إن أهالي مصر كأنهم ذهلوا عن الأسباب التي مكنت الإنجليز من بلادهم، كأنهم يظنون أن المصريين كانوا على كلمة واحدة في مدافعة الإنجليز، ثم تغلبت عليهم القوة الإنجليزية وقهرتهم جميعا. كأن المصريين نسوا ما كان بينهم وأن الإنجليز ما دخلوا بلادهم إلا بمعونتهم، هذا هو الوهم العجيب.
إن الذين كانوا من مدة سنتين سببا في تغلب العساكر الإنجليزية وحلولها في وادي النيل وأنه لولاهم ما استقر لها قدم فيه؛ يظنون الآن أن تلك العساكر قادرة على قهر الأهالي عموما وإخضاعهم لحكومة بريطانيا، وبهذا الظن الباطل يستسلمون لأعدائهم كرها ويجارونهم في أهوائهم نفاقا.
هلا ينظر المصريون نظرة متأمل إلى القوة الإنجليزية؛ ليعلموا أن ليس في طاقة بريطانيا، لو أفرغت جهدها، أن تبعث إلى مصر والسودان أزيد من عشرين ألف جندي! ألا يعلمون أنه إذا اشتغل الجند الإنجليز بالسودان وحصلت حركة خفيفة في الشرقية والبحيرة والفيوم لارتبك الإنجليز وخارت عزائمهم والتجئوا لترك البلاد لأهلها؟! ألا قاتل الله الوهم!
إن للإنجليز قوة حربية بحرية لا تنكر، ولكن مبلغ تلك القوة البحرية هو الذي ظهر أثره في سواكن لا يمكن أن تعمل عملا فيما يبعد عن البحر أكثر من فرسخين، فلو فرضنا أن الإنجليز أطلقوا قنابلهم على السواحل، فهل في استطاعتهم أن يقيموا تحت ظلال القنابل إلى أبد الآبدين؟! إذا كان الأهالي في داخل البلاد يناوئونهم وليس لهم من القوة العسكرية البرية ما يقهرهم على الطاعة، ليس في الأمر شيء سوى الوهم، هذا الوهم تمزقت حجبه عن بصائر الغربيين فعلموا من هم الإنجليز ... ضعيف يسطو على حقوق الأقوياء، صوت عال وشبح بال، قامت الدول على معارضتهم؛ لعلمها أن الإنجليز صاروا للأمم كالدودة الوحيدة على ضعفها تفسد الصحة وتدمر البنية، لكن بقي أن يزول هذا الوهم عن الشرقيين؛ حتى يستفيدوا من هذه الحركات ويستقلوا بأمورهم ولا ينتقلوا من عبودية إلى أخرى، ولا يستبدلوا سيدا أجنبيا بسيد آخر، اللهم ارفع عنا حجب الأوهام، وهيئ لنا الرشد في أمورنا، واحفظنا من الغواية، واهدنا إلى خير نهاية.
الفصل الرابع والعشرون
الجبن
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة . (النساء: 78)
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم . (الجمعة: 8)
شهد العيان ودلت الآثار على ما صدر من بعض أفراد الإنسان من أعمال تحير الألباب، وتدهش الأفكار، ينظر إليها ضعفاء العقول فيعدونها معجزات وإن لم تكن في أزمنة النبوات، ويحسبونها خوارق عادات وإن لم تكن من تحدي الرسالات، وقد ينسبها الغفل إلى حركات الأفلاك وأرواح الكواكب وموافقة الطوالع، ومن القاصرين من يظنها من أحكام الصدف وقذفات الاتفاق؛ عجزا عن إدراك الأسباب، وفهم الصواب.
وأما من آتاه الله الحكمة ومنحه الهداية، فيعلم أن الحكيم الخبير - جل شأنه وعظمت قدرته - أناط كل حادث بسبب وكل مكسوب بعمل، وأنه قد اختص الإنسان من بين الكائنات بموهبة عقلية ومقدرة روحانية، يكون بهما مظهرا لعجائب الأمور، وبهذه المقدرة وتلك الموهبة مناط التكاليف الشرعية، وبهما استحقاق المدح أو الذم عند العقلاء، والثواب أو العقاب عند واسع الكرم سريع الحساب.
صفحه نامشخص