ففي أحد الأيام سأله رفاقه قائلين: ما الذي ستراه من طرف حجرتك يا فارس؟ - أشياء كثيرة يا رفاقي، أشياء جميلة عذبة؛ فعلى مقربة من حجرتي ينبسط طريق حديدي لا يحرمني رؤية القطارات! - إنك لنشيط سعيد يا فارس! فستأكل من ثمار شجراتك وتشرب من عصير كرمتك. إنا لنرغب في مثل هذه الحياة عندما تدق ساعة العزلة. •••
في تلك الآونة كانت السيدة فارس متكئة على حافة نافذتها تتسمع إلى دوي القطار الأخير الذي وصل إلى المحطة يملأ سكينة الليل، وتنظر إلى المسافرين يذهبون ويجيئون في ساحة المحطة؛ وكانت تفكر قائلة في نفسها: سيحضر زوجي بعد دقائق قليلة! يا الله كم أنا خائفة! لقد طالما وافقني على أفكاري الدينية، ولكن من يعلم! ... ربما تضجره شفقتي وإحساسي! ربما يستفيد من تغافلي الذي حدث هذا النهار ليلقي علي تبعة تقواي المتطرفة ويتهم الدين بكلمات تحفر هوة مشئومة بين روحين!
أي ذنب جنيت يا إلهي؟ ألأجل غريب مسكين أعرض سلام العائلة للخصام وأضحي بالغبطة التي تجمعنا؟
عند هذا خفتت الأصوات في المحطة وعاد العملة إلى مآويهم، فسمعت السيدة فارس تمتمة أصوات تلامس هدأة الليل العذب! وما لبثت أن تبينت نطق عزيز وصوت بطرس الحاد وإنشاد نجيب الجميل.
كان هؤلاء الثلاثة يتقدمون إلى المنزل فنهضت السيدة بطرس عن مقعدها ونظرت إلى القمر نظرة طويلة، ثم قالت لزوجها بصوت تراوده نبرات الضجر: إن الليلة لشديدة الحر يا بطرس، فهل من كأس خمر أشربها؟ فتمتم بطرس قائلا: ليس لدي خمر أقدمها لك. فقال عزيز: ليس عليك إلا أن تنزلي إلى خمارة يوسف، أفلا تسمعين سدادات القناني تقفز من أفواهها في ذلك الفندق؟ فتوسلت السيدة بطرس أن يأتيها بكأس من المرطبات؛ لأنها شديدة الظمأ.
فأجابها بخشونة: اشربي من الماء الصافية فهي شراب صحي، فتنهدت المرأة الجميلة وقالت: آه! أيتها الحقائق البشعة! أين الأمراء الجذابون الذين لا يضنون على جميلاتهم بخمور قبرس والشراب المنعش مع الخبز المعسل ومربيات الورد؟ ...
فقال الزوج: أين هم؟ إنهم يرقدون في مطاوي رواياتك المكردسة في السلال بين جواربي المخرقة وطرازك الأبدي، فهؤلاء الأمراء كانوا أغنياء، ونساؤهم اللواتي كن يعتنين بما يئول إلى راحتهم لم يكن يضعن أوقاتهن بقراءة الروايات نظيرك، بل كن ينصرفن عن ذلك إلى القيام بأمور البيت حق القيام!
فلم يصب هذا الكلام مكان التأثير من قلب السيدة بطرس فقالت لزوجها: إن بك روحا غير شاعرة يا عزيزي بطرس! فلا أسمع منك إلا هذه الكلمات المملة؛ «النظام في البيت! القيام بتدبير البيت!» كأنك لا ترى غير ذلك أمام عينيك! ولا تظن أن في الحياة أشياء غير هذه!
فضجر بطرس من حديث امرأته فقال لها: تعالي ننام! فأنت امرأة قليلة التبصر، ولا نتيجة للجدال معك.
فأطلقت السيدة بطرس زفرة حرى وقالت: يا لها طباعا غريبة! متى تتمثل بهدوء السيد عزيز وعذوبة السيد فارس ولين عريكته؟
صفحه نامشخص