وبه يغتبط «1» عند الناس، ومنه ما روي عن أنس رضي الله عنه: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا» «2» أي عظم في أعيننا، ولذا كانت القراءة في الصلوة أفضل بسورة تامة.
(وادعوا شهداءكم) استعينوا بآلهتكم الحاضرة القائمة أو بناس يشهدون لكم كشعرائكم وعرفائكم (من دون الله) أي من غير أوليائه، ومعنى «دون» أدنى مكان وأخفض من الشىء، ومنه الدون بمعنى الحقير، ويستعمل بمعنى التجاوز، ويستعار لتفاوت الأحوال والتغاير بين الشيئين، ومحل «من دون الله» نصب على الحال، أي متجاوزة من دون الله (إن كنتم صادقين) [23] أن محمدا اختلق القرآن من تلقاء نفسه، وهو شرط، جوابه محذوف، وهو فافعلوا ذلك، يدل عليه قوله (فإن لم تفعلوا) أي فان لم تفعلوا ما أمرتم به فيما مضى لعجزكم عن المعارضة، وجازم الفعل «لم» لقربه وتوغله في الجزم دون إن، وإنما أورد إن التي للشك مع أن عجزكم ظاهر، لأن اتيانهم به قبل التأمل كان كالمشكوك فيه لديهم على فصاحتهم وبلاغتهم، وإنما عبر الاتيان مع ما يتعلق به بالفعل طلبا للاختصار.
[سورة البقرة (2): الآيات 24 الى 25]
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24) وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25)
ثم نفى الفعل بالتأكيد بقوله (ولن تفعلوا) في المستقبل، يعني لن تطيقوا عليه أبدا لظهور إعجاز القرآن بينكم، فانه معجزة النبي «3» عليه السلام، و«4» «لن» فيه لتأكيد النفي في المستقبل، والواو للابتداء، ولا محل له من الإعراب لعدم وقوعه موقع المفرد لكونه اعتراضا بين الشرط وجوابه، وهو قوله (فاتقوا) أي احذروا بالتوحيد لعجزكم عن الاتيان بمثله وجحدكم بغير حجة (النار التي وقودها) أي حطبها، وهو ما يوقد به النار (الناس) أي العصاة (والحجارة) أي حجارة الكبريت، والمراد أن أكثر وقودها الناس والحجارة، وقيل: الحجارة أصنامهم التي نحتوها واتخذوها أربابا يعبدونهم من دون الله «5»، وقيل: يكون مع كل إنسان من الكفار حجر معلق في عنقه إذا طفئت به النار رسب به الحجر إلى قعر جهنم «6»، قيل: إنما جعل حطبها من حجارة الكبريت لسرعة وقوعها وبطوء خمودها وشدة حرها ولصوقها بالبدن وقبح رائحتها «7»، وإنما عرفت «النار» هنا ونكرت في سورة التحريم «8»، لأن الآية فيها نزلت بمكة، فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة، ثم نزلت هذه بالمدينة، فأشار بها إلى ما عرفوه أولا (أعدت للكافرين) [24] بالقرآن ومحمد عليه السلام، وهذا لا يدل على اختصاصهم بها، قيل: في هذه الآية دليلان على ثبوت النبوة، أحدهما: كون المتحدى به وهو القرآن معجزا، والثاني:
الإخبار بأنهم لن يفعلوا ذلك وهو غيب لا يعلمه إلا الله «9»، وذلك أن النبي عليه السلام عارضهم باتيان سورة من مثل القرآن، فعجزوا حتى بذلوا أموالهم ودماءهم دون ذلك وكونهم من الفصاحة والبلاغة بحيث لا يخفى لأحد من العقلاء، فظهر أن القرآن معجز في نفسه بنظمه ومعناه، وهم ما عارضوه بشيء، فعلم أنهم ما أتوا بمثله وإلا لتواتر بين الناس لتوفر الدواعي على نقله، وحيث لم ينقل علم عدم اتيانهم به، وكان الإخبار عنه إخبارا بالغيب فيكون معجزة للنبي عليه السلام، فثبت عندهم صدقه، لكنهم لزموا العناد، ولم ينقادوا، فاستوجبوا العقاب بالنار، ولذا قيل لهم «فاتقوا النار»، أي احذروا سخطي، وهذا من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة، ومن عادة الكتاب العزيز أن يذكر الترغيب مع الترهيب، فلذلك قال (وبشر) عطفا
صفحه ۳۶