وقال الأفندي الذي حادثه أولا: لجنة الموظفين لا تزال مضربة، وقد وضعت شروطا للعودة للعمل، وهكذا استمر الإضراب.
وقال آخر: الإضراب مستمر وإن كانوا قد أخذوا يجمعون الاكتتاب للوفد. - أعانهم الله. لا بد أن ينجح الوفد في مهمته.
واستمر الحديث بين الراكبين حتى بلغ زين العابدين الصاغة فنزل واختار سوارا من الذهب الثقيل دفع فيه عشرين جنيها، وعاد وقد عرف طريقه فوقف إلى موقف العربات الكارو فركب الدرجة الأولى، وصعد معه شاب يلبس الملابس البلدية، وأفندي لا تبدو عليه مظاهر الغنى، كما ركب إلى جواره في الدرجة الأولى وجيه يرتدي ملابس الفقهاء، وإن كان يبدو عليه أنه تاجر. وسارت العربة، وبدأ الأفندي غير الأنيق حديثه مع الذي يلبس الملابس البلدية: يا ليتني كنت أملك أكثر من هذا كنت قدمته. - وما له؟ كل إنسان يقدم ما يستطيع. أنا لم أجد شيئا، ولولا زوجتي لظللت حزينا طول العمر. - وما له يا أخي! ألستما زوجين؟ - نعم، ولكنها عروس جديدة، ولم أحضر لها إلا هذا العقد. - والله إنها عاقلة. - رأت مقدار ضيقي، فقالت لي بعه، وحين يأتي المال تشتري لي غيره. - هل بعته؟ - لا، سأقدمه إلى لجنة الاكتتاب، فإني أخشى إن بعته أن يبخسوا ثمنه؛ أنا اشتريته بعشرة جنيهات، ومعي عقد شرائه، سأقدمه هو والعقد إلى اللجنة، واللجنة ستبيعه بثمنه.
وسمع زين العابدين الحديث فعجب له، وراح يفكر في هذه القاهرة التي انتفضت هذه الانتفاضة، فلم يعد يسمع شيئا، إنما هو طنين من الدماء الفوارة في عروقه، إنه البعث. ووقفت العربة فما درى أين وقفت، ونزل الأفندي والشاب فوجد زين العابدين نفسه ينزل معهما، وسارا فسار خلفهما ودخلا بيتا وقدم كل منهما اكتتابه، وأخذ كل منهما إيصالا وانصرفا، وتقدم هو فقدم السوار الذي اشتراه ومعه العقد الذي يثبت ثمنه، وسأله الذي يتولى جمع الاكتتاب: اسم حضرتك؟
ودون وعي قال: أنيسة ولعة.
وقال الرجل مدهوشا: ماذا؟!
وانتبه زين العابدين ليقول: اكتب الإيصال باسم أنيسة ولعة.
وحين التقيا قدم لها الإيصال، فنظرت إليه نظرة عميقة، واحتضنته وهي تقول: هذه أعظم هدية نلتها، بل أظنها أعظم هدية سأنالها في حياتي؛ لقد جعلت مني إنسانة لها وطن وعليها واجب نحوه. أطال الله عمرك.
الفصل الخامس
كانت الحاجة بمبة جالسة في بهو بيتها تنتظر الحاج والي أن يعود، فهي تريده في أمر قد يدهش له، ولكنها تراه عدلا، ولا بد أن تقوم به.
صفحه نامشخص