨) أقاموا مع الكفار، فلا يعذرون بعد ذلك بالإكراه (٩)؛ لأنهم السبب في ذلك، حيث أقاموا (١٠) معهم وتركوا الهجرة.
_________
(١) (م) بسبهم.
(٢) (م) وشتمهم. ساقطة.
(٣) (ر) اضطرابًا تحريف.
(٤) (ط) (م) (ر) الإكراه على الخروج.
(٥) (ر) عذر. تحريف.
(٦) (ط) . (م) (ر): على الخروج. ساقطة.
(٧) (م) عذرًا لهم.
(٨) (م) إذا. تحريف.
(٩) (ر) الإكراه.
(١٠) (ط) (ر) قاموا.
1 / 36