ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجد التشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله ، وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد
والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدري من يعبد؟ ولا بماذا يعبده؟ فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين، وكشف رأس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنا ما كان، وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد.
فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحد دينا سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها. فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له.
ومن كانت له هاتان القوتان؛ استقام له سيره إلى الله، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، "والوقت -كما قيل- سيف فإن قطعته، وإلا قطعك"، فإذا كان السر ضعيفا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة؛ فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق) اه.
صفحه ۱۵