ـ[العدة في أصول الفقه]ـ
المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: ٤٥٨هـ)
حققه وعلق عليه وخرج نصه: د أحمد بن علي بن سير المباركي، الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية
الناشر: بدون ناشر
الطبعة: الثانية ١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م
عدد الأجزاء: ٥ أجزاء في ترقيم مسلسل واحد
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
_________
الإصدار ٢: تم مراجعة الكتاب وإصلاح الكثير من الأخطاء الإملائية
صفحه نامشخص
المجلد الأول
المقدمة
الافتتاحية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد فقد كان لاختيار هذا الموضوع أسبابه ودواعيه، يمكن تلخيصها فيما يلي:
١- قيمة الكتاب العلمية، شكلا وموضوعًا، فهو غزير في مادته حسن في ترتيبه وتبويبه.
٢- واعتماد المؤلف على مصادر أصيلة، في الأصول والفروع واللغة والنحو وغير ذلك، وبخاصة رسائل الإمام أحمد، وكتب أصحابه المتقدمين.
٣- ومؤلف هذا الكتاب هو الإمام أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، شيخ الحنابلة في عصره، وناشر مذهبهم أصولا وفروعًا في وقته، فقد كان له الفضل الأكبر في جمع شتات أصول الحنابلة وتقعيدها، كما كان له الفضل في تفصيل وبيان مسائل الفقه الحنبلي، وكل من جاء بعده فهم عيال عليه في ذلك.
1 / 7
٤- ثم إن إخراج هذا الكتاب ونشره، سيغير من الصورة في أذهان طلاب العلم عن أصول الفقه عند الحنابلة، ومدى استقلالها من عدمه، إذ لا يوجد كتاب متداول يمثل رأي الحنابلة بجلاء ووضوح، إذا ما استثنينا كتاب:"روضة الناظر" لابن قدامة، و"شرح الكوكب المنير" لأبي البقاء الفتوحي، اللذين طبعا طباعة سيئة، مليئة بالأخطاء والتحريفات بالإضافة إلى أن المؤلفين من متأخري الحنابلة، الذين لا يضارعون أبا يعلى، لا في الأصول ولا في الفروع.
٥- وبالإضافة إلى ما سبق أريد أن أشارك بإخراج كتاب من روائع تراثنا الإسلامي الضخم، لعلي بذلك أكون قد قمت ببعض الواجب؛ خدمة للعلم، وابتغاء للأجر والمثوبة من الله تعالى.
ومن أول يوم سجلت فيه الموضوع شمرت عن ساعد الجد، وأول عمل قمت به هو جمع المصادر والمراجع المخطوطة، سواء كانت للمؤلف، أم كانت لغيره مما يتعلق بالبحث، ولو من بعيد.
فبدأت بزيارة مكتبات القاهرة العامة، فزرت دار الكتب المصرية فوجدت فيها إضافة إلى "العدة في أصول الفقه" كتاب "التعليق الكبير في المسائل الخلافية" للقاضي أبي يعلى، ووجدت أيضًا كتاب "الفصول" أو "أصول الجصاص" وقد أفدت من هذا الكتاب الأخير في التحقيق؛ لأنه من أهم المراجع التي استعان بها القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة".
كما وجدت كتاب "تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول" للمرداوي الحنبلي، الذي عنى كثيرًا بتسجيل آراء واختيارات القاضي أبي يعلى.
ثم زرت معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، فوجدت به للمؤلف زيادة على ما ذكر كتاب "الروايتين والوجهين" كما وجدت كتاب "الجدل" لأبي الوفاء بن عقيل تلميذ المؤلف، وجزءًا
1 / 8
من كتاب "الفصول" له، علاوة على كتاب "الإشراف على مذاهب الأشراف" للوزير يحيى بن هُبَيرة الشيباني الحنبلي.
وقد قمت بتصوير تلك المخطوطات على ميكرو فيلم، ثم كبرتها بعد ذلك، عدا كتاب"الفصول في أصول الفقه" للجصاص، فلم أصوره، بل رجعت إلى نفس المخطوطة عند الاحتياج إليها.
وبعد ذلك شددت الرحال إلى المملكة العربية السعودية، فزرت مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والرياض، أفتش عن نسخة ثانية للعدة، وعن تراث المؤلف بصفة عامة، فلم أظفر بشيء من ذلك.
ومن المعلوم أن المكتبة الظاهرية تحوي كثيرًا من تراث الحنابلة في التفسير والحديث والأصول والفقه وغيرها، لذلك فقد صورت منها على ميكروفيلم "٦٢" مخطوطة مما ألفه علماء الحنابلة في شتى العلوم، سوى بعض كتب قليلة جدًّا لغيرهم، صورت ضمن المجاميع، ثم كبرت تلك المخطواطات فيما بعد، واخترت منها المخطوطات التي لها صلة بالبحث وهي:
أولا: مؤلفات القاضي أبي يعلى:
١- الأمالي في الحديث.
٢- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٣- شرح مختصر الخرقي.
٤- الفوائد الصحاح العوالي والأفراد والحكايات.
٥- كتاب الإيمان.
٦- مختصر المعتمد.
ثانيًا: مؤلفات تلاميذه:
١- التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني.
1 / 9
٢- الواضح في أصول الفقه، لأبي الوفاء بن عَقيل البَغدادي.
ثالثًا: مؤلفات لغير مَنْ ذكر:
١- الأشربة: للإمام أحمد.
٢- مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله.
٣- مسائل الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، رواية المروزي.
٤- التمام لما صح في الروايتين: لابن أبي يعلى.
٥- شرح الطوفي على مختصر الروضة.
٦- مختصر أصول ابن اللحام.
ومما يستغرب أنه لا يوجد -حسب علمي- في مكتبات بغداد العامة أي مؤلف مخطوط للقاضي أبي يعلى مع أنه بغدادي الولادة والمنشأ والوفاة، اللهم إلا كتاب "العمدة في أصول الفقه"، الذي لم يكتب عليه اسم مؤلفه، ولكن بعد تصويره والاطلاع عليه، ثبت أنه للقاضي أبي يعلى.
وبعد الحصول على المخطوطات والفراغ من تصويرها، استكملت شراء بعض المراجع المطبوعة، لأتمكن من اختصار الزمن والجهد، وبعد ذلك شرعت في العمل مستعينًا بالله -تعالى- مواصلا البحث والاطلاع آناء الليل وأطراف النهار، باذلا الغالي والرخيص، ويكفي أنني أفنيت فيه خمس سنين من عمري، حتى خرج على هذا الشكل والمضمون.
وبعد فهذا جهد المقل، فإن أكن قد وفقت فيه فذلك بفضل الله وكرمه، وإن كانت الأخرى -لا سمح الله- فعزائي أنني اجتهدت، ولكل مجتهد نصيب.
ولا أنسى أن أتقدم بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي أتاحت لي الفرصة، وسهلت لي السبيل بابتعاثي على حسابها لمواصلة
1 / 10
دراستي، ضارعًا إلى الله -تعالى- أن يوفق القائمين عليها لخدمة الإسلام والمسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور: أحمد بن على بن أحمد سير المباركي
القاهرة: الثلاثاء: ٣٠/ رمضان سنة ١٣٩٧هـ، الموافق ١٤/ سبتمبر سنة ١٩٧٧م
1 / 11
التعريف بالمؤلف*:
اسمه، ونسبه:
هو العالم العلامة شيخ الحنابلة في عصره الإمام محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضي، أبو يعلى، البغدادي، الحنبلي، المعروف في زمانه بابن الفراء، والفراء نسبة إلى خياطة الفراء وبيعها. واشتهر بعد ذلك بالقاضي أبي يعلى١.
هكذا ذكر اسمه واسم أبيه في جميع مراجع ترجمته التي تمكنت من الاطلاع عليها، عدا السمعاني في كتابه: "الأنساب"٢، وابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية"٣، فقد ذكرا أن اسم أبيه الحسن بالتكبير، وهذا خطأ، يدل على ذلك أمور:
_________
* هذه لمحة موجزة عن المؤلف، انتزعناها من القسم الدراسي "القسم الأول من رسالة الدكتوراه".
١ "تاريخ بغداد" "٢/ ٢٥٦" و"طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٣"، و"اللباب" "٢/ ٤١٣" و"سير أعلام النبلاء" "الورقة ١٦٨/ أ- القسم الثاني من الجزء الحادي عشر".
٢ ص "٤١٩، ٤٢٠".
٣- "١٢/ ٩٤" طبعة مكتبة المعارف.
1 / 15
الأول: أن العمدة في ترجمة القاضي أبي يعلى هما: الخطيب البغدادي وابن أبي يعلى، الأول في "تاريخه"، والثاني في "طبقاته" وقد ذكراه باسم "الحسين" مصغرًا، وهما ألصق به وأعرف الناس بشئونه، فالأول تلميذه، والثاني ابنه، وحسبك بالمنزلتين قربًا ومعرفة.
الثاني: أن صاحب "اللباب" قد صحح ما أخطأ فيه السمعاني في "أنسابه" فقد ذكره باسم الحسين مصغرًا١.
الثالث: أن ابن كثير عندما ترجم لوالد القاضي أبي يعلى في كتابه: "البداية والنهاية"٢، ذكره باسم الحسين مصغرًا.
الرابع: أن اسمه في الموجود من مؤلفاته: محمد بن الحسين بالتصغير.
الخامس: أن هناك كثيرًا ممن ترجموا للقاضي، ذكروا أن اسم أبيه هو "الحسين" بالتصغير منهم ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم"٣، وفي كتابه: "مناقب الإمام أحمد"٤، وابن الأثير في كتابه: "الكامل"٥، والذهبي في كتابه: "العبر في خبر من غبر"٦، وفي كتابه: "سير أعلام النبلاء"٧، وفي كتابه: "دول الإسلام"٨، والعليمي في
_________
١ "اللباب" "٢/ ٤١٣".
٢ "١١/ ٣٢٧".
٣ "٨/ ٢٤٣".
٤ ص: ٥٢٠.
٥ "١٠/ ١٨".
٦ "٣/ ٢٤٣".
٧ ورقة "١٦٨/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر.
٨ ص: ٢٦٩.
1 / 16
كتابه: "المنهج الأحمد"١، وابن العماد في كتابه: "شذرات الذهب"٢، والنابلسي في كتابه: "مختصر طبقات الحنابلة"٣، والصفدي في كتابه: "الوافي بالوفَيَات"٤، وبروكلمان في كتابه: "تاريخ الأدب العربي"٥ والزركلي في كتابه: "الأعلام"٦، وابن تغري بردي في كتابه: "النجوم الزاهرة"٧.
وقد كانت أسرةُ أبي يعلى أسرةَ علم ومعرفة، فأبوه أبو عبد الله الحسين بن محمد الفقيه الحنفي، أحد العلماء الصالحين الموصوفين بالزهد والورع والتقى: أسند الحديث، ودرس الفقه على أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، وكان من المكرمين عنده، حدث أن مرض أبو عبد الله مائة يوم، زاره الرازي فيها خمسين مرة، ولما بلَّ من مرضه، قال له الرازي معتذرًا: مرضت مائة يوم، فعدناك خمسين يومًا، وذاك قليل في حقك.
روى عن جماعة، وعنه ابنه أبو خازم محمد بن الحسين، عرض عليه منصب القضاء، فامتنع منه.
قال عنه الذهبي: "كان من أعيان الحنفية، ومن شهود الحضرة".
مات في سنة: ٣٩٠هـ، ولابنه أبي يعلى عشر سنين إلا أيامًا٨.
_________
١ "٢/ ١٠٥".
٢ "٣/ ٣٠٦".
٣ ص: ٣٧٧.
٤ "٣/ ٧".
٥ "١/ ٥٠٢" في النص الألماني.
٦ "٦/ ٣٣١".
٧ "٤/ ٢٠١".
٨ البداية والنهاية "١١/ ٣٢٧"، وسير أعلام النبلاء الورقة "١٦٨/ أ" القسم الثاني من الجزء الحادي عشر، وطبقات الحنابلة "٢/ ١٩٤" والمنتظم "٧/ ٢١٠".
1 / 17
وكان جده لأمه: عبيد الله بن عثمان بن يحيى أبا القاسم الدقاق، المعروف بابن "جليقا" بالجيم واللام والمثناة التحتية بعد قاف ممدودة، أو ابن "جنيقا" بإبدال اللام نونًا، نسبة إلى أحد أجداده.
ولد جده المذكور سنة "٣١٨هـ"، وكان ثقة مأمونًا مكثرًا. روى عن المحاملي، وعنه العتيقي والأزهري وابن بنته أبو يعلى.
قال عنه أبو الفوارس: "كان ثقة مأمونًا، حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه".
وقال ابن الجوزي: "كان صحيح السماع، ثبت الرواية". مات في شهر رجب سنة "٣٩٠هـ"١.
وتقف المصادر التي اطلَعت عليها على ما ذكرت من أجداد القاضي أبي يعلى، غير ذاكرة أصله الذي ينتمي إليه، وإنما اكتفت بأنه بغدادي المولد والنشأة والوفاة.
_________
١ البداية والنهاية "١١/ ٣٢٦"، وتاريخ بغداد "١٠/ ٣٧٧"، واللباب "١/ ٢٩٩"، والمنتظم "٧/ ٢١٠".
مولده: ولد القاضي أبو يعلى في شهر محرم لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين خلون منه، سنة ثمانين وثلاثمائة هجرية. نقل ذلك الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"١، قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري، قال: كان أبو الحسين بن المحاملي يقول: ... سألته -أي القاضي أبا يعلى- عن مولده، فقال: ولدت لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة". _________ ١ "٢/ ٢٥٦".
مولده: ولد القاضي أبو يعلى في شهر محرم لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين خلون منه، سنة ثمانين وثلاثمائة هجرية. نقل ذلك الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"١، قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري، قال: كان أبو الحسين بن المحاملي يقول: ... سألته -أي القاضي أبا يعلى- عن مولده، فقال: ولدت لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة". _________ ١ "٢/ ٢٥٦".
1 / 18
وهذه الرواية هي التي عوَّل عليها المؤرخون في ذكر مولده، ولم أجد أحدًا خالف في ذلك فيما اطلعت عليه من المراجع١.
_________
١ راجع في هذا: "البداية والنهاية" "١٢/ ٩٤"، طبعة مكتبة المعارف و"طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٥" و"الكامل" "١٠/ ١٨" و"المنتظم" "٨/ ٢٤٣"، و"المنهج الأحمد" "٢/ ١٠٥".
نشأته وطلبه العلم وأهم أعماله: ولد القاضي أبو يعلى في بغداد كعبة العلم وقبلة العلماء وحاضرة العالم الإسلامي في ذلك العصر، بل حاضرة العالم كله، فقد كانت النهضة العلمية آنذاك مكتملة الأسباب متوفرة الدواعي، ولم تكن تلك النهضة خاصة بعلم دون آخر، بل كانت شاملة للنواحي العملية المتعددة، فكان في كل علم أساتذته وطلابه، كما كان في كل علم مكتبته ورواده. في هذه البيئة العلمية نشأ أبو يعلى وترعرع. بالإضافة إلى ذلك فقد توفر لأبي يعلى بيت علمي، يتعاون مع البيئة العلمية العامة، فقد كان أبوه على جانب كبير من العلم والفقه، لذلك حرص على تعليم ابنه وتنشئته تنشئة علمية صالحة، وكان يتولى بنفسه تعليم فتاهُ. وكانت مدرسة الحديث آنذاك عامرة بشيوخها، فبدأ الطفل في التلقي والسماع، وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكان أول سماعه من المحدث علي بن معروف١. لم يمهل والد الغلام، حتى يرى ثمرة غرسه، فتمتد يد المنون إليه، _________ ١ "سير أعلام النبلاء" الورقة "١٦٧/ ب" الجزء الحادي عشر و"طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٥".
نشأته وطلبه العلم وأهم أعماله: ولد القاضي أبو يعلى في بغداد كعبة العلم وقبلة العلماء وحاضرة العالم الإسلامي في ذلك العصر، بل حاضرة العالم كله، فقد كانت النهضة العلمية آنذاك مكتملة الأسباب متوفرة الدواعي، ولم تكن تلك النهضة خاصة بعلم دون آخر، بل كانت شاملة للنواحي العملية المتعددة، فكان في كل علم أساتذته وطلابه، كما كان في كل علم مكتبته ورواده. في هذه البيئة العلمية نشأ أبو يعلى وترعرع. بالإضافة إلى ذلك فقد توفر لأبي يعلى بيت علمي، يتعاون مع البيئة العلمية العامة، فقد كان أبوه على جانب كبير من العلم والفقه، لذلك حرص على تعليم ابنه وتنشئته تنشئة علمية صالحة، وكان يتولى بنفسه تعليم فتاهُ. وكانت مدرسة الحديث آنذاك عامرة بشيوخها، فبدأ الطفل في التلقي والسماع، وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكان أول سماعه من المحدث علي بن معروف١. لم يمهل والد الغلام، حتى يرى ثمرة غرسه، فتمتد يد المنون إليه، _________ ١ "سير أعلام النبلاء" الورقة "١٦٧/ ب" الجزء الحادي عشر و"طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٥".
1 / 19
فتخترمه، وذلك في سنة: ٣٩٠هـ، ولغلامه من العمر عشر سنين إلا أيامًا١.
ويشاء الله -تعالى- أن يعيش الغلام هذه الفترة يتيمًا، ولعل ذلك سر من أسرار نبوغه وتفوقه، إذ إن كثيرًا من العباقرة والأفذاذ ينشئون غالبًا يتامى؛ ليتمرنوا على شظف العيش وقسوة الحياة؛ ليخرجوا بعد هذه المعاناة، وهم أشد ما يكونون صلابة عود ومضاء عزيمة.
ولكن أباه قبل أن يفارق الدنيا أوصى بتربية ابنه والقيام بشئونه إلى رجل يعرف بالحربي، كان يسكن بحي في بغداد يقال له: "دار القز"، فانتقل الصبي إلى مكان وصيه بعد أن كان يسكن "باب الطاق" -حي من أحياء بغداد أيضًا.
وفي "دار القز" هذا، كان فيه رجل صالح، يعرف: بابن مفرحة المقرئ، كان يقرئ القرآن في مسجد بهذا الحي، ويلقن طلابه بعض العبارات من "مختصر الخرقي" فقصده الصبي، وتلقى عنه ما كان يستطيع ذلك المقرئ أداءه، ولكن التلميذ طلب من معلمه الزيادة فأجابه بأسلوب المتواضع العارف قدر نفسه: "هذا القدر الذي أحسنته، فإن أردت زيادة، فعليك بالشيخ أبي عبد الله بن حامد، فإنه شيخ هذه الطائفة"٢.
وينتهي هذا الطور من حياة هذا الغلام؛ لينتقل إلى الطور الثاني، وهو طور اتصاله بالشيخ أبي عبد الله الحسن بن حامد الحنبلي وتفقهه عليه.
كان الشيخ ابن حامد -رحمه الله تعالى- إمام الحنابلة في عصره في
_________
١ "سير أعلام النبلاء" الورقة "١٦٨/ أ" الجزء الحادي عشر، و"طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٤".
٢ طبقات الحنابلة "٢/ ١٩٤.
1 / 20
بغداد، وكان يدرس بها المذهب الحنبلي أصولا وفروعًا، فأَمَّه الغلام أبو يعلى، وصحبه، وتتلمذ عليه، حتى حاز رضا شيخه وإعجابه، وفاق زملاءه وأقرانه، ولذلك لما سئل عمن يقوم بالتدريس أثناء غيابه في الحج، أجاب بقوله: هذا الفتى، وأشار إلى القاضي أبي يعلى١.
ولم يكن أبو يعلى مقتصرًا على تعلم الفقه وأصوله، بل سمع الحديث وأكثر من ذلك، فسمع من أبي القاسم بن حبابة وعلي بن عمر الحربي وأبي القاسم موسى السراج وأبي الحسين السكري وغيرهم٢.
كما تعلم علوم القرآن وقرأ بالقرءات العشر٣.
وقد رحل في طلب العلم إلى مكة المكرمة ودمشق الفيحاء، وحلب الشهباء، وهناك سمع الحديث من بعض محدثيها٤.
وفي سنة "٤٠٣هـ" يلتحق الشيخ ابن حامد بالرفيق الأعلى، حيث وافته منيته، وهو راجع من الحج٥.
ويتلقى التلميذ نبأ الفاجعة بصبر وثبات، ويمضي قدمًا في إكمال رسالة شيخه، فيتربع على كرسي التدريس والإفتاء على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى.
ومن هنا يبدأ الدور الثالث في حياة الرجل، طور النضوج، طور تحمل المسئولية بكل تبعاتها، فيعكف على التأليف والتصنيف في شتى
_________
١ طبقات الحنابلة "٢/ ١٩٥".
٢ "طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٥"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "١٦٨/ أ" الجزء الحادي عشر، و"المنتظم" "٨/ ٢٤٣".
٣ طبقات الحنابلة "٢/ ٢٠٠"، و"سير أعلام النبلاء" الورقة "١٦٨/ ب".
٤ المرجعان السابقان.
٥ "طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٥".
1 / 21
العلوم الإسلامية، وبخاصة والرجل قد جمع كثيرًا من الكتب، والمسائل التي نقلها الأصحاب عن الإمام أحمد، الأمر الذي جعله على دراية كاملة بأصول وفروع مذهب إمامه.
وفي سنة: ٤١٤هـ نجده يسافر إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ثم يعود بعد ذلك إلى بغداد لمواصلة التدريس والتأليف والإفتاء١.
_________
١ المرجع السابق "٢/ ١٩٦".
توليه التدريس: أشرنا فيما تقدم أن الشيخ ابن حامد ﵀ كان هو القائم بتدريس الفقه وأصوله على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وكان القاضي أبو يعلى يتولى التدريس أثناء غياب شيخه ابن حامد بأمر منه. ولكن لما انتقل ابن حامد إلى جوار ربه، كان لزامًا على القاضي أبي يعلى أن يشغل الفراغ الذي تركه شيخه، فيجلس على كرسي التدريس يتصدى للإفتاء. وتمضي الليالي والأيام، وقافلة الخير تسير بأمر ربها، فليس هناك إلا بحث واطلاع وتدريس وإفادة، فيذيع صوت هذا الشاب، وتتناقل الأخبار عن فتى بغداد الحنبلي، فيدلف الناس إليه زرافات ووحدانًا، يسمعون منه، ويقرءون عليه، ويسألونه عما أشكل عليهم. ويحكي لنا ابنه أبو الحسين ما كان عليه الازدحام على حلقة والده في جامع المنصور ببغداد، فيقول: "وقد حضر الناس مجلسه، وهو يملي حديث رسول الله ﷺ بعد صلاة الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد الله ابن إمامنا أحمد ﵁ وكان المبلغون عنه في حلقته والمستملون ثلاثة أحدهم: خالي أبو محمد جابر. والثاني: أبو
توليه التدريس: أشرنا فيما تقدم أن الشيخ ابن حامد ﵀ كان هو القائم بتدريس الفقه وأصوله على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وكان القاضي أبو يعلى يتولى التدريس أثناء غياب شيخه ابن حامد بأمر منه. ولكن لما انتقل ابن حامد إلى جوار ربه، كان لزامًا على القاضي أبي يعلى أن يشغل الفراغ الذي تركه شيخه، فيجلس على كرسي التدريس يتصدى للإفتاء. وتمضي الليالي والأيام، وقافلة الخير تسير بأمر ربها، فليس هناك إلا بحث واطلاع وتدريس وإفادة، فيذيع صوت هذا الشاب، وتتناقل الأخبار عن فتى بغداد الحنبلي، فيدلف الناس إليه زرافات ووحدانًا، يسمعون منه، ويقرءون عليه، ويسألونه عما أشكل عليهم. ويحكي لنا ابنه أبو الحسين ما كان عليه الازدحام على حلقة والده في جامع المنصور ببغداد، فيقول: "وقد حضر الناس مجلسه، وهو يملي حديث رسول الله ﷺ بعد صلاة الجمعة بجامع المنصور على كرسي عبد الله ابن إمامنا أحمد ﵁ وكان المبلغون عنه في حلقته والمستملون ثلاثة أحدهم: خالي أبو محمد جابر. والثاني: أبو
1 / 22
منصور الأنباري، والثالث: أبو علي البرداني.
وأخبرني جماعة من الفقهاء ممن حضر الإملاء أنهم سجدوا في حلقة الإملاء على ظهور الناس؛ لكثرة الزحام في صلاة الجمعة في حلقة الإملاء"١.
وكانت هذه المدرسة تعج بفطاحل العلماء الأجلاء، الذين حملوا الراية بعد شيخهم، ومِنْ ألمع هؤلاء أبو الوفاء ابن عقيل وأبو الخطاب الكلوذاني والخطيب البغدادي وغيرهم.
وبذلك يعتبر القاضي أبو يعلى هو الذي نشر مذهب الإمام أحمد في هذه الفترة، وأحيا ما انْدَرَسَ من معالمه، فقد تخرج على يديه الجم الغفير من الحنابلة، كما ألَّف في المذهب -أصولا وفروعًا- الكتب الكثيرة، التي تعتبر أهم المصادر التي حفظت لنا المذهب الحنبلي بعد المسائل التي دونت عن أحمد ووصلت إلينا، ولذلك لا نجد أحدًا بلغ مبلغه فيمن أتى بعده، بل كلهم عيال عليه.
_________
١ "المرجع السابق" "٢/ ٢٠٠".
تولِّيه القضاء: لما برز القاضي أبو يعلى، وعرف الناس قدره ومكانته العلمية وزهده وورعه، قصده الشريف أبو علي بن أبي موسى؛ ليشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا فامتنع، وأبى ذلك إباءً شديدًا١. ثم كرر الطلب، فأجاب بعد إلحاح، وشهد عند قاضي القضاة ابن ماكولا، فقبل شهادته، وذلك في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة ٤٤٠هـ٢، وكان ابن ماكولا يجله ويحترمه. _________ ١ "المرجع السابق" "٢/ ١٩٦، ١٩٧". ٢ "المنتظم" "٨/ ١٣٦".
تولِّيه القضاء: لما برز القاضي أبو يعلى، وعرف الناس قدره ومكانته العلمية وزهده وورعه، قصده الشريف أبو علي بن أبي موسى؛ ليشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا فامتنع، وأبى ذلك إباءً شديدًا١. ثم كرر الطلب، فأجاب بعد إلحاح، وشهد عند قاضي القضاة ابن ماكولا، فقبل شهادته، وذلك في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة ٤٤٠هـ٢، وكان ابن ماكولا يجله ويحترمه. _________ ١ "المرجع السابق" "٢/ ١٩٦، ١٩٧". ٢ "المنتظم" "٨/ ١٣٦".
1 / 23
ولما توفي رئيس القضاة ابن ماكولا في شهر شوال سنة: "٤٤٧هـ"١، وشغر بذلك منصب القضاء، خوطب القاضي أبو يعلى لِيَلِي القضاء بدار الخلافة والحريم، فامتنع من ذلك، ثم قَبِلَ بعد أن كرر عليه السؤال، واشترط لقبوله شروطًا منها: أنه لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان، وفي كل شهر يقصد "نهر الْمُعَلَّى" يومًا، و"باب الأزج" يومًا، ويستخلف من ينوب عنه في "الحريم"، فأجيب إلى ذلك٢.
وقد قلد القضاء في الدماء والفروج والأموال، وأضيف إليه بعد ذلك قضاء "حرَّان" و"حلوان" فاستناب فيهما.
ولم يكن باستطاعة واحد أن يقوم بالقضاء في كل هذه الجهات، لذلك نجد أبا يعلى قد رد القضاء في عدة أبواب إلى من يثق به، فجعل قضاء "باب الأزج" إلى الجيلي، ولما تبين عدم صلاحيته عزله، وجعل النظر في عقود الأنكحة والمداينات بالباب المذكور إلى تلميذه أبي علي يعقوب، كما جعل النظر في العقار في "باب الأزج" أيضًا إلى أبي عبد الله بن البقال.
واستناب بدار الخلافة و"نهر المعلى" أبا الحسن السيبي.
وظل القاضي أبو يعلى في هذا المنصب الخطير إلى أن انتقل إلى جوار ربه تعالى٣.
_________
١ "شذرات الذهب" "٣/ ٢٧٥".
٢ "طبقات الحنابلة" "٢/ ١٩٨، ١٩٩".
٣ "المرجع السابق" "٢/ ١٩٩، ٢٠٠".
زهده وورعه وثناء الناس عليه: من الصفات المحمودة في العالم تحلِّيه بالتقوى والزهد والورع مع صبر وتجمل، ومعنى ذلك أن تعرض له الدنيا بمفاتنها وإغراءاتها فينصرف عنها
زهده وورعه وثناء الناس عليه: من الصفات المحمودة في العالم تحلِّيه بالتقوى والزهد والورع مع صبر وتجمل، ومعنى ذلك أن تعرض له الدنيا بمفاتنها وإغراءاتها فينصرف عنها
1 / 24
انصراف الزاهد فيها، المكتفي منها بما يسد الرمق، ويقيم الأود، وليس الزاهد الورع الذي لم يمكن من الدنيا، ولو مكن منها لأتى بالعجائب.
وقد كان القاضي أبو يعلى من النوع الأول مع صلابة في الدين، وجرأة في الحق، يزينهما حلم وأناة، ولذلك لم يعرف عنه أنه قَبِلَ من حاكم صلة أو عطية، كما لم يعرف منه الوقوف على أبواب الحكام والسلاطين من أجل الدنيا، مع الفقر والحاجة، فقد كان -في بعض الأوقات- يقتات من الخبز اليابس، يبله في الماء ويأكله، حتى لحقه المرض من ذلك١.
ولما عرض عليه منصب القضاء امتنع منه، وبعد إلحاح قبله بشروط: أن لا يحضر أيام المواكب الشريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان٢.
فهذه الشروط الثلاثة تدل دلالة واضحة على ما للرجل من قدم صدق في عدم التهافت على مطامع الدنيا والافتتان بمظاهرها، ولو لم يكن كذلك لما فوت تلك الفرص الذهبية، التي تضفي على أقل الناس منصبًا هالة من العظمة والجلال، فكيف بعالم بغداد وقاضيها، ولكنه الطمع فيما عند الله تعالى، والزهد فيما عند الناس، ولقد صدق الجرجاني حيث قال:
ولم أقض العلم، إن كان كُلَّمَا ... بَدَا طمع، صيرته لي سلمًا
وما زلت منجازًا بعرضي جانبًا ... من الذل، اعتد الصيانة مغنمًا
إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظَّمَا٣
_________
١ طبقات الحنابلة "٢/ ٢٢٣".
٢ المرجع السابق "٢/ ١٩٩".
٣ "المنتظم" "٧/ ٢٢١" في ترجمة الجرجاني، و"صفحات من صبر العلماء" لأبي غدة ص: ٩٥.
1 / 25
مرض الخليفة القائم بأمر الله، فلما عوفي، ذهب أبو يعلى لتهنئته، فلما خرج من عند الخليفة، أتبع بجائزة سنية، وسئل قبولها، فأبى إباءً شديدًا، وامتنع منها١.
وبزهد القاضي أبي يعلى وورعه وفضله شهد العلماء، فهذا أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي الحافظ، يكتب للقاضي كتابًا يقول فيه:
كتابك سيدي لما أتاني ... سررت به، وجدد لي ابتهاجا
وذكرك بالجميل لنا جميل ... يقلدنا ولم نخرج مزاجا
جللت عن التصنع في وداد ... فلم نَرَ في توددك اعوجاجا
وقد كثر المداجي والمرائي ... فلا تحفل بمن راءى وداجا
حييت معمرًا وجزيت خيرا ... وعشت لدين ذي التقوى سراجا٢
وقال فيه الخطيب البغدادي٣: "كتبنا عنه، وكان ثقة"ونقل عن ابن الفراء المحاملي قوله: "ما تحاضرنا أحد من الحنابلة أعقل من أبي يعلى بن الفراء".
وقال ابن الجوزي٤: " ... وجمع الإمامة والفقه والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخضوع وحسن السمت والصمت عما لا يعني، واتباع السلف".
وقال الذهبي٥: "وكان ذا عبادة وتهجد وملازمة للتصنيف مع الجلالة والمهابة، وكان متعففًا نزه النفس كبير القدر ثخين الورع".
وقال أيضًا فيما نقله عنه ابن العماد٦: "وجميع الطائفة معترفون بفضله، ومغترفون من بحره".
_________
١ طبقات الحنابلة "٢/ ٢٢٣".
٢ المرجع السابق "٢/ ٢٠٢".
٣ تاريخ بغداد "٢/ ٢٥٦".
٤ المنتظم "٨/ ٢٤٣، ٢٤٤".
٥ "سير أعلام النبلاء" الورقة "١٦٨/ ب" الجزء الحادي عشر.
٦ "شذرات الذهب" "٣/ ٣٠٦، ٣٠٧".
1 / 26
وفاته ورثاء الناس له:
بعد حياة حافلة بالعمل والنشاط والانجازت العلمية العظيمة، يسلم القاضي أبو يعلى الروح، وترجع النفس إلى بارئها، في ليلة الاثنين تاسع عشر من شهر رمضان الكريم من عام ثمان وخمسين وأربعمائة هجرية، بمدينة بغداد، وصلى عليه ابنه أبو القاسم يوم الاثنين في جامع المنصور١، ودفن بمقبرة باب حرب٢.
وقد عطلت الأسواق، وتبع جنازته جماعة الفقهاء والقضاة والشهود، وخلق لا يحصون، على رأسهم القاضي أبو عبد الله الدامغاني، ونقيب الهاشميين، وأبو الفوارس، ومنصور بن يوسف، وأبو عبد الله بن جردة٣.
وكان قد أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر، وأن يكفن في ثلاثة أثواب، وأن لا يدفن معه في القبر غير ما غزله لنفسه من الأكفان، ولا يخرق عليه ثوب، ولا يقعد لعزاء٤.
ولا شك أن وفاته أحدثت ضجة عظيمة، وفراغًا كبيرًا لدى طلاب العلم والمعرفة، وبخاصة طلابه، وقد عبر تلميذه علي بن أخي نصر عمَّا يجيش في نفسه ونفوس زملائه من لوعة الحزن وألم الفراق، فاسمعه وهو يقول:
أسف دائم وحزن مقيم ... لمصاب به الهدى مهدوم
_________
١ "طبقات الحنابلة" "٢/ ٢١٦"، والمراجع التي ذكرناها في ترجمته من قبل فلا داعي لسردها هنا.
٢ "تاريخ بغداد" "٢/ ٢٥٦"، و"المنتظم" "٨/ ٢٤٤".
٣ "المنتظم" "٨/ ٢٤٤".
٤ المرجع السابق.
1 / 27
مات نجل الفراء أم رجت الأر ... ض أم البدر كاسف والنجومُ؟
لهف نفسي على إمام حوى الفضـ ... ـل وهو بالمشكلات عليمُ
خلق طاهر ووجه منير ... وطريق إلى الهدى مستقيم
كان للدين عدة ولأهل الد ... ين في النائبات خل حميم
من يكن للدرس بعدك أم من ... لجدال المخالفين يقوم؟
من لفهم الحديث والطرق يستو ... ضح منه صحيحه والسقيم
من لفصل القضاء إن أشكل الحكـ ... ـم وضجت بالنازلات الخصوم
درست بعده المدارس فالعلـ ... ـم طريد وحبله مصروم
هكذا يذهب الزمن ويفنى العلـ ... ـم فيه ويجهل المعلوم
إن قبرًا حواك يا أيها الطو ... د عجيب رحب الفناء عظيم
إن يكن شخصه محته يد الدهـ ... ر فذكراه في الدهور مقيم
فتُحيا بذكره كل وقت ... ومحياه في الترب رميم
آمري بالسلو مهلا ففي القلـ ... ـب غرام مبرح ما يريم
كلما رمت سلوة هيج الحز ... ن صنيع له وفعل كريم
غير أن القضاء جار على الخلـ ... ـق قضاء من ربهم محتوم
فعلى الشامتين خزي مقيم ... وعليه الصلاة والتسليم١
وقد رثاه أيضًا محمد بن المسبح بهذه الأبيات:
مات السدى والندى والمجد المكرم ... والعالم اليقظ المستبصر العلم
مات الإمام أبو يعلى الذي ندبت ... لفقده الكعبة الغراء والحرم
يا أيها العالم الحبر الذي كسفت ... شمس الهدى بعده بل عادها الظلم
لولاك ما كان للدنيا وساكنها ... معنىً ولا عرفت طرق الهدى الأمم
ولا روى عن سول الله مأثرة ... ولا قضى بصحيح غير فِيكَ فم
لم يبلغ الحنبلي الحبر مرتبة ... إلا على رأسها من جسمك القدم
_________
١ "طبقات الحنابلة" "٢/ ٢١٧، ٢١٨".
1 / 28