تحلوا حلاله وتحرموا حرامه (واشكروا لله) الذي رزقتموها (إن كنتم إياه تعبدون) [172] أي إن تخصوه بالعبادة وتعترفوا أنه مولى النعم كلها، فقالوا للنبي عليه السلام إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرم ما هو فنزل «1» (إنما حرم عليكم الميتة) بالنصب مفعول «حرم»، أي ما حرم الله عليكم إلا الميتة، وهي التي تموت من غير ذكاة من الدواب سوى السمك والجراد لقوله عليه السلام «أحلت لي ميتتان ودمان» «2»، وسيق الكلام هنا على العرف والعادة (والدم) يعني الدم الجاري، والمراد بعضه ليخرج منه «3» الكبد والطحال لما مر من الخبر (ولحم الخنزير) أي جميع أجزائه وإنما عبر عنه باللحم، لأن الأصل من الحيوان اللحم والباقي تبع له (وما أهل به) أي وحرم ما ذكر عليه اسم (لغير الله) والإهلال: رفع الصوت في اللغة، وكان المشركون إذا ذبحوا رفعوا الصوت بذكر آلهتهم ثم رخص لعباده في أكل الميتة عند الضرورة بقوله (فمن اضطر) شرط مجزوم بكسر النون لالتقاء الساكنين وبضمها «4» اتباعا، أي أحوج وألجئ إلى أكل شيء مما حرمه الله فليأكل (غير باغ) نصب على الحال أي حال كونه غير ظالم على مضطر آخر، يعني لا يستأثر نفسه بأكله ويمنع غيره منه بل يتناول شيئا ويعطي الباقي لمضطر آخر (ولا عاد) أي غير متجاوز حد الشبع عند الأكل بالضرورة، وقيل: غير خارج على السلطان «5» ولا عاد على المسلمين بالسيف، قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز للعاصي بسفره أكل الميتة للضرورة ولا الترخص برخص المسافرين، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز «6»، قيل: «من اضطر إلى الميتة أو الدم أو لحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار» «7»، فدل ذلك على أن أكله حلال، وقيل: أكله حرام رفع عنه الإثم «8» بقوله (فلا إثم عليه) جواب الشرط أي لا حرج عليه في أكلها، واستدل عليه بقوله بعده (إن الله غفور) لأكله المحرم (رحيم) [173] بترخيص ذلك.
[سورة البقرة (2): آية 174]
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174)
قوله (إن الذين يكتمون) نزل في علماء اليهود الذين غيروا نعت محمد عليه السلام بالتأويل في كتابهم خوفا على زوال رياستهم وفوت مآكلهم ووظائفهم من أتباعهم «9»، أي أن الذين يسترون (ما أنزل الله من الكتاب) أي التورية (ويشترون) أي يختارون (به) أي بالمنزل (ثمنا قليلا) أي عرضا يسيرا (أولئك ما يأكلون في بطونهم) أي ملئها (إلا النار) لأن ذلك الأكل يؤديهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار (ولا يكلمهم الله) لغضبه عليهم أو بما ينفعهم (يوم القيامة) بل يكلمهم بسخطه عليهم (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من دنس الذنوب يوم يطهر المؤمنين من ذنوبهم بالمغفرة (ولهم عذاب أليم) [174] أي وجيع دائم بسبب كتمانهم الحق.
[سورة البقرة (2): آية 175]
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175)
ثم قال في شأن هؤلاء العلماء من اليهود (أولئك الذين اشتروا) أي اختاروا (الضلالة) أي الكفر (بالهدى) أي على الإيمان (والعذاب بالمغفرة) أي واختاروا النار على الجنة ونعيمها، قوله (فما أصبرهم على النار) [175] تعجيب من حالهم ومواظبتهم على ما يوجب لهم النار من غير مبالاة بها، أي أي شيء صبرهم عليها، يعني
صفحه ۸۸