دعوت به فلسفه
دعوة للفلسفة: كتاب مفقود لأرسطو
ژانرها
ومع ذلك فالإشارة السابقة كافية لمعرفة موقف المعلم الأول الذي يتردد بوضوح في مواضع أخرى من هذا الكتاب وفي الأخلاق إلى نيقوماخس، ويكفي أيضا لتعزيز هذا الموقف أن نراجع العبارات التالية المتناثرة في تضاعيف الكتاب: «ويشعرون بالخجل من أن وضعهم الحاضر لا يحفزهم على النهوض بما يرونه واجبا عليهم» (ب2)، «نحن جميعا نختار ما يكون في نفس الوقت ميسورا ونافعا، ومن ثم يجب الاعتراف بأن الفلسفة تملك هاتين الصفتين» (ب31)، «ومن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق ويكون لنا بمثابة الدليل الهادي إلى الخير غير الإنسان الحكيم؟ إن اختياره يتم على أساس العلم» (ب39)، «ما من شيء يمكن أن يبدو لنا خيرا إن لم تتحقق الغاية منه عن طريق النشاط العقلي» (ب41) ... «وبهذه الطريقة نفسها يتحتم على السياسي أن تكون لديه معايير معينة يستمدها من الطبيعة نفسها ومن الحقيقة ويستعين بها في الحكم على ما هو عادل» (ب47)، «إن سلوك الفيلسوف وحده هو السلوك (أو الفعل) الصحيح» (ب49)، «وعلى الجملة فنحن نكتسب عن طريق هذه المعرفة كل ما هو خير» (ب51)، «... إن كل ما هو خير للإنسان ونافع للحياة إنما يكمن في الفعل والممارسة لا في مجرد المعرفة (النظرية) بالخير»، «إننا لا نحيا حياة طيبة (جميلة ونبيلة) عن طريق معرفتنا ببعض الحقائق عن الموجود، بل من خلال عملنا الطيب» (ب52)، أضف إلى هذا كله ما يقوله شيشرون: «لقد ولد الإنسان، كما قال أرسطو، لأمرين؛ ليعقل ويعمل، وهو لهذا أشبه بإله فان.» وكل هذه النصوص تؤكد اقتران الفكر بالعمل عند أرسطو، كما تؤكد ما يقوله بعض المحدثين والمعاصرين (ماركس وفيتجنشتين مثلا) من أن التفلسف في صميمه فعل، مهما اختلفوا في مفهوم هذا الفعل، يبقى أن نقول إن أضعف نقطة ينفذ منها الناقد إلى النظرية الغائية هي هذه: فأعلى أشكال المعرفة عند أرسطو هو معرفة الغاية وال «لماذا»، ولكن ما الذي يضمن أن ينصرف المتفلسف «الذي يثبت بصره على الطبيعة نفسها» ويستخدم عقله استخداما صحيحا، ما الذي يضمن أنه سينصرف إلى فعل الخير أو يفكر في القيام به أو يجده إن حاول طلبه؟ ألا يقدم تاريخ العالم القديم والحديث ألف دليل ودليل على أن أبشع الشرور لم تأت إلا من الذين يسمون بالعقلاء ويبلغون من «العلم» درجات ودرجات؟! ألا يزيد العقل من شرور من لا يكون خيرا بطبعه؟! وكيف نفسر نحن العرب نظالم الاستعمار وفظائع الصهيونية ومظاهر العدوان والتعذيب والقهر في أوطاننا وفي عالمنا المعاصر؟! (ب22-30) يبدو أنه لن يمكننا أن نقطع بأن هذه الفقرات مأخوذة عن كتاب أرسطو الأصلي (البروتريبتيقوس)، صحيح أنها تشير إلى بعض الأفكار التي يتناولها أرسطو بالتفصيل في مواضع أخرى من الكتاب ولكنها تتضمن أفكارا ووجهات نظر أخرى لا ترد في الشذرات الباقية منه، ولعل الأرجح أن تكون مقتطفة من كتاب آخر من كتب أرسطو المفقودة، ونستطيع على كل حال أن نقسم نصوص هذه الفقرات إلى ثلاثة أقسام: (1)
فالقسم الأول (من 22 إلى 24) أرسططالي بحت وإن كان يامليخوس قد غير فيه تغييرات طفيفة، والعبارة الأولى في الفقرة (23) تقول: لما كان النظام (أو العقل) يسود الطبيعة كلها ... إلخ، والكلمات الأصلية تفيد أن الطبيعة تملك العقل، وعبارات أرسطو واستعاراته التي يتحدث فيها عن الطبيعة التي تحيا وتعمل الخير وتريده ... إلخ تدل على انتظام سير الأحداث الطبيعية وخضوعها لقانون يحكمها، والملاحظ في هذه الفقرة نفسها أن أرسطو لا يكاد يقدم فكرته عن اتجاه الطبيعة نحو الهدف (ب23) حتى يفاجئنا بكلام جديد عن تقسيم الإنسان إلى نفس وجسد، ثم تقسيم النفس إلى جزء غير عاقل وآخر عاقل يبلغ ذروته في العقل (النوس)، فهل يؤكد هذا أن الناقل قد أسقط أجزاء من كتابه أو أقحم عليه أجزاء أخرى من كتاب لا نعلمه؟ (2)
القسم الثاني (من 24 إلى 28) يقوم على التفرقة المعروفة بين الغاية وبين ما يكون وسيلة لغاية، ويؤكد أن الفعل العقلي الذي يمارس لذاته أعلى قدرا وأكبر شرفا من أي فعل آخر يتوسل به لغاية غريبة عنه، وقد سبق أفلاطون إلى الفكرة نفسها (انظر مثلا محاورة جورجياس 467د) كما وردت عند أرسطو لأول مرة في الجدل أو الطوبيقا (2-3، 110 ب18) قبل أن تصبح حجة يلجأ إليها باستمرار. (3)
والقسم الثالث (من 28 إلى 30) قد أصابه تعديل كبير على يد يامبليخوس، ولعله لم ينقله عن كتاب أرسطو الضائع، بل عن مصدر آخر يرجح الأستاذ «فلاشار» أنه كتاب بنفس العنوان لفرفوريوس (تلميذ أفلوطين وكاتب سيرته)؛ ولهذا نجد في النص تأثيرات رواقية وأفلاطونية محدثة وفيثاغورية جديدة، ومع ذلك لا يمكننا أن نجرد النص تماما من الروح الأفلاطونية والأرسطية؛ فتقسيم وظائف النفس والحياة عموما إلى نامية أو غاذية (نباتية) وحاسة (حيوانية) وناطقة تقسيم أرسطي معروف، والقول بأن العقل (نوس) هو العنصر الإلهي في الإنسان يرد بوضوح في الفقرة الأخيرة من الكتاب الذي بين أيدينا (ب110) كما يعبر عنه في الأخلاق النيقوماخية (المقالة العاشرة، 7، 1177ب و1178أ 8) وكذلك عند أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس (176ب). (ب31-37) يلاحظ أن تعبير الأيسر والأنفع لا يقصد به التقييم الأخلاقي، وإنما يقصد به الأولوية وتقديم المبدئي على الثانوي والأصل على الفرع، وهي حجة يلجأ إليها أفلاطون وأرسطو، والمعنى في (33) واضح: إن العناصر (أو العوامل ) البسيطة أوضح وأقرب إلى المعرفة من الأشكال المتنوعة التي تتجلى بها في عالم الظواهر ونتصور عادة أنها أيسر منها في المعرفة؛ فالحروف البسيطة أسهل في المعرفة من المقاطع ... إلخ، ولهذا يحتل الحرف في سلم الأولويات مكانا أعلى من المقاطع والكلمات لأنه هو الشرط اللازم لوجودها، وتساق الحجة لإثبات أن تحصيل المعرفة الفلسفية ممكن ونافع وميسور، وهو تعبير عن الدعوة إلى التفلسف والحث عليه وتأكيد لصحة نسبته لكتاب أرسطو الذي يشغلنا.
وترد كلمة أيتيا
2 (العلل) في سياق هذه الفقرة خصوصا بعد الكلام عن قيمة التنظيم والتحديد في تيسير المعرفة، وحديث أرسطو عن العلل الأربع المشهورة تحديد لفلسفته عن الغاية وتوجيهه إليها، وهو كذلك تعبير عن تفكيره في أصول المعرفة وترابط الموجودات في نظام على أن «العلة» تجيب على سؤالين، فنحن نجيب على السؤال «عن أي طريق»؟ بذكر السبب أو العلة، مصداقا لقوله في كتاب الطبيعة (2-3، 194 ب19): «ولكننا لا نبلغ المعرفة قبل أن ندرك السبب في كل موضوع.»
أما السؤال: مم يتكون شيء؟ فنجيب عنه بذكر المادة والصورة «فالحروف هي علة المقاطع، والعناصر علة الأجسام»، وتحدد الصورة بذكر «التعريف، والكل أو التركيب والشكل» (الطبيعة، 2-3، 195أ 20)، وكل هذا يدل على أن تعليم الفلسفة في أكاديمية أفلاطون (التي عاش فيها أرسطو كما ذكرنا طالبا ومعلما وقضى فيها ثلث حياته) كانت تلتقي فيه نظرية المعرفة والمنطق ونظرية الوجود (الأنطولوجيا) في نسيج واحد، ويصور لنا أرسطو العلل الأربع المشهورة على هذا النحو: (أ)
ما يتكون عنه الشيء كالتمثال المكون من البرونز. (ب)
الشكل أو النموذج، أي تفسير ما يكون أساسيا بالنسبة للشيء أو لوجوده، وأنا أقصد بذلك النوع أو حدود التعريف (الطبيعة، 2-3، 194 ب26). (ج)
بداية التحول أو الحركة، كالناصح أو الأب بالنسبة للطفل، وبالجملة ما يحدث أثر أو نتيجة فعلية. (د)
صفحه نامشخص