Friar
هي وكلمة «فرير» سواء، ولكنا آثرنا أن ندعوه «الكاهن»؛ لأنه هو الذي جيء به ليعقد القران فجرت مأساة التشهير بالعروس وهي أمام الهيكل على عينيه.
ولهذا الكاهن دور كبير الشأن في القصة، فهو رجل أوتي علما بخوالج النفوس، ودراسة الشخصيات، فلم يلبث عقب الفضيحة التي حدثت في محضره وأدت إلى إغماء العروس، أن ذهب خاطره إلى أنها بريئة مما اتهمت به، فوضع خطة لتبديد الريبة، وكشف الحقيقة لعلها رادة كلوديو إلى حبه. وقد نجحت تلك الخطة من بوادرها، لولا موقف التوعد والتحدي الذي اتخذه ليوناتو وأخوه أنطونيو عند لقائهما كلوديو والأمير عقب الحادثة التي وقعت في الكنيسة، ولكن هذا الموقف لم يأت بالنتيجة التي كان الكاهن يرجوها، وهي شعور كلوديو بالندامة، بل تجاوز ذلك إلى أمر زاد في نجاح الخطة، وهو استجابته لما أريد منه بغير تردد أو اعتراض ... (4) معالم بارزة في فصول القصة ومشاهدها
تنتظم روايات شكسبير مجموعتين؛ الأولى ظهرت كلها قبل عام 1595 وهي «جهد حب ضائع»، و«مهزلة أغلاط»، و«حلم ليلة صيف»، و«سيدان من فيرونا»، و«روميو وچولييت»، و«ريتشارد الثاني والثالث»، و«هنرى السادس» في أجزائها الثلاثة؛ وتشمل الأخرى - وهي الفترة الثانية بعد ذلك التاريخ - «الملك جون»، و«تاجر البندقية»، و«ترويض الشريرة»، و«هنري الرابع» بجزأيها، و«زوجات وندسور المرحات»، و«هنري الخامس»، و«كما تشاءون»، و«الليلة الثانية عشرة»، وهذه القصة التي ننقلها إلى العربية وهي إحدى ثلاث مسرحيات كتبها المؤلف في أرغد أيامه، وأبهج أدوار حياته، وأملأ مراحلها فكاهة ومرحا، قبل أن ينتقل إلى النواحي الجادة من حياة الناس، ويرسم مآسي عيشهم، ويصور أفاعيل غرائزهم، بعد أن فرغ من رسم صنوف نزقهم، وألوان حماقتهم، وضروب لهوهم في الحياة. فقد وضع في هذا الدور مآسيه الخالدات، يوليوس قيصر، وهملت، وعطيل، والملك لير.
وقد امتازت المسرحيات الثلاث التي أسلفنا ذكرها بسمو الخيال، ولطف الخاطر، واكتمال الفن، وطرافة النكتة، وخفة الظل، وبعد مطارح المجون.
وسيرى القارئ مبلغ ما ازدحمت به هذه القصة من لمع الفكاهة، وأبدع ألوان المجانة، على قلة عناصر الموضوع فيها وندرة الحوادث خلالها، حتى لتكاد تكون (حوارا) جميلا، ومساجلات فكهة، وإن لم تخل جملة من مواقف رائعة، لعل أبدعها وأروعها المشهد الذي بدأ في الكنيسة، حين انبرى العروس يشهر على رؤوس الأشهاد بعروسه، ويرميها بالخيانة والعار، وما أعقب هذا التشهير من إغمائها أمام الهيكل، قبيل حفل الزفاف.
فقد يكون مشهد كهذا في رواية مرحة أكثر مما تحتمله الأعصاب، أو يتسق والموضوع الذي تدور القصة حوله، ولكن ما يخفف من أثرها أن النظارة الذين يشاهدونها، والقراء الذين يطالعونها، يعرفون أن التهمة التي رميت العروس بها وليدة مكيدة مدبرة، ويعلمون أنها بريئة منها كل البراءة، وإن جهل الأمر أبطالها الآخرون، ووقعت التهمة من نفوسهم أسوأ موقع. وفي ذلك يقول «شليجل»: «إن هذا المشهد هو قطعة رائعة بكل معاني الروعة، وإن تأثيرها المسرحي لا يكاد يدانيه شيء، وكان وقعها سيروح محزنا فاجعا، لولا حرص شكسبير على التخفيف من حدته، توطئة لظهور حادث سعيد، والمضي بالقصة إلى نهاية موفقة ...»
وناهيك بما في الحوار المستمر بين «بياتريس» و«بنيديك» والتراشق بالنكت المليحة من ثروة مجانة وارتفاع بالغ في آفاق السخرية واللعب بالألفاظ، والافتنان في مختلف ألوان البديع والبيان.
ولا نحسب ما حفلت به مسرحية «كما تشاءون» من حوار بين «أورلندو» و«روزالند» يضارع مثيله في هذه القصة أو يقع قريبا منه، إلا أن التراشق بالنكات بين بياتريس وبنيديك هنا يبدو لاذعا موجعا مليئا بسخرية، بينما يغلب على مثله في المسرحيات الأخرى طابع المجانة البحت والعبث الخفيف.
فقد صور الشاعر بياتريس وبنيديك خلال قصتنا هذه في صور المتمردين على الحب، المتأبيين على فكرة الزواج، الساخرين من الرجال والنساء بالسواء، ومضى يرسم لنا في حذق بالغ كيف دبر أصحابهما لهما مكيدة لطيفة لحمل كل منهما على الإيمان بأن الآخر يكن الحب له ويخفى الميل إليه في أعماق صدره، وأغوار جوانحه.
صفحه نامشخص