والإنسان مجبول بالطبع على النفرة ممن يتعدى على حقوقه أو يمنعه حقا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين سفيهين جبانين بخيلين (كل يمنع الآخر حقه)، شرهين حاقدين حاسدين متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه)، لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين، هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته قاضيا بانتباذ كل من صاحبه وإن لم تكن داعية، وكفى بخلقه وصفته باعثا قويا للتنابذ.
هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها ونثرت أعضاءها بددتها شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي؛ أن تسطو على هذه الأمة قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر، فإن حاجاتهم في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، فلا بد من قوة خارجة تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة.
هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم صار بأسهم بينهم شديدا، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم، ويفتخرون بالانتماء إليهم، يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم ، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم، ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحا، وكل جليل منهم حقيرا، إذا نطق أجنبي بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم ونفائس الحكم، وإذا غاص أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف ومن المحال أن يوجد بيننا خبير! ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب، ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها.
يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم، وجمع كلمتهم، ويقعدون له بكل سبيل، يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار، تراهم بتضارب أخلاقهم وتعاكس أطوارهم كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم، فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه الأخلاق يجعلهم منبعا ومبعثا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكلب، أول ما يبدأ بعض صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق، أول ما يفتك بمربيه ومهذبه ثم يثني بطبيبه ومن يعالج داءه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من نحو الجذام والآكلة، يمزقون الأمة قطعا وجذاذات بعدما يشوهون وجهها ويشوشون هيئتها.
أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسائس لتغلب النذالة على سائر أوصافهم، فينتفخون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلا عن عليتهم، وبهذا يمكنون الذلة في نفوسهم، من دونهم، ويطبعونها على الخضوع للغرباء، بل الأعداء الألداء، من طبقة إلى طبقة حتى تضمحل الأمة وتنسخ هيئتها وتفنى في أمة أو ملة أخرى، سنة الله في تبديل الدول وفناء الأمم
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، أعاذنا الله من هذه العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من المصير إلى هذه النهاية.
بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتمحص النفوس من الرذائل، حتى تسعد الجمعيات البشرية بالاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد «كل مولود يولد على الفطرة» مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها وقد كانوا ناشئين على مثل ما نشأ وليدهم؟ يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل بآثارها؛ إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به فيصيبوا حظا وافرا مما يرشد إليه فيتمتعوا بحياة طبية وعيشة مرضية؛ إلا إذا قام رؤساء الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم؛ من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها وتذكير الساهين عن هديها، أما إذا أهمل خدمة الدين وظائفهم أو تهاونوا في تأدية أعمالها؛ ضعف اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان الاختيار مع الهوى، فحشدت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقا.
هذه علل الخراب في كل أمة، لقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددا من بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل بقايا بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل فيهم، بعدما بدلوا وغيروا، كما في طائفة الدهيرو «منك» من سكنة الأقطار الهندية المعروفين عند الأوروبيين بطائفة «باريا»
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ، فالدين وهو السائق إلى السعادة في الدنيا كما يسوق إليها في الآخرة.
تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض وسلبهم تيجان عزهم وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا يكون ناشئا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه بحكم قول الله في كتابه :
صفحه نامشخص