عثمان بن عفان: بین خلافت و ملک
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
ژانرها
وربما استبقى العرب أنفسهم هذه البقية الضئيلة من الأمل في نفوس الفرس. فقد كان المسلمون الذين أقاموا بالبصرة وبالكوفة طرازا غير طراز المسلمين الذين أقاموا بالشام وبمصر. كان المسلمون الذين آزروا معاوية بالشام، والمسلمون الذين آزروا عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بمصر، أكثرهم من أهل مكة والمدينة من المهاجرين والأنصار، وكثير منهم صحب رسول الله وامتثل تعاليمه وقاتل في سبيل الله معه. وهؤلاء لم يكن يثور بينهم نزاع أو تتلظى بينهم فتنة إلى سنوات عدة من عهد عثمان؛ لذلك لم يكن عمر ولا كان عثمان بحاجة إلى تغيير ولاتهم الحين بعد الحين، بل استقر معاوية بالشام منذ ولاه عمر عليه إلى أن صار الملك إلى بني أمية فاتخذوا دمشق عاصمتهم، واستقر ابن العاص ثم استقر عبد الله بن سعد من بعده بمصر إلى آخر العهد بعثمان. أما أهل البصرة والكوفة فكانوا من قبائل العرب البعيدة عن مكة والمدينة، قل منهم من كان قد صحب النبي أو استمع إليه أو قاتل معه؛ لذلك كانت العصبية القبلية كثيرا ما تثور بينهم، وكثيرا ما كان أمير المؤمنين يضطر لتغيير ولاتهم. ومنازعاتهم وبرمهم بالولاة هو الذي دفع عمر بن الخطاب ليقول: «هات أمرا أن أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.»
ثم إن القبائل التي سكنت البصرة والكوفة كانت لا تفتأ تظهر البرم بسلطان قريش، ويذكر بنوها أن الفتح في فارس تم بأيديهم، فليس لقريش حق في التسلط عليهم، وكانت أنباء ذلك تصل إلى الفرس في شتى الولايات، فكانت تشجعهم على الثورة والانتقاض الحين بعد الحين.
وكانت أنباء ما يحدث من ذلك تبلغ يزدجرد في منفاه فيحرك في نفسه شعاعة من أمل في مناوأة العرب، واستخلاص عرشه من أيديهم، وقد كان له في كثير من الولايات أنصار يؤمن بعضهم بحقه المقدس في العود إلى عرش آبائه، ونجحوا في أن يبثوا في قلوب البعض الحقد على الفاتحين الذين سلبوهم سلطانهم، فكان هؤلاء وأولئك يعملون على بث القلق وإلهاب النفوس ودفعها للثورة والانتقاض.
كانت هذه العوامل تتحرك في عهد عمر، لكنها كانت أشد بروزا في عهد عثمان. ذكرنا من قبل أن عثمان أبقى المغيرة بن شعبة على ولاية الكوفة سنة أربع وعشرين للهجرة تنفيذا لوصية عمر ألا يعزل الخليفة من بعده واليا من ولايته قبل انسلاخ عام من وفاته. وكان عمر حين سمى الشورى سمى سعد بن أبي وقاص بينهم؛ فقد قال: «فإن أصابت الخلافة سعدا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.» أما وسعد بطل القادسية وفاتح المدائن ومنشئ البصرة والكوفة فلا عجب أن يوليه عثمان إمارة الكوفة خلفا للمغيرة بن شعبة. وتولاها سعد فذكرت ولايته الناس بحميد فعاله في العراق كله. مع ذلك تحركت نفوس الفرس؛ لأنهم لم يذوقوا في بلادهم بأسه، فلم تنخلع قلوبهم لسماع اسمه. يقول البلاذري: «إن سعد بن أبي وقاص لما ولى الكوفة لعثمان بن عفان ولى العلاء بن وهب ماه وهمذان، فغدر أهل همذان ونقضوا، فقاتلهم. ثم إنهم نزلوا على حكمه فصالحهم على أن يؤدوا خراج أرضهم وجزية الرءوس ويعطوا مائة ألف درهم للمسلمين، ثم لا يعرض لهم في حرمة ولا مال ولا ولد.»
ولم تكن همذان وحدها هي التي انتقضت في عهد عمر، وفي عهد عثمان. بل انتقضت غيرها مدن وولايات كثيرة. وقد كانت الري كثيرة الانتقاض منذ فتحها نعيم بن مقرن في عهد عمر. يقول البلاذري:
5 «لما ولي سعد بن أبي وقاص الكوفة في مرته الثانية أتى الري وكانت ملتاثة فأصلحها، وغزا الديلم وذلك في أول سنة خمس وعشرين، ثم انصرف. وحدثني بكر بن الهيثم عن بكر بن ضريس قاضي الري، قال: لم تزل الري بعد أن فتحت أيام حذيفة تنتقض وتفتح حتى كان آخر من فتحها قرظة بن كعب الأنصاري في ولاية أبي موسى الكوفة لعثمان فاستقامت.»
لم تغن فعال سعد عنه، فلم يبق واليا على الكوفة غير سنة وبعض السنة ثم عزله عثمان عنها، وولى مكانه الوليد بن عقبة. ويذكرون سببا لعزله أنه استقرض مالا من بيت المال، وكان عليه عبد الله بن مسعود. فلما تقاضى عبد الله سعدا ما استقرضه لم يتيسر لسعد أداؤه، فاستعان قوما عند عبد الله لينظره إلى ميسرة، وأبى عبد الله وألح في اقتضاء ما لبيت المال عند والي الكوفة. وتلاقى سعد وعبد الله بعد ذلك، فقال ابن مسعود: «أد المال الذي قبلك»، فقال سعد: «ما أراك إلا ستلقى شرا، هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل؟!» ويجيبه عبد الله بن مسعود: «وإنك لابن حمينة.» ويشتد الجدال، فيتدخل أحد حضور المجلس قائلا: «والله إنكما لصاحبا رسول الله ينظر إليكما.» ولم يهدئ هذا القول، ولا هدأ ما قيل من مثله من حدتهما، ثم خرج سعد رافعا يديه يكاد يستنزل اللعنة على عبد الله، ورفع إلى عثمان ما حدث فغضب على الرجلين وهم بعزلهما. ثم إنه راجع نفسه فرأى سعدا أحق باللوم؛ لأن امتناعه عن أداء ما عليه هو الذي جر إلى النزاع، فجريرة سعد فيما وقع أعظم؛ لذا عزله عن الكوفة واستبقى ابن مسعود على بيت المال وأسند منصب سعد إلى الوليد بن عقبة.
كان الوليد بن عقبة أمويا كعثمان، وكان إلى ذلك أخا عثمان لأمه. وكان متهما بشرب الخمر. لكنه كان شجاعا جريء الجنان. سبقنا إلى ذكر فعاله حين انتقضت أذربيجان وكيف ردها إلى الطاعة، وكيف قاد الذين قاتلوا المنتقضين في أرمينية. ثم إنه كان رجلا حازما حسن الإدارة يستعين على أهواء الخاصة وشهواتهم بتألف قلوب الكافة وتقريبهم منه بالعطاء. قيل: «كان الوليد أدخل الناس على الناس خيرا، فكان يقسم للولائد والعبيد.»
6
ويقول الطبري: «كان الناس في الوليد فرقتين، العامة معه والخاصة عليه؛ لذا كان محبوبا إلى الناس قريبا إلى قلوبهم. بقي في ولاية الكوفة خمس سنين وليس لداره باب، ولا يجترئ عليه مع ذلك مجترئ لمحبة الناس له وتعلقهم به»؛ ولذا كان جند الكوفة طوع بنانه، وكانوا على أهبة دائمة للقضاء على كل انتقاض يقع في ولايات فارس الخاضعة لسلطانه. على أن أخذه الخاصة بالشدة انتهى إلى ائتمارهم وتربصهم، حتى إذا أمكنتهم الفرصة شكوه إلى عثمان لشربه الخمر فاستقدمه، وأقام عليه الحد وعزله، وولى سعيد بن العاص بن أمية مكانه. وسنعود عند الكلام عن حكومة عثمان إلى تفصيل الأسباب التي أدت إلى ائتمار المؤتمرين بالوليد بن عقبة، وكيف نجحوا في إقناع الخليفة بإقامة الحد عليه وعزله.
صفحه نامشخص