فصبرت المركيزة على أحكام القدر وفتحت فمها فتناولت الراسب من رأس السكين، ولكن لم تبتلعه، بل أخفته في فمها، واستلقت على السرير صارخة تعض بأسنانها في الفراش من شدة الألم، واغتنمت هذه الفرصة فألقت بما في فمها بين الوسائد على غفلة من قاتليها، ثم التفتت لهما قائلة ويداها مضمومتان إلى صدرها: ناشدتكما الله حيث عزمتما على إهلاك جسمي في الدنيا أن لا تفقداني أمل نجاة روحي في الأخرى، فأرسلوا إلي بقسيس معرف.
وكان الراهب والفارس قد سئما النظر إلى ضحيتهما وعوامل الموت والحياة تتنازع في صدرها، ورأيا أن مهمتهما قد تمت بتجرع المركيزة كأس السم وأنه لم يعد لها في الوجود إلا نفس معدود، فخرجا عند سماع رجائها الأخير وأغلقا وراءهما الباب.
وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها حتى تهيأ لها إمكان الهروب من هذا القصر المشئوم، فأسرعت نحو النافذة فوجدتها تعلو عن سطح الأرض اثنين وعشرين قدما، ورأت تحتها كوما من الأحجار والأنقاض، وكانت ملابسها قد انحلت فأصبحت بالقميص، فارتدت تنورة فوقه، وما كادت تنتهي من ربطها على خصرها حتى أحست بأقدام آتية نحو غرفتها، فظنت أن قاتليها عائدان إليها فأسرعت نحو النافذة كمجنونة، وعندما لمست قدماها حافتها فتح الباب فألقت المسكينة برأسها من النافذة دون أن تحسب لسقطتها حسابا، وكان الداخل خوري القصر، فلما رآها على حافة النافذة أسرع فتمكن من إمساكها من تنورتها عندما ألقت بنفسها، ولكن كان قماش التنورة خفيفا فتمزق في يدي الكاهن، وسقطت المركيزة، إنما تغير لهذه المقاومة وضع جسمها عند السقوط، فبدلا عن أن تنزل على قمة رأسها سقطت على قدميها فوق الأنقاض فأصيبت فيهما ببعض رضوض ليس إلا. ورغما عن دهشتها من السقطة ألهمت أن تنتقل من المكان الذي وقعت فيه، وكأنها شعرت بأن شيئا ألقي وراءها من النافذة، فقفزت قفزة من مكانها وإذا بالساقط جرة عظيمة مملوءة ماء ألقاها الخوري اللئيم وراءها ليسحق رأسها لما رآها قد فرت من يديه، ولكن قدر الله أن تسقط الجرة عند قدمي المركيزة فتتهشم دون أن تصيبها بسوء.
ورأى الخوري خيبة مرماه فقفل راجعا نحو الراهب والفارس ليعلمهما بهروب المركيزة من القصر.
أما المركيزة فما نالت قدماها الأرض حتى خطر لها خاطر أوحى إليها به ذكاؤها الحاضر، فأدخلت خصلة من شعرها إلى حلقها لتتقايأ ما تجرعته، وسهل عليها الأمر لأنها شربت السم بعد الأكل، ومنع الأكل السم أن يؤثر في جدران المعدة؛ لعدم مباشرته لها. وكان حلوفا منزليا على مقربة منها، فأسرع بابتلاع ما تقايأته فسقط في الحال يضطرب ويتقلص وما لبث أن نفق لوقته.
وقد ذكرنا في وصف القصر أن غرفة المركيزة مطلة على حوش مقفول الجهات، فلما ألقت المركيزة بنفسها من النافذة إلى ذلك الحوش ورأته بلا منفذ ظنت أنها إنما انتقلت من سجن إلى سجن، ولكنها ما لبثت أن رأت نورا يضيء من إحدى طاقات الإصطبلات المحيطة من الخارج بهذا الحوش، فأسرعت نحوها ونظرت فوجدت سائسا للخيل يهيئ مضجعه لينام فخاطبته قائلة: بربك يا صاح نجني، إنهم سموني ويريدون قتلي؛ فأرجوك أن لا تتركني وأشفق علي وارحمني، وافتح لي هذا الإصطبل لأخرج منه وأنجو بنفسي.
فلم يفقه السائس قصة محدثته إنما رأى أمامه امرأة تستنجده وهي محلولة الشعر ممزقة الثياب تكاد تكون عريانة، فرفعها بين يديه واخترق بها الإصطبلات ثم فتح لها بابا، فإذا هي في الطريق، وكانت امرأتان مارتين فدفعها إليهما السائس دون أن ينبئهما بخبرها؛ لعدم علمه به، ولم تجد المركيزة ما تحدثهما به غير قولها: بربكما خلصاني، إني مسمومة فنجياني.
ثم تركتهما فجأة، وأخذت تعدو في الطريق كالمجنونة، فرأت على بعد خطا منها باب القصر الذي خرجت منه، ورأت قاتليها ففرت من وجهيهما؛ فاندفعا وراءها وهي تصيح أنها مسمومة، وهما يصيحان أنها مجنونة، والناس في طريقهم لا يفهمون الخبر فيفسحون لهم السبيل.
وأكسب الخوف والجزع المركيزة قوة فوق قوتها، فصارت تعدو حافية تدمي قدميها الأحجار والصخور بعد أن كان ملبسها الخز والديباج، وصارت تستغيث بالناس، وما من مغيث؛ لأن كل من كان يراها وهي على هذا الحال محلولة الشعور ممزقة الثياب حافية الأقدام تجري في الطرقات لا يظن إلا أنها مجنونة كما يقول سلفاها.
وتوصل الفارس أخيرا إلى اللحاق بها، فجرها وهي تصيح إلى أقرب منزل منه، فأغلق وراءها الباب، ووقف الراهب حارسا عليه وبيده غدارة يهدد بها كل من يحاول الدخول أو الاقتراب.
صفحه نامشخص