عثمان بن عفان: بین خلافت و ملک
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
ژانرها
وكان عثمان إلى حبه المسالمة سخيا بماله فيما يصلح المسلمين. لما أزمع رسول الله الخروج لغزو الروم بتبوك وجهز جيش العسرة شارك عثمان في هذا الجهاز بثلاثمائة بعير كاملة العدة، وبألف دينار وضعها في حجر رسول الله يعين بها على تجهيز الغزاة. ورأى رسول الله ما صنع عثمان، فقال: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»، وكررها مرتين. وكان ليهودي بالمدينة بئر يبيع المسلمين ماءها بما يبهظهم، فقال رسول الله يوما لأصحابه: «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة.» فأتى عثمان اليهودي فساومه فيها فأبى أن يبيعها كلها فاشترى منه نصفها باثني عشر ألف درهم، واتفق مع اليهودي على أن يكون له يوم ولعثمان يوم. وجعل المسلمون يسقون في يوم عثمان ليومين. وذهب اليهودي إلى عثمان فقال له: «أفسدت على بئري فاشتر النصف الآخر.» فاشتراه للمسلمين بثمانية آلاف درهم، وجعل رشاءه فيها كرشاء رجل من المسلمين.
وكان عثمان شديد العطف على ذوي قرباه. وقد بالغ في هذا العطف مبالغة كان لها من بعد في حياته وفي حياة الدولة أبعد الأثر. ولم يكن هذا العطف من ضعف الشيخوخة بعد ولايته إمارة المؤمنين كما ظن بعضهم، بل كان بعض خلقه. لما فتح رسول الله مكة عفا عن قريش كافة إلا جماعة عينهم بأسمائهم ارتكبوا جرائم عظمى، فلم يكن لهم في العفو العام متسع. وهؤلاء أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة. وكان من هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان للرضاعة. فقد كان أسلم وكان يكتب الوحي لرسول الله ثم ارتد مشركا إلى قريش وزعم أنه كان يزيف ما يكتب من الوحي. وعرف ابن أبي سرح أمر رسول الله بقتله، ففر إلى عثمان فغيبه حتى اطمأن الناس بمكة ثم ذهب به إلى رسول الله فاستأمن له. يقول ابن هشام في السيرة: فزعموا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صمت طويلا ثم قال: نعم. فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليتقدم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إلي يا رسول الله؟ قال: «إن النبي لا يقتل بالإشارة.» وقد كان هذا العطف من عثمان بعض ما أوخذ به من بعد.
تشهد شفاعة عثمان للعفو عن عبد الله بن سعد بشدة عطفه على ذوي قرابته، وهي تشهد كذلك بما كان لعثمان عند رسول الله من مكانة جعلته، وهو يود لو يقوم من أصحابه من يقتل ابن سعد، ينتهي مع ذلك إلى العفو عند إرضاء لعثمان؛ ولعله فعل لأنه رأى، وهو يعرف من حياء عثمان ما يعرف، أن ابن عفان ما كان ليتغلب على حيائه، ولم يبلغ من حرصه على الإبقاء على ابن سعد أن يتحدث في ذلك إلى رسول الله بمحضر من هؤلاء الذين كانوا بمجلسه؛ لذلك أشفق إن هو رفض رجاء عثمان فيوجع قلبه، أو أن يجعل لبني أمية ما يعيرونه به.
وهذه المكانة هي التي جعلت رسول الله يستخلف عثمان على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، ثم يستخلفه عليها في غزوته إلى غطفان.
على أن ما كان لعثمان من هذه المكانة في قلب رسول الله لم يجعل له من الرأي في سياسة النظام الناشيء ما كان لأبي بكر وعمر. فأبو بكر وعمر كانا وزيري رسول الله وصاحبي مشورته، فكانا إذا اتفقا في أمر لم يخالفهما فيه أبدا. ولم يكن لعثمان من الرأي في الحرب ما كان لسعد بن أبي وقاص أو الزبير بن العوام. وإنما كان عثمان رجلا ورعا شديد الإيمان، منصرفا إلى العبادة وتلاوة القرآن، وكان كريما سخي اليد، فكان له بذلك كله عند رسول الله منزلة زاد فيها إحسانه معاشرة زوجتيه رقية وأم كلثوم.
وكان شأن عثمان في عهد أبي بكر كشأنه مع رسول الله. كان منصرفا إلى تجارته، وكان يدع لخليفة رسول الله من حرية التصرف في شئون الدولة ما توجبه التبعة الملقاة على عاتقه أمام الله وأمام المسلمين. لما عزم الصديق غزو الشام بعد غزو العراق دعا إليه جلة المهاجرين والأنصار يشيرون عليه. أما عمر فشجعه على المضي فيما يريد وكان مما قاله: سرب إليهم الخيل في إثر الخيل وبعث الرجال والجنود تتبعها الجنود. وأما عبد الرحمن بن عوف فدعا إلى الحيطة والحذر، وكان مما قاله: «والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير في أداني أرضهم، ثم تبعثها تغير فترجع إليك، ثم تبعثها فتغير ثم ترجع إليك. فإذا قبلوا ذلك مرارا اضرب بعددهم حتى تبلغ من أداني أرضهم قعودا فتقوى بذلك على قتالهم.» وسكت الناس بعد الذي سمعوا من ابن عوف فسألهم أبو بكر: ماذا ترون وحكم الله؟ وبعد هنيهة قال عثمان: «أرى أنك ناصر لأهل هذا الدين شفيق عليهم، فإن رأيت رأيا لهم فيه رشد وصلاح وخير فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين، ولا متهم عليهم.» وسارع الحاضرون حين سمعوا قول عثمان فأقروا رأيه، وألقوا التبعة كلها على الخليفة.
وكان عثمان ممن أحسنوا الشهادة في عمر حين أراد أبو بكر أن يستخلفه، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه. فقد كان كثيرون ممن استشارهم الصديق مشفقين من غلظة عمر وشدته. أما عثمان فأجاب الصديق حين سأله عن عمر: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله.» فلما بويع عمر أقام عثمان بالمدينة يباشر تجارته ويشير على أمير المؤمنين مع المشيرين عليه. ولكنه خالف عمر غير مرة. لما طلب أهالي بيت المقدس الصلح على أن يحضر عمر بنفسه إلى مدينتهم كان رأي عثمان ألا يفعل. قال مخاطبا أمير المؤمنين: «فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف، ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلى السير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» وخالفه علي بن أبي طالب، وأشار على عمر بالسير إلى بيت المقدس، فقد أصاب المسلمين جهد عظيم من استمرار الحرب والقتال وطول المقام. وآثر عمر رأي علي وأخذ به واستخلفه على المدينة وسار والناس معه فعقد صلح بيت المقدس.
وكان عثمان على رأس المعارضين في فتح مصر والذين يخالفون ابن العاص عن رأيه في ذلك ويعترضونه. وبلغ من شدة ابن عفان في هذه المعارضة أن قال لعمر: يا أمير المؤمنين إن عمرا لمجرأ وإن فيه حبا للإمارة، فأخشى أن يخرج من غير نفر ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلك رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا! وقد حشد عثمان لمعارضة ابن العاص في فتح مصر قوة من الرأي العام بالمدينة حسب عمر حسابها رغم اقتناعه برأي ابن العاص ومشاركته إياه فيه؛ لذلك لم يواجه عثمان والذين عارضوا معه، بل تحايل على معارضتهم بأن ترك لعمرو فرصة الدخول إلى مصر وقتال الروم فيها، واستنقاذها من أيديهم خالصة للمسلمين. هاتان مسألتان من كبريات المسائل التي وجهت تاريخ الإسلام، والتي خالف فيها رأي عثمان.
صفحه نامشخص