تريد دولة إنجلترا أن تصد المسلمين عن حج بيت الله الحرام في هذا العام وربما فيما بعده؛ حتى لا تصل أخبار محمد أحمد وتورط الإنجليز في مقاومته إلى مسامع الهنديين، ولكن سيحمل هذه الأخبار إلى تلك الأقطار حجاج الأفغانيين والبلوجيين الذين يسلكون إلى الحج طريق البصرة والكويت، بل يبلغونها على وجه أبلغ مما لو سمعوها بآذانهم.
هذا تأييد إلهي للدولة العثمانية، فعليها أن تنهض بعزيمة صادقة وجأش ثابت وهمة تليق بمكانتها في المغلوب، وعلى السلطان العثماني أن يتذكر أنه خلف لأولئك الأسلاف العظام الذين ما أضاعوا حقا ولا أهملوا فرضا، ويقتضي من الإنجليز حقه ويسترد مصر من أيديهم ويطهرها من جراثيم الفساد، ولا يقنع بما دون الحق ولا يدع لهم فيها شأنا إلا بما يساوون فيه غيرهم من الدول، ولا تفوتن العثمانيين فرصة هذا الارتباك الذي سقط فيه الإنجليز كما فات الإيرانيين الانتفاع بثورة الهند في الأيام الماضية لتأخر خبر الثورة عنهم، وإلا لكانوا أوقعوا بالإنجليز ونالوا الغاية من ضرهم.
على العثمانيين أن يتلافوا الأمر قبل أن يشب الإنجليز حربا صليبية بين الحبش والمسلمين على نفقة الحكومة المصرية، ليس للدولة العثمانية أن تتهاون في مطالبها أو تتحاشى الدفاع عن حقوقها الثابتة، ولا أن تخشى في ذلك تهويل الإنجليز وجلبتهم؛ فإن كثيرا من الدول - على اختلاف مقاصدها السياسية - يوافقونها على تخليص مصر من مخالب الإنجليز كما دلت عليه منشورات الجرائد ورواياتها عن مقاصد السياسيين من كل دولة.
بل الذي يفهم من جملة مقالاتهم أنه لا توجد دولة من الدول ترضى بأن يكون المؤتمر وسيلة لاستيلاء الإنجليز على مصر أو وضعها تحت حمايتهم، خصوصا دولة فرنسا ودولة الروس، وإليك طرفا من آراء الجرائد وما تنقله عن السياسيين، قال مراسل التايمس في باريس: «إن فرنسا لم تقبل ولن تقبل أن يكون بحث المؤتمر منحصرا في المسائل المالية»، ولقد أصابت فرنسا في عدولها عن طلب المراقبة المشتركة بينها وبين إنجلترا ورغبتها في مراقبة يشترك فيها جميع الدول؛ فإن في ذلك فوائد عظيمة لها ولغيرها ولا أظن أن حكومة إنجلترا وافقت على ما ترغب فرنسا، كما لا أظن أن فرنسا تتساهل فيما تريد، وعلى هذا، فإما أن ينعقد المؤتمر ولا تكون مداولاته مقصورة على مشكلات المالية وإما لا يلتئم أصلا.
ولا أمل لإنجلترا إلا في التستر تحت حيلتها، وهي أن ترغب إلى الدول عقد مؤتمرين متعاقبين، أولهما للمالية وبعده ينعقد الثاني؛ للنظر فيما لم ينظر فيه الأول، وقال مراسل الديلي تلغراف في ويانا: «إن خطاب المستر جلادستون الذي ألقاه في مجلس النواب حرك دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا للاتفاق في المسألة المصرية، فصرحت جميعها بأن مصالحها في مصر تقضي عليها العمل في حل هذه المسألة، وليس من سياسة واحدة منها أن تنتظر زمنا طويلا بعد ما مضى من الحوادث مع ما يتوقع نزوله بمصر من النكبات، واستقر رأي الدول الثلاث على المداخلة في وقتها المناسب، وقد انحلت ثقتها في مسلك الوزارة الإنجليزية.»
وورد من فيينا إلى جريدة التان الفرنسية الشبيهة بالرسمية من مكاتبها برقية قال فيها: «إنه اجتمع مع رجال عظام في تلك المدينة واستطلع أفكارهم في المسألة المصرية، فإذا هم متباينون في الرأي، فمن ظن بعضهم أن الواجب على دولة النمسا أن تأخذ جانبا عن هذه المسألة وتوسع المجال لدولة إيطاليا؛ فإنها إن فعلت ذلك أرضت إيطاليا بدون أن يلحق ضرر بمصلحتها ووافقت رغائب ألمانيا، ومن رأي بعضهم أن حكومتهم لا يسوغ لها التخلي عن رعاية مصالحها في مصر مرضاة لإيطاليا، بل لا يمكنها هذا. وقد أخطأ من يظن أن ليس للنمسا منافع في البلاد المصرية.»
ثم قال الكاتب: «تلاقيت مع رجل سياسي له شهرة بحرية الفكر وإصابة الرأي ، فمن كلامه: إن دولة ألمانيا ربما تجعل المسألة المصرية وسيلة لمراضاة الإيطاليين ؛ بأن تعد لهم فيها مقاما رفيعا؛ لأن ألمانيا ليس لها قوة بحرية ولا يهمها ما يجري في البحر الأبيض إلا بطريق العرض، أما النمسا فإن لها في ذلك البحر مركزا مهما فحالها من هذه الجهة يخالف حال ألمانيا، على أن حركات السياسة البرية لا بد أن تقذف بها إلى ذاك البحر وهو مما يزيدها حرصا على تعزيز جانبها فيه، وليست المسألة المصرية إلا مسألة البحر الأبيض فمن له فيه شأن يراعيه فله الشأن في المسألة المصرية، وعلى حسب درجة الأول تكون درجة الثاني.»
ثم أطال الكلام في بيان المنافسة السياسية بين دولة النمسا وإيطاليا، وما يطمح إليه نظر كل منهما، غير أن هذا ليس مما يمنع الدولتين عن الاتفاق في معارضة الإنجليز وخفض منزلتهم في مصر والبحر الأبيض.
أما جرائد فرنسا ورجال سياستها فعلى رأي واحد في وجوب تحويل المسألة المصرية عن وجه كونها إنجليزية إلى وجه كونها دولية أوروبية، وارتاحت لهذا نفوس الدول ومالت إليه أفكارهم، نسأل الله حسن العاقبة، وإليه المصير.
الفصل السادس والخمسون
صفحه نامشخص