التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية
التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية
ناشر
دار العاصمة للنشر والتوزيع
ژانرها
قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي -بمصر- ﵀:
هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين.
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن العقيدة هي أساس الدين، وهي مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والركن الأول من أركان الإسلام (١)، فيجب الاهتمام بها والعناية بها ومعرفتها، ومعرفة ما يخل بها، حتى يكون الإنسان على بصيرة، وعلى عقيدة صحيحة؛ لأنه إذا قام الدين على أساس صحيح صار دينًا قيمًا مقبولًا عند الله، وإذا قام على عقيدة مهزوزة ومضطربة، أو عقيدة فاسدة،
_________
(١) لحديث ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" أخرجه البخاري رقم (٨) ومسلم رقم (١٦) .
1 / 23
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صار الدين غير صحيح، وعلى غير أساس، ومن ثم كان العلماء ﵏ يهتمون بأمر العقيدة ولا يفترون في بيانها في الدروس وفي المناسبات، ويرويها المتأخر عن المتقدم.
كان الصحابة ﵃ ليس عندهم أي شك فيما جاء به القرآن وما جاءت به سنة رسول الله، ﷺ، فكانت عقيدتهم مبنية على كتاب الله وسنة رسول الله، ﷺ، ولا يعتريهم في ذلك شك ولا توقف، فما قاله الله وقاله رسوله ﷺ اعتقدوه ودانوا به، ولم يحتاجوا إلى كتابة تأليف؛ لأن هذا مسلّم به عندهم ومقطوع به وكانت عقيدتهم الكتاب والسنة، ثم درج على ذلك تلاميذهم من التابعين الذين أخذوا عنهم، فلم يكن هناك أخذ وردّ في العقيدة، كانت قضية مسلمة، وكان مرجعهم الكتاب والسنة.
فلما ظهرت الفرق والاختلافات، ودخل في الدين من لم ترسخ العقيدة في قلبه، أو دخل في الإسلام وهو يحمل بعض الأفكار المنحرفة، ونشأ في الإسلام من لم يرجع إلى الكتاب ولا إلى السنة في العقيدة، وإنما يرجع إلى قواعد ومناهج أصلها أهل الضلال من عند أنفسهم، عند هذا احتاج أئمة الإسلام إلى بيان العقيدة الصحيحة وتحريرها وكتابتها وروايتها عن علماء الأمة، فدونوا كتب العقائد، واعتنوا بها، وصارت مرجعًا لمن يأتي بعدهم
1 / 24
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
من الأمة إلى أن تقوم الساعة.
وهذا من حفظ الله تعالى لهذا الدين، وعنايته بهذا الدين، أن قيض له حملة أمناء يبلغونه كما جاء عن الله وعن رسوله، ويردون تأويل المبطلين وتشبيه المشبهين، وصاروا يتوارثون هذه العقيدة خلفًا عن السلف.
ومن جملة السلف الصالح الذين كانوا على الاعتقاد الثابت عن رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعين، من جملتهم الأئمة الأربعة الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم من الأئمة الذين قاموا بالدفاع عن العقيدة وتحريرها، وبيانها وتعليمها للطلاب.
وكان أتباع الأئمة الأربعة يعتنون بهذه العقيدة، ويتدارسونها ويحفظونها لتلاميذهم، وكتبوا فيها الكتب الكثيرة على منهج الكتاب والسنة، وما كان عليه المصطفى، ﷺ، وأصحابه ﵃ والتابعون، وردوا العقائد الباطلة والمنحرفة، وبينوا زيفها وباطلها، وكذلك أئمة الحديث: كإسحاق بن راهويه، والبخاري، ومسلم والإمام ابن خزيمة، والإمام ابن قتيبة، ومن أئمة التفسير: كالإمام الطبري، والإمام ابن كثير، والإمام البغوي، وغيرهم من أئمة التفسير.
وألفوا في هذا مؤلفات يسمونها بكتب السنة، مثل كتاب
1 / 25
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
السنة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة للخلال، والشريعة للآجري، وغير ذلك.
ومن جملة هؤلاء الأئمة الذين كتبوا في عقيدة السلف: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي (١)، من علماء القرن الثالث بمصر، وسمي بالطحاوي نسبة لبلدة في مصر، فكتب هذه العقيدة المختصرة النافعة المفيدة.
وكتبت عليها شروح، حوالي سبعة شروح، ولكن لا تخلو من أخطاء؛ لأن الذين ألفوها كانوا على منهج المتأخرين، فلم تخل شروحهم من ملاحظات ومخالفة لما في عقيدة الطحاوي، إلا شرحًا واحدًا فيما نعلم، وهو شرح العز بن أبي العز ﵀ (٢)، المشتهر بشرح الطحاوية، وهذا من تلاميذ ابن كثير فيما يظهر، وقد ضمن شرحه هذا منقولات من كتب شيح الإسلام ابن تيمية، ومن كتب ابن
_________
(١) الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها، برز في علم الحديث والفقه وجمع وصنف، وكان ثقة ثبتًا فقيهًا عاقلًا لم يخلف مثله، ومن نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه، توفي سنة ٣٢١هـ رحمه الله تعالى. انظر: سير أعلام النبلاء (١٥/٢٧-٣٣) .
(٢) هو الإمام العلامة صدر الدين أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الأذرعي الصالحي نشأ ﵀ في أسرة ذات نباهة وذكر وتتلمذ على الحافظ ابن كثير ونصر أقوال ابن تيمية وابن القيم ﵏ جمعيًا.
1 / 26
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
القيم، ومن كتب الأئمة، فهو شرح حافل، وكان العلماء يعتمدون عليه ويعتنون به؛ لنقاوته وصحة معلوماته، فهو مرجع عظيم من مراجع العقيدة، والمؤلف -كما ذكر- ألف هذه العقيدة على مذهب أهل السنة عمومًا، ومنهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، فهو أقدم الأئمة الأربعة وأدرك التابعين وروى عنهم.
وكذلك صاحباه أبو يوسف، ومحمد الشيباني، وأئمة المذهب الحنفي.
ذكر عقيدتهم، وأنها موافقة لمذهب أهل السنة والجماعة، وفي هذا ردٌ على المنتسبين إلى الحنفية في الوقت الحاضر أو في العصور المتأخرة، ينتسبون إلى الحنفية ويخالفون أبا حنيفة في العقيدة، فهم يمشون على مذهبه في الفقه فقط، ويخالفونه في العقيدة، فيأخذون عقيدة أهل الكلام والمنطق، وكذلك حدث في الشافعية المتأخرين منهم يخالفون الإمام الشافعي في العقيدة، وإنما ينتسبون إليه في الفقه، كذلك كثير من المالكية المتأخرين ليسوا على عقيدة الإمام مالك، لكنهم يأخذون من مذهب مالك في الفقه فقط، أما العقيدة فهم أصحاب طرق وأصحاب مذاهب متأخرة.
ففي هذه العقدية ردٌ على هؤلاء وأمثالهم ممن ينتسبون إلى الأئمة،
1 / 27
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له
ــ
ويتمذهبون بمذاهب الأئمة الأربعة، ويخالفونهم في العقيدة، كالأشاعرة: ينتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في مذهبه الأول، ويتركون ما تقرر واستقر عليه أخيرًا من مذهب أهل السنة والجماعة، فهذا انتساب غير صحيح؛ لأنهم لو كانوا على مذهب الأئمة لكانوا على عقيدتهم.
نقول، أي؛ نعتقد في توحيد الله ﷿.
والتوحيد لغة: مصدر وحّد: إذا جعل الشيء واحدًا.
وشرعًا: إفراد الله ﷾ بالعبادة، وترك عبادة ما سواه.
وأقسامه ثلاثة بالاستقراء من كتاب الله وسنة رسوله، ﷺ، وهذا ما تقرر عليه مذهب أهل السنة والجماعة، فمن زاد قسمًا رابعًا أو خامسًا فهو زيادة من عنده؛ لأن الأئمة قسّموا التوحيد إلى أقسام ثلاثة من الكتاب والسنة.
فكل آيات القرآن والأحاديث في العقيدة لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة.
الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله تعالى وإفراده بأفعاله: كالخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، وتدبير الكون، فليس هناك رب سواه ﷾، رب العالمين.
القسم الثاني: توحيد الألوهية أو توحيد العبادة؛ لأن الألوهية
1 / 28
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
معناها عبادة الله ﷿ بمحبته وخوفه ورجائه، وطاعة أمره، وترك ما نهى عنه فهو إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي شرعها لهم.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله ﷺ من الأسماء والصفات، وتنزيهه عما نزّه عنه نفسه، ونزّهه عنه رسوله ﷺ من العيوب والنقائص.
فكل الآيات التي تتحدث عن أفعال الله فإنها في توحيد الربوبية، وكل الآيات التي تتحدث عن العبادة والأمر بها والدعوة إليها فإنها في توحيد الألوهية.
وكل الآيات التي تتحدث عن الأسماء والصفات لله ﷿ فإنها في توحيد الأسماء والصفات.
وهذه الأقسام الثلاثة المطلوب منها هو توحيد الألوهية؛ لأنه هو الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وقام من أجله الجهاد في سبيل الله، حتى يُعبد الله وحده، وتُترك عبادة ما سواه.
وأما توحيد الربوبية ومنه توحيد الأسماء والصفات فلم ينكره أحد من الخلق، وذكر الله ﷾ ذلك في آيات كثيرة، ذكر أن الكفار مُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، والمدبر، فهم لا يخالفون فيه. وهذا النوع إذا اقتصر عليه الإنسان
1 / 29
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا يدخله ذلك في الإسلام؛ لأن النبي، ﷺ، قاتل الناس وهم يقرون بتوحيد الربوبية، واستحل دمائهم وأموالهم.
ولو كان توحيد الربوبية كافيًا لما قاتلهم الرسول ﵊، بل ما كان هناك حاجة إلى بعثة الرسل، فدل على أن المقصود والمطلوب هو توحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فإنه دليل عليه، وآية له، ولذلك إذا أمر الله بعبادته ذكر خلقه للسموات والأرض، وقيامه سبحانه بشؤون خلقه، برهانًا على توحيد الألوهية، وإلزامًا للكفار والمشركين، الذين يعترفون بالربوبية وينكرون الألوهية، ولما قال لهم النبي ﷺ: "قولوا: لا إله إلا الله" قالوا: (أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيء عجاب) (١) [ص: ٥]، وقال
_________
(١) عن ابن عباس ﵄ قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه النبي ﷺ وعند أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: "إني أريد منهم كلمة واحدة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية" قال: كلمة واحدة؟ قال: "كلمة واحدة" قال: "يا عم يقولوا: لا إله إلا الله" فقالوا: إلهًا واحدًا، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن: (ص والقرآن ذي الذكر) إلى قوله: (إن هذا إلا اختلاق) .
...أخرجه في المسند ١/٢٢٨ والترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة ص (رقم ٣٢٣٢) وقال: حديث حسن صحيح. وكذا صححه الشيخ أحمد شاكر رقم (٢٠٠٨) .
1 / 30
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
﷾: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [الزمر: ٤٥]، وقال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون) [الصافات: ٣٥: ٣٦]
فهم لا يريدون توحيد الألوهية، بل يريدون أن تكون الآلهة متعددة، وكلٌ يعبد ما يريد.
فيجب أن يُعلم هذا، فإن كل أصحاب الفرق الضالة الحديثة والقديمة، يركزون على توحيد الربوبية، فإنه إذا أقر العبد عندهم بأن الله هو الخالق الرازق، قالوا: هذا مسلم، وكتبوا بذلك عقائدهم، فكل عقائد المتكلمين لا تخرج عن تحقيق توحيد الربوبية والأدلة عليه.
وهذا لا يكفي، بل لابد من الألوهية، قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: ٣٦] يأمرون الناس بعبادة الله وهي توحيد الألوهية.
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: ٢٥]،. (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا) [النساء: ٣٦] .
كل الآيات تأمر بتوحيد الألوهية وتدعو إليه، وجميع الرسل دعوا إلى توحيد الألوهية وأمروا به أممهم، ونهوهم عن الشرك، هذا هو المطلوب والغاية والقصد من التوحيد، وأما توحيد الأسماء
1 / 31
ولا شيء مثله:
ــ
والصفات فأنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، على تفاوت بينهم في ذلك.
وقوله نقول: -أي يقول معشر أهل السنة والجماعة- في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له.
العقيدة والتوحيد بمعنى واحد. سواء سُميت عقيدة أو توحيدًا أو إيمانًا، فالمعنى واحد وإن اختلفت الأسماء.
وقوله: "بتوفيق الله" هذا تسليم لله ﷿، وتضرّع إلى الله، وتبرؤ من الحول والقوة، فالإنسان لا يزكي نفسه، وإنما يقول: بتوفيق الله، بمشيئة الله، بحول الله، هذا أدب العلماء ﵏. "إن الله واحد لا شريك له" هذا هو التوحيد؛ واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، وواحد في أسماءه وصفاته.
مأخوذ من قوله تعالى: (ليس كمثله شيءٌ) [الشورى: ١١]، وقوله تعالى: (ولم يكن له كفوًا أحد) [الإخلاص: ٤]، وقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادًا) [البقرة: ٢٢]، أي شبهاء ونظراء.
وقوله تعالى: (هل تعلم له سميًا) [مريم: ٦٥]، أي: مماثل يساميه ﷾، فالتمثيل والتشبيه منفيان عن الله ﷿.
لا يشبهه أحد من خلقه، وهذا هو الواجب أن نثبت ما أثبته الله لنفسه ونعتقده ولا نشبهه بأحد من خلقه، ولا نمثّله بخلقه سبحانه
1 / 32
ولا شيء يعجزه:
ــ
وتعالى، وهذا فيه رد على المشبهة الذين يعتقدون أن الله مثل خلقه، ولا يُفرقون بين الخالق والمخلوق، وهو مذهب باطل.
وفي مقابله مذهب المعطلة؛ الذين غلوا في التنزيه حتى نفوا عن الله ما أثبته من الأسماء والصفات، فرارًا من التشبيه بزعمهم.
فكلا الطائفتين غلت، المعطلة غلوا في التنزيه ونفي المماثلة، والمشبهة غلوا في الإثبات، وأهل السنة والجماعة توسّطوا؛ فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تعطيل على حد قوله تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشوى: ١١] فقوله: (ليس كمثله شيء) نفي للتشبيه، وقوله: (وهو السميع البصير) نفي للتعطيل، وهذا المذهب الذي يسير عليه أهل السنة والجماعة.
ولهذا يُقال: المعطل يعبد عدمًا، والمشبه يعبد صنمًا، والموحد يعبد إلهًا واحدًا فردًا صمدًا.
هذا إثبات لكمال قدرته:
قال تعالى: (وهو على كل شيء قدير) [المائدة: ١٢٠] .
وقال تعالى: (وكان الله على كل شيء مقتدرًا) [الكهف: ٤٥] .
وقال تعالى: (إنه كان عليمًا قديرًا) [فاطر: ٤٤] .
والقدير معناه: المبالغ في القدرة، فقدرته ﷾
1 / 33
ولا إله غيره:
ــ
لا يعجزها شيء، إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: كن فيكون.
-فهذا فيه إثبات قدرة الله ﷿، وإثبات شمولها، وعمومها لكل شيء.
-أما العبارة التي يقولها بعض المؤلفين: إنه على ما يشاء قدير. فهذه غلط؛ لأن الله لم يقيد قدرته بالمشيئة، بل قال: على كل شيء قدير، فقل ما قاله الله ﷾. إنما هذه وردت في قوله تعالى: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى: ٢٩]؛ لأن الجمع له وقت محدد في المستقبل، وهو قادر على جمعهم في ذلك الوقت، أي أهل السماوات وأهل الأرض، قال تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى: ٢٩] .
هذا هو توحيد الألوهية. لا إله، أي: لا معبود بحق غيره.
أما إذا قلت: لا معبود إلا هو؛ أو لا معبود سواه، فهذا باطل؛ لأن المعبودات كثيرة من دون الله ﷿، فإذا قلت: لا معبود إلا الله، فقد جعلت كل المعبودات هي الله، وهذا مذهب أهل وحدة الوجود، فإذا كان قائل ذلك يعتقد هذا فهو من أصحاب أهل وحدة الوجود، وأما إن كان لا يعتقد هذا، إنما يقوله تقليدًا أو سمعه من أحد، فهذا غلط، ويجب عليه تصحيح ذلك. وبعض الناس يستفتح
1 / 34
قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء:
لا يفنى ولا يبيد:
ــ
بهذا في الصلاة فيقول: ولا معبود غيرك، والله معبود بحق، وما سواه فإنه معبود بالباطل، قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) [الحج: ٦٢] .
كما دل عليه قوله تعالى: (هو الأول والآخر) [الحديد: ٣]، وقوله ﵊: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء" (١) .
لكن كلمة "قديم" لا تُطلق على الله ﷿ إلا من باب الخبر، أما من جهة التسمية فليس من أسمائه: القديم، وإنما من أسمائه: الأول. والأول ليس مثل القديم؛ لأن القديم قد يكون قبله شيء، أما الأول فليس قبله شيء، قال ﵊: "أنت الأول فليس قبلك شيء".
لكن المؤلف ﵀ احتاط فقال: "قديم بلا ابتداء"، أما لو قال: "قديم" وسكت، فهذا ليس بصحيح في المعنى.
الفناء والبيد بمعنى واحد، فالله ﷾ موصوف بالحياة الباقية الدائمة، قال تعالى: (وتوكل على الحي
_________
(١) أخرجه مسلم رقم (٢٧١٣) .
1 / 35
ولا يكون إلا ما يريد:
ــ
الذي لا يموت) [الفرقان: ٥٨] .
فالله لا يأتي عليه الفناء، قال ﷾: (كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص: ٨٨]، وقال ﷾: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) [الرحمن: ٢٦، ٢٧] .
فله البقاء ﷾، والخلق يموتون ثم يبعثون، وكانوا في الأول عدمًا ثم خلقهم الله، ثم يموتون ثم يبعثهم الله ﷿.
فالله ﷾ ليس له بداية وليس له نهاية.
هذا فيه إثبات القدر وإثبات الإرادة، فلا يكون في ملكه ولا يحصل في خلقه من الحوادث والكائنات إلا ما أراده ﷾ بالإرادة الكونية: (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون) [يس: ٨٢]، فكل خير وكل شر فهو بإرادة الله الكونية، فلا يخرج عن إرادته شيء، وهذا فيه رد على القدرية الذين ينفون القدر، ويزعمون أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه ويوجد فعل نفسه، تعالى الله عما يقولون، وهذا تعجيز لله، وأنه يكون في خلقه ما لا يريده ﷾، فهذا وصف له بالنقص، فجميع ما يكون في الكون من خير وشر فإنه بإرادته، فيخلق الخير لحكمة، ويخلق الشر لحكمة، فهو من جهة خلقه له ليس بشر؛ لأنه لحكمة عظيمة، ولغاية عظيمة، وهي الابتلاء والامتحان، وتمييز الخبيث من الطيب، والجزاء على
1 / 36
لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام:
ولا يشبه الأنام:
حي لا يموت:
ــ
الأعمال الصالحة، والجزاء على الأعمال السيئة، له الحكمة في ذلك ﷾، لم يخلق ذلك عبثًا.
فالله ﷾ لا يُحاط به، فالله أعظم من كل شيء ﷾ (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علمًا) [طه: ١١٠]، فالله سبحانه يُعلم ولكن لا يُحاط به، فالله أعظم من كل شيء، فلا يتخيله الفكر، ولا يجوز لإنسان أن يقول في الله إلا ما قاله سبحانه عن نفسه، أو قاله عنه رسوله ﵊.
هذه مثل العبارة التي مضت، ولا شيء مثله، والأنام معناه: الخلق، فالله ﷾ منزه عن مشابهة الخلق: (ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير) [الشورى: ١١]، (ولم يكن له كفوًا أحدًا) [الإخلاص: ٤] فهو سبحانه منزه عن مشابهة خلقه، وإن كان له أسماء وصفات تشترك مع أسماء وصفات الخلق في اللفظ والمعنى، لكن في الحقيقة والكيفية لا تشابه بينهما.
حياته كاملة لا يعتريها نقص ولا نوم (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) [البقرة: ٢٥٥]، (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان: ٥٨] فنفي عن نفسه السِّنة، وهي النوم الخفيف والنوم
1 / 37
قيوم لا ينام:
ــ
المستغرق (١)، ونفى عن نفسه الموت لكمال حياته سبحانه (٢) . والنوم والنعاس والموت نقص في الحياة، وهذه من صفة المخلوق، وحياة المخلوق ناقصة فهو ينام ويموت.
فالنوم كمال في حق المخلوق، نقص في حق الخالق؛ لأن المخلوق الذي لا ينام معتل الصحة، فهذا يدل على الفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، والحي والقيوم: هاتان الصفتان مأخوذتان من قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) الحي الذي له الحياة الكاملة، والقيوم صيغة مبالغة.
القيوم هو: القائم بنفسه والمقيم لغيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى شيء، وغني عن كل شيء، المقيم لغيره، كل شيء فقير إليه يحتاج إلى إقامته له ﷾، فلولا إقامة الله للسموات
_________
(١) فعن أبي موسى ﵁ قال: قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات، فقال: "إن الله ﷿ لا ينام ولا ينبغي له أن ينام....." إلخ الحديث.
...أخرجه مسلم رقم (١٧٩) .
(٢) وعن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون"
...أخرجه مسلم رقم (٢٧١٧)
1 / 38
خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة:
مميت بلا مخافة:
ــ
والأرض والمخلوقات لتدمرت وفنيت، ولكن الله يقيمها ويحفظها ويمدها بما يصلحها.
فجميع الخلق في حاجة إليه (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) [فاطر: ٤١] .
هو الذي خلق الخلق وهو ليس بحاجة إليهم، إنما خلقهم لعبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: ٥٦]، فخلقهم لا لحاجة إليهم بأن ينصروه أو ليعينوه أو ليساعدوه -سبحانه- أو يحموه، إنما خلقهم لعبادته، وهم المحتاجون للعبادة؛ لتصلهم بالله وتربطهم بربهم، فالعبادة صلة بين العبد وربه، فتقربه من الله، ويحصل بها من الله على الثواب والجزاء، فالعبادة حاجة للخلق وليست بحاجة لله ﷿ (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعًا فإن الله لغني حميد) [إبراهيم: ٨] (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) [الزمر: ٧] . وقوله: (رازق بلا مؤنة) أي هو القائم بأرزاق عباده ولا ينقص ذلك مما عنده.
أي: يميت الأحياء إذا كملت آجالهم، لا لأنه خائف منهم ولكن ذلك لحكمته ﷾؛ لأن الحياة في الدنيا لها نهاية، وأما الآخرة فليس للحياة فيها نهاية، فإماتتهم ليس خوفًا منهم أو ليستريح منهم، ولو كانوا يكفرون به فإنه لا يتضرر بكفرهم، وإنما
1 / 39
باعث بلا مشقة:
ــ
يضرون أنفسهم، لكنه هو يفرح بتوبتهم؛ لأنه يحب -ويريد- لهم الخير، فهو يفرح بتوبتهم وهو ليس في حاجة إليهم، إنما ذلك لطفه وإحسانه.
هذا من عجائب قدرته، أنه يميت الخلق ويفنيهم حتى يتلاشوا ويصيروا ترابًا ورفاتًا. حتى يقول الجاهل: لا يمكن أن يعودوا ولكن الله ﷿ يبعثهم من جديد ويعيد خلقهم من جديد، وليس عليه في ذلك مشقة، كما قال ﷾: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) [لقمان: ٢٨] . (وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) [الروم: ٢٧] .
فالمشركون أنكروا البعث استبعادًا منهم كما ذكر الله ذلك عنهم: (قال من يحي العظام وهي رميم) [يس: ٧٨]، قال ﷾: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) [يس: ٧٩] .
أول مرة، ليس لها وجود أصلًا، فأوجدها من العدم ﷾، فالذي خلقها من العدم: أليس بقادر على إعادتها من باب أولى؟ هذا في نظر العقول، وإلا فإن الله سبحانه لا يُقاس بخلقه، إنما ذلك لضرب المثل: (وله المثل الأعلى) [الروم: ٢٧] .
1 / 40
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فهذا ردٌ على هذا الجاحد، قال تعالى: (ونسي خلقه) [يس: ٧٨]، نسي أنه في الأول كان لا شيء ولا وجود له (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا) [الإنسان: ١]، نسي أن الله أوجده من عدم.
فهو يجمع هذه العظام المتفرقة، واللحوم الممزقة، والتراب الذي تحلل، وهذه الشعور المتبعثرة يعيدها كما كانت، (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا انتم تخرجون) [الروم: ٢٥] (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) [الزمر: ٦٨] وهي نفخة البعث.
فالأولى نفخة الصعق والموت، والثانية نفخة البعث.
(ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث) [يس: ٥١] أي: القبور: (إلى ربهم ينسلون * قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) [يس: ٥١: ٥٢] .
فالله قادر على كل شيء، وهذا رد على الكفار الذين يُعجزون الله عن إحياء الموتى وإعادتهم كما كانوا.
قال تعالى: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين
1 / 41
ما زال بصفاته قديمًا قبل خلقه:
ــ
على أن نسوي بنانه) [القيامة: ٣، ٤] . (يوم يخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون) [المعارج: ٤٣] .
هذه قدرة الله وإرادته ومشيئته، لا يعجزه شيء، لكن بعض المخلوقين يقيس الله بخلقه فيستبعد البعث؛ لأنه في نظره مستحيل، ولا ينظر إلى قدرة الله، ولم يقدر الله حق قدره، وهذا من الجهل بالله ﷿.
تقدم قول المصنف: "قديم بلا ابتداء"، فهو ﷾ ليس قبله شيء، ومعنى ذلك: أنه متصف بصفات الكمال، فصفاته تكون أزلًا وأبدًا، فكما أنه أول بلا بداية، فكذلك صفاته، فإنها تكون تابعة له سبحانه، فهي أولية بأولية الله ﷾، فلم يكن أولًا بلا صفات ثم حدثت له الصفات بعد ذلك كما يقوله أهل الضلال، الذين يقولون: لم تكن له صفات في الأزل ثم كانت له صفات؛ لئلا يلزم على ذلك تعدد الآلهة -كما يزعمون- أو تعدد القدماء، وتكون الأسماء والصفات شريكة لله في أوليته. فنقول: يا سبحان الله! هذا يلزم عليه أن يكون الله ناقصًا -تعالى الله- في فترة، ثم حدثت له الصفات وكمل بها، تعالى عما يقولون، ولا يلزم من قدم الصفات قدم الأرباب؛ لأن الصفات ليست شيئًا غير الموصوف في الخارج، إنما هي معان قائمة بالموصوف، ليست شيئًا مستقلًا
1 / 42