ومع كل هذا، فهذه الجريدة تتبع سير الداعين إليها والحاملين عليها، لا تظهر إذا أدلجوا، ولا تنجد إذا غوروا، وتذهب مذاهب الرشد، وتصيب - بحول الله - مواقعه عند من سبق في أزلي علم الله هدايته، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وترسل إلى الذين نعرف أسماءهم مجانا بدون مقابل ليتداولها الأمير والحقير والغني والفقير، ومن لم يصل إلينا اسمه فما عليه إلا أن يكتب إلى إدارة الجريدة بالاسم المعروف به ومحل إقامته على النهج الذي يريده، والله الموفق.
الفصل الأول
الجنسية والديانة الإسلامية
إن استقراء حال الأفراد من كل أمة واستطلاع أهوائها؛ يثبت لجلي النظر ودقيقه وجود تعصب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم، وإن المتعصب لجنسه منهم ليتيه بمفاخر بنيه ويغضب لما يمسهم حتى يقتل دون دفعه بدون تنبه منه لطلب السبب ولا بحث في علة هذا الوجدان، حتى ظن كثيرون من طلاب الحقيقة أن التعصب للجنس من الوجدانيات الطبيعية، إلا أنه يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل ولد في أمة من الأمم ثم نقل قبل التمييز إلى أرض أمة أخرى وربي فيها إلى أن عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه ميلا إليه، بل يكون خالي الذهن من قبله، ويكون مع سائر الأقطار سواء، بل ربما كان آلف لمرباه وأميل إليه؛ والطبيعي لا يتغير.
ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي، ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفس، ترسمها على ألواحها الضرورات؛ فإن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة، وفي أفراده ميل إلى الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية زكية، وسعة المطمع إذا صحبها اقتدار تدعو بطبعها إلى العدوان؛ فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض آخر، فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابا طوالا إلى الاعتصاب بلحمة النسب على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس، فتوزعوا أمما كالهندي والإنجليزي والروسي والتركماني، ونحو ذلك، ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده المتلاحمة قادرا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر، ثم تجاوزوا في ذلك حد الضرورة - كما هي عادة الإنسان في أطواره - فذهبوا إلى حد أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه، علما بأنه لا بد أن يكون جائرا إذا حكم، ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذلا تحس به النفس، وينفعل له القلب.
فلو زالت الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في الحدوث - بلا ريب - وتبطل الضرورة بالاعتماد على حاكم تتصاغر لديه القوى وتتضاءل لعظمته القدرة وتخضع لسلطته النفوس بالطمع، وتكون بالنسبة إليه متساوية الأقدام وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض، ثم يكون القائم من قبله بتنفيذ أحكامه مساهما للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين، فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى وأيقنت بمشاركة القيم على أحكامه لعامتهم في التضامن، لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه السلطة المقدسة، واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمحي أثرها من النفوس، والحكم لله العلي الكبير.
هذا هو السر في إعراض المسلمين - على اختلاف أقطارهم - عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإسلامية؛ فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الروابط الخاصة إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقد.
لأن الدين الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق، وملاحظة أحوال النفوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى، بل هي كما كانت كافلة لهذا؛ جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد وبيان الحقوق كليها وجزئيها، وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود وتعيين شروطها، حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد الناس خضوعا لها، ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية وثروة مالية، وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة، وليس للوازع أدنى امتياز عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها .
وكل فخار تكسبه الأنساب وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع أثرا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض، بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع، والمعتمد عليها مذموم والمتعصب لها ملوم، فقد قال
صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية»، والأحاديث النبوية والآيات المنزلة متضافرة في هذا، ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من يفوق الكافة في التقوى - اتباع الشريعة: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ومن ثم قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف الأجيال؛ من لا شرف له في جنسه، ولا امتياز له في قبيله، ولا ورث الملك عن آبائه، ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه، وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعه للشرع وعنايته بالمحافظة عليه.
صفحه نامشخص